الغذاء العالمي وتزايد الأسعار.. روسيا أقل المتضررين
موقع العهد الإخباري-
د. علي دربج:
من المعلوم انه منذ اللحظة الاولى لانطلاقة العملية العسكرية الروسية نحو اوكرانيا حصلت اضطرابات كبيرة في سوق الطاقة العالمي، أدت إلى زيادات غير مسبوقة في أسعار الغاز والوقود في عدد من البلدان، لكن ما يخشاه خبراء الاغذية، هو نشوب ازمة غذاء عالمية ستصيب شظاياها اغلبية الدول بما فيها دول اوروبا، وان كان ضررها سيتركز اكثر، في المناطق والدول متوسطة الدخل، والفقيرة منها.
بالنظر إلى الأدوار الهائلة لروسيا وأوكرانيا في توفير الغذاء للعالم ـــ لا سيما القمح ـــ فإن عدم الاستقرار في إنتاج وتصدير المواد الغذائية قد يكون له عواقب ستتجاوز مسرح العمليات العسكرية.
ما هو ارتباط هذه العملية العسكرية بقضية الغذاء والجوع؟
تعتمد العشرات من البلدان في جميع أنحاء الشرق الأوسط وجنوب آسيا وشمال إفريقيا التي تعاني بالفعل من انعدام الأمن الغذائي، على إمدادات روسيا وأوكرانيا الوفيرة من القمح والذرة والزيوت النباتية. فالصراع بحسب برنامج الغذاء العالمي (WFP) التابع للأمم المتحدة قد يؤدي إلى ارتفاع أسعار المواد الغذائية وزيادة الجوع في العالم.
حتى قبل الحرب، كانت أسعار الغذاء العالمية عند أعلى مستوياتها منذ عام 2011، وذلك نتيجة للظروف المناخية المتقلبة مثل الجفاف والأمطار الغزيرة، فضلاً عن الاضطرابات الأوسع في سلسلة التوريد التي أحدثها فيروس Covid-19. ومع وجود 855 مليون شخص يعانون بالفعل من انعدام الأمن الغذائي (الرقم يشمل اميركا)، تأتي العملية العسكرية الروسية (التي ساهم الغرب في تأجيجها بعدما ارتضت كييف لعب دور السكين الاطلسية في خاصرة موسكو) في لحظة مليئة بالتحديات بالنسبة للجوع العالمي.
ما حجم مساهمة روسيا وأوكرانيا في توفير الغذاء العالمي؟
للتعرف على مدى أهمية مزارعي روسيا وأوكرانيا لبقية العالم، علينا أن نفهم بداية مقدار حجم ما تصدره كل دولة.
تعتبر أوكرانيا وروسيا أكبر مصدري الحبوب والزيوت النباتية الرئيسية، استنادا لبيانات تصدير الأغذية من مركز التجارة الدولي في عام 2020. ويتصدر البلدان غالبية صادرات زيت بذور عباد الشمس في العالم.
وإذ تعدّ روسيا أكبر مصدر للقمح في العالم مجتمعة، فإنها تتشارك مع أوكرانيا مسؤولية حوالي 26 بالمائة من صادرات القمح العالمية في عام 2020.
سجلت أسعار القمح والذرة ازديادا ملحوظا قبل الحرب. لكن في 24 شباط/ فبراير الحالي، وغداة بدء العملية العسكرية الروسية، قفزت العقود الآجلة للقمح في شيكاغو مثلا، إلى أعلى مستوى لها منذ بداية العام (وقد عدّ ذلك مؤشرا على التقلبات التي يمكن أن تضخها الحرب في أسواق الغذاء العالمية والتي ستصيب أميركا حتما.. فطابخ السُم آكله).
ما هي الدول الأكثر تأثرا بإمدادات الغذاء الروسية ــ الاوكرانية؟
تُصنف روسيا واوكرانيا من موردي الأغذية المهمين للبلدان المنخفضة والمتوسطة الدخل التي يعاني فيها بالفعل عشرات الملايين من الأشخاص من انعدام الأمن الغذائي. وحاليا، وكون الأسعار آخذة في الارتفاع بسبب الحرب التي قد يؤدي الى استمرارها الى زيادات اكثر، فمن الطبيعي ان نشهد حالة من عدم الاستقرار الغذائي والجوع، ليس فقط في منطقة الحرب، ولكن في جميع أنحاء العالم.
اما كيف؟ فلنقرأ معا.
تعتمد مصر وتركيا، على الواردات الروسية/ الأوكرانية مجتمعة في 70 بالمائة من إمدادات القمح. بالمقابل ذهب ما مقداره 95 بالمائة من صادرات القمح الأوكرانية إلى آسيا (بما في ذلك الشرق الأوسط) أو إفريقيا في عام 2020.
وإذا توقفنا في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا نجد ان كلا من: اليمن وليبيا ولبنان، تعتمد على أوكرانيا للحصول على نسبة عالية من إمداداتها من القمح.
إضافة الى ذلك، فإن بلدان جنوب وجنوب شرق آسيا، مثل إندونيسيا وبنغلاديش، تعتمد أيضا بشكل كبير على القمح من المنطقة (أي روسيا وأوكرانيا). كانت دول مثل مصر وتركيا وبنغلاديش وإندونيسيا وباكستان، من أكبر مستوردي القمح الأوكراني في عام 2020 .
في حين تعد روسيا مصدرًا لنسبة كبيرة من القمح للعديد من دول إفريقيا جنوب الصحراء، بما في ذلك نيجيريا والسودان.
ما يقض مضاجع هذه البلدان اعلاه، هو انه من المرجح أن يؤدي تعطيل هذه الصادرات إلى زيادة انعدام الأمن الغذائي الذي تعاني منه هذه الدول واقعا. وفقًا لبرنامج الأغذية العالمي، لا يحصل ما يقرب من نصف سكان اليمن، البالغ عددهم 30 مليون نسمة على ما يكفي من الغذاء (بسبب الحصار الوحشي الجائر الذي تفرضه السعودية والإمارات على الشعب اليمني).
وفي بنغلاديش، لا يحصل 29 مليون شخص على ما يكفي من الغذاء، زد على ذلك ان أكثر من 30 بالمائة، من الأطفال دون سن الخامسة، يعانون هناك، من سوء التغذية المزمن. إضافة الى ذلك، يعاني 26 مليون شخص في إندونيسيا من عدم كفاية استهلاك الغذاء، وبالمثل هناك في مصر 10 ملايين شخص. في حين أن أكثر من ربع سكان نيجيريا ـ55 مليون شخص ـ لا يستهلكون كميات كافية من الغذاء.
اما في ليبيا، فسيؤدي انقطاع الإمدادات (من القمح) وارتفاع الأسعار إلى زيادة انعدام الأمن الغذائي الحالي من خلال تقنين كمية الطعام الصغيرة التي يمكنهم تأمينها عليه بشقّ الانفس، كما ستزيد فئة الأشخاص الذين يعانون من انعدام الأمن الغذائي.
ونصل الى لبنان الذي دمرت فيه صوامع القمح بعد انفجار ميناء بيروت قبل عامين. فهو يعتمد على أوكرانيا للحصول على أكثر من نصف قمحه، ولكن بعد نشوب الحرب، بدأ يسعى إلى إبرام صفقات استيراد بديلة، تفاديا لنشوء أزمة رغيف لا تستطيع الحكومة أن تتحملها.
وبناء على هذه الارقام، فإن ارتفاع أسعار القمح في هذه البلدان (المذكورة) التي تعاني جديا من مستويات عالية من انعدام الأمن الغذائي، يمكن أن يكون مدمرًا لها بشكل خاص.
ماذا عن صناعة الاسمدة؟
تعدّ روسيا أيضًا أكبر مصدر للأسمدة في العالم، وقد ساهمت ارتفاعات أسعار الأسمدة قبل الصراع وفقا لخبراء منظمة الأمم المتحدة للأغذية والزراعة (الفاو)، في ارتفاع أسعار المواد الغذائية. ليس هذا فحسب سيؤدي المزيد من الاضطراب في إنتاج الأسمدة أو تصديرها إلى إلحاق الضرر بالزراعة في أوروبا، مما قد يساهم في ارتفاع أسعار المواد الغذائية في جميع أنحاء العالم.
ومع ذلك، فإن الحرب غيرت كل شيء. فالأعمال الحربية العسكرية، ستنعكس نقصا كبيرا في الوقود والأسمدة، وبالتالي سيكون هناك نقص بالتأكيد في منح القروض، وكذلك سيقل عدد مشغلي الآلات نتيجة الخسائر العسكرية.
صحيح انه من غير المرجح أن يتأثر المزارعون الروس بشكل مباشر بالحرب، لكن صادرات البلاد الى الغرب قد تتأثر بطرق أخرى، لا سيما إذ علمنا ان المصدرين الرئيسيين للقمح روسيا ورومانيا واوكرانيا، يشحنون الحبوب من موانئ البحر الأسود، والتي قد تواجه مشاكل (او ربما حالات منع او احتجاز)، ففي أوكرانيا اغلقت الموانئ بالفعل وتضررت السفن من جراء الهجمات.
المقلق في الامر، أن تفاقم أزمة الغذاء او تراجعها، يعتمد في الواقع على تقدم الحرب والعقوبات المالية المفروضة على روسيا، من هنا، فإنه يتعذر حاليا، توقع كيفية تأثير الصراع الجاري بالضبط على أسعار المواد الغذائية والإمدادات العالمية.
في المحصلة، بالرغم من كل هذا التكالب على روسيا، فإن الغرب يعي ان الوضع لا يتحمل أي حماقة من قبيل فرض عقوبات على صادرات القمح من روسيا. غير أن القلق الحقيقي يكمن، إذا قررت روسيا وقف صادرات القمح في حال أدت العقوبات المالية عليها، الى التسبب بالمصاعب الاقتصادية للسكان الروس، عندها يمكن لبوتين أن يقول فقط إننا سنقوم بخفض الصادرات بقدر ما يمكننا إبقاء أسعار المواد الغذائية منخفضة في روسيا. حينها سيكون العالم على شفير كارثة لن يكون الغرب الصانع لهذه الحرب بمنأى عنها.