الفاشية الجديدة في أميركا وأوروبا
موقع قناة الميادين-
موفق محادين:
تظهر الفاشية إما عند دخول برجوازية ما أزمة بنيوية مستعصية وإما استباقًا لثورة اجتماعية حقيقية، كما حدث في إيطاليا فترة موسوليني عام 1929، وفي ألمانيا في حقبة هتلر عام 1933.
الفاشية أو فاشست، كلمة لاتينية قديمة تعني حزمة عصي تجمعها حربة أو فأس، وهي ليست تعبيراً عن حقبة منتهية بل تعبير سياسي–اجتماعي–أيديولوجي عن برجوازية مأزومة في المرحلة الإمبريالية.
وتعبر في الوقت نفسه عن أكثر تيارات الرأسمالية عنصرية ويمينية في إطار دكتاتوري إرهابي تغذي نفسها بتصورات شعبوية من الأجنحة اليمينية للطبقة الوسطى. ويشار هنا إلى أن من الجذور العنصرية للفاشية، كتابات الإيطالي جيوفاني جنتليه، والفرنسي جوبينو الذي عاصر نابليون الثالث (النسخة الكوميدية من نابليون الأول) والألماني تشمبرلين، وعدد من الإشارات الأولية في رباعية لوكاتش (تحطيم العقل) التي كشفت الفلسفة الألمانية لحظة البرجوازية الألمانية المأزومة في القرن التاسع عشر.
وتظهر الفاشية إما عند دخول برجوازية ما أزمة بنيوية مستعصية وإما استباقًا لثورة اجتماعية حقيقية، كما حدث في إيطاليا فترة موسوليني عام 1929، وفي ألمانيا في حقبة هتلر عام 1933، وكان كلاهما من قوى (دول المحور) الرأسمالية المهزومة في الحرب العالمية الأولى التي فاز فيها معسكر آخر من الرأسماليات، هو محور الحلفاء من الإنجليز والفرنسيين وحلفائهما وحوّلوا العالم في ضوء تلك النتائج إلى مستعمرات لهم باسم الانتداب والوصاية الدولية.
من أبرز المفكرين الذين شخصوا الفاشية: الإيطالي الاشتراكي، تولياتي (محاضرات في الفاشية) والبلغاري الاشتراكي، ديمتروف، وعدد من أركان التروتسكية (الأممية الرابعة). أما عربياً، فيشار إلى السوري الاشتراكي، سليم خياطة (دراسة في صعود الفاشية).
ولا بد هنا من الاستدراكات التالية في ضوء ما أشاعته المطابخ الرأسمالية، وخلطت فيه عمداً بين الفاشية والدكتاتورية والاشتراكية بعنوان أيديولوجي لا قيمة علمية ولا معرفية له، وهو (الشمولية)، خصوصاً عند المفكرة اليهودية الألمانية، حنة آرندت، فالدكتاتورية (البرجوازية) جزء من أدوات الفاشية، ليست الفاشية بحد ذاتها، وفي حين تعبّر الفاشية وشكلها الدكتاتوري عن مصالح البرجوازيات المأزومة وعن العلاقات البرجوازية لعملية الإنتاج، فإن الاشتراكية تعبّر عن قوى الإنتاج، وخصوصاً العمال والفلاحين ودكتاتورية الشغيلة في مواجهة البرجوازية، ومنعها من إعادة إنتاج نفسه سياسياً واقتصادياً.
الفاشية الجديدة اليوم أو الهمجيات العليا شمالاً
ابتداءً، المقصود بالفاشية الجديدة، الفاشية القديمة بكل سماتها المعروفة فضلاً عن المظاهر الجديدة الناجمة عن تبعات الأزمة البنيوية الجديدة للرأسمالية المعولمة، فلا يمكن مقاربة رأسمالية هذه الأيام باستخدام المقاربات القديمة وحدها، انطلاقاً من المعطيات التالية:
1- الثورة التقنية والمعلوماتية وما أدت إليه من إخراج الملايين من سوق العمل ومن تضارب بل تناقض في قلب النظام الرأسمالي، فالربح يتحقق من قوة العمل لا من التبادل المعولم، ومن جهة ثانية فإن هذه القوى في تناقص بسبب الثورة التقنية ومعادلة التركيب العضوي الجديد لرأس المال (المتحول المتناقص ورأس المال الثابت).
2- خلل العلاقة بين المركز والمحيط مع صعود (محيط) صناعي هائل مثل الصين.
أما تبعات ذلك، فأبرزها اضطراب السرديات الكبرى ونهاية بعضها، وهي السرديات التي رافقت الثورة الصناعية الكبرى، ودولتها القومية (دولة وستفاليا) وكذلك مجتمعات العقد الاجتماعي بكل مرجعياتها. فنحن اليوم، كما كتب توفلر في (تحوّل السلطة) وكما كتب آلان تورين في (ما بعد المجتمع الصناعي)، نعيش كذلك ما بعد العقل الحداثوي (ملاحظات مدرسة فرانكفورت) وما بعد الإنسان من خلال عالم الروبوتات والهندسة الجينية واللعب بالدماغ وكذلك المثلية السياسية.
أيضاً، ثمة مظاهر للفاشية الجديدة جنوباً، من دون أن يعني ذلك أننا أمام فاشية جنوبية نظراً إلى تخلف علاقات الإنتاج الرأسمالية نفسها، وتتجلى المظاهر المذكورة بصورة كوميدية سوداء وإجرامية في الوقت نفسه، ففي مقابل المظاهر الفاشية عند الهمجيات الإمبريالية العليا، فإن هذه المظاهر جنوباً تترافق وما قبل الدولة، وما قبل المجتمع، وما قبل العقل، الطوائف والعشائر والعقل المستقيل، وهذا ما أدّت إليه فوضى العشرية السوداء من تفسّخ الدولة بدلاً من تطويرها فكانت النتيجة شرقاً بلا دول بلا سيادة، وغرائز طائفية مسلحة تدار بالريموت كونترول من أقلام الاستخبارات الأطلسية والرجعية التكفيرية والعثمانية الجديدة.
تعبيرات الفاشية وأدواتها
1- المالثوسية الجديدة قياساً بمالثوس المؤسس (1766-1834) ومتوالياته حول تكاثر الناس والغذاء، المتوالية الحسابية (تكاثر الغذاء) في مقابل المتوالية الهندسية (تكاثر الناس)، وكان من رأيه أن الحروب والأوبئة والكوارث الطبيعية والصناعية المبرمجة ضرورية للعالم الرأسمالي. وثمة دوائر إمبريالية اليوم تتحدث عن (المليار الذهبي) من البشر في غضون العقود التالية والباقي، غوييم، بهائم بالمعنى التوراتي، بشر فائضون عن الحاجة يمكن إبادتهم بالحرب أو بالأوبئة أو فرض المثلية على مناطقهم.
2- الداروينية الاجتماعية الجديدة، التي حوّلت النقاش حول فكرة التطور إلى توظيف عنصري لإنتاج غابة رأسمالية جديدة اسمها (السوق الحيوي) ويشار هنا إلى أفكار كل من: ميلتون فريدمان من مدرسة شيكاغو في كتابه (الرأسمالية والحرية)، وفون هايك من المدرسة النمساوية في كتابه (دستور الحرية) وقد أيّدا الانقلاب الفاشي في تشيلي وحظيا بجائزة نوبل في الوقت نفسه.
3- وبالمثل كتاب هنتنغتون (صراع الحضارات)، وهو العنوان الخطأ لفكرته عما سمّاه صراع المذاهب والهويات، حيث ركز على بناء حلف مذهبي لوثري سياسي اقتصادي ضد روسيا (السلافية الأرثوذكسية) والصين (الكونفوشية) وضد الشرق بكل تياراته ومذاهبه على قاعدة قول شاعر الإمبريالية البريطانية كيبلنغ (الشرق شرق والغرب غرب ولن يلتقيا).
أدوات الفاشية الجديدة
1- الحروب وعسكرة العولمة، سواءً انسجاماً مع متطلبات وسوق الأسلحة المرتبط بالمجمعات الصناعية الحربية للمتروبولات الإمبريالية في الولايات المتحدة الأميركية وغيرها، أو لمواجهة خصومها الصاعدين أمثال روسيا الأوراسية والصين (طريق الحزام والحرير) وما يستدعيه ذلك من توسيع للناتو وبناء مجاميع من القواعد العسكرية باسم الأحلاف الإقليمية في جهات الأرض الأربع.
2- أيديولوجيا الإزاحة وخلط التناقضات والأولويات، من إزاحة الأزمة البنيوية الرأسمالية نحو العمالة الوافدة هنا وهناك، إلى إزاحة التناقضات الرئيسة واستبدالها بتعارضات ثانوية.
3- الأوبئة والجراثيم عبر بناء عشرات المختبرات الجرثومية في الدول التابعة، مثل أوكرانيا ثم نشرها بأشكال مختلفة فضحها كتاب (جيش الليل) الذي رصد كل الجرائم العالمية لأقلام الاستخبارات الأميركية والبريطانية، ومنها كيف استهدف السكر والتبغ في كوبا. وتعد سينما هوليوود الأميركية نفسها أهم مصدر لهذه الجرائم مثل أفلام: الفئران العارية، عيون الظلام، التفشي، الجحيم، تراجع، إيلاي.. وغيرها.
4- تحطيم الإنسان والانحطاط بالعقل، ففي إطار استراتيجية (المليار الذهبي) تحطيم سردية الإنسان لمصلحة حال من حالات ما بعد الحداثة (ما بعد الإنسان) في صورة اللعب بالإنسان ودماغه وهندسته، لا في صورة الارتقاء به. وكما لاحظ ماركس في مخطوطات 1844، فالتشيؤ والاغتراب يزداد عند الإنسان كلما زادت قدرة الرأسمالية على تجديد نفسها ودمجت البشر في ماكينتها الجبارة (بضاعة – إنسان – بضاعة).
ومثلما قدمت السينما الأميركية أيضاً مصادر مهمة تفضح حرب الجراثيم الأميركية، فإن العالم الرأسمالي نفسه قدم ويقدم عشرات الأمثلة على حرب الرأسمالية على البشر، ومن ذلك ما كتبه مفكرون وأدباء من عالم الأنجلو سكسون أمثال ماركوز في (الإنسان ذو البعد الواحد) وهكسلي في (العالم الطريف) وأورويل في روايته (1984)، ومثل ذلك سينما هوليود وأفلامها: المانح أو المعطي، حالة توازن، جزيرة شترن، المصح، وجميعها من إخراج وبطولة مشاهير السينما الأميركية أمثال بن كنغسلي وسكورسيزي.
ومن المظاهر الأخرى لحرب الرأسمالية على الإنسان:
– الإنسان المنقرض عبر المثلية والأوبئة وحروب الإبادة.
– الإنسان المغترب عن نفسه وجسده، كما لاحظ ميرلوبونتي والروائي الأميركي فوكنر والمفكر الفرنسي باشلار الذي قارن كما فوكنر بين الشمال الرأسمالي والمكان البارد المعادي للبشر.
– تحويل الإنسان إلى قرد مذعور على غرار قرود البونوبو، وقد انقرضت بسبب الخوف الدائم، والزرافات قصيرة العنق غير القادرة على المقاومة والتكيف.
– شيطنة العلم وتفريغه من أي أبعاد أخلاقية وجمالية وصولاً إلى فرانكشتاين المكتمل، والتركيز في هذا الإطار على المادية الوضعية المبتذلة الميكانيكية.