العنف السياسي.. قدر أم خيار؟
موقع إنباء الإخباري ـ
محمد أحمد السيد قاسم:
كنا قد ناقشنا معكم موضوعاً متعلقاً بالعنف التربوي أو العف اللاسياسي في البيئات التربوية المختلفة، وخاصة في إطار الأسرة والمؤسسة التربوية التي تعنى بالناشئة وبالخصوص المدرسة.
حينها، وفي المتن، صدر وعد بمعالجة موضوعين اثنين لاحقاً: العنف السياسي أو الجماعي، والقصاص، لتعلقهما بالموضوع الأساس.
نحاول الآن أن نفي جزئياً بالوعد:
لا شك، وكما أوردنا سابقاً في إطار التعريف بالعنف، بأنه إظهار للقوة أو استعمالها أو التهديد بها بغاية القهر للإتيان بعمل أو الامتناع عن عمل، ما يقتضي القدرة على إلحاق الأذى بالآخر… سواء أكان الأول فرداً أو جماعة، والآخر كذلك.
وبما أن المقصود الآن بالنقاش هو العنف السياسي، وبما أن السياسة هي فنّ القيادة، وبما أن القيادة لا تكون إلا على جماعة، يتوجه بحثنا بالضرورة نحو الجماعة، عشيرةً أو قبيلة، عرقاً أو طائفة، شعباً أو دولة..
أولاً ـ حول تشكّل الجماعة: من البديهي جداً أن تكون الأسرة أو العائلة النواتية أساس تشكل الجماعة البشرية، لأنها تقوم على الأساس البيولوجي، فلولا الوالدان لما كانت أسرة ولا عائلة.. ثم تنشأ عائلات قريبة فتتكون العائلة الممتدة، وتتكامل أدوارها في حلّها وترحالها، وكلما زاد العدد صارت القدرة على مواجهة الأخطار الطبيعية أكبر، لكنها احتاجت إلى موارد أكثر لسد الحاجات، التي تكون وفيرة في مكان ما أو زمان ما، أو نادرة في مكان أو في زمان آخرين.. لذا، فالعائلة الممتدة التي أضحت جماعة (عشيرة أو قبيلة..) تلازمت خوفاً وسارت راحلة إلى حيث الموارد والبيئة الصالحة في مجتمع البداوة وأثناء التنقل، أو في حال الندرة القاسية تلازمت إخافةً للسيطرة على ما عند الآخرين.. أو في حال الاستقرار والتحضر، وسّعت مساحة الأرض التي تسيطر عليها، جاعلةً لها حدوداً…
هنا يأتي الخروج من الأساس البيولوجي البسيط، فقامت قرابات بيولوجية أخرى عبر الزيجات الخارجية والتحالفات لإيجاد نوع من التوازن بين الخوف والإخافة، بين القدرة على الهجوم والتهديد والقدرة على الدفاع والردّ، وأول الدفاع دفعٌ للخطر أو الأذى المرتقب.
ثانياً ـ حول تشكّل الكيان السياسي: لمّا كبرت الجماعة البشرية وصار اللقط والترحال عبئاً عليها وخطراً على وجودها، واستقرت وتحضّرت، أي جعلت لنفسها حاضرة، والحاضرة هي المدينة، أي جعلت لنفسها سكناً دائماً، كان لا بد من الاستفادة من عناصر أخرى، غير البشرية، حين رسم الحدود.. إذ أن عصبية ابن خلدون لا تكفي وحدها لقيام “الدولة” مع أنها ضرورية جداً، فكانت الاستفادة من العوامل الطبيعية، حيث رأينا أن الخوف أساس في تشكّل الجماعة، والخوف نفسه أساس في رسم الحدود أيضاً. لذا نجد أن الصحراء شكّلت حداً، والنهر العميق والعريض شكّل حداً وقمم الجبال شكّلت حداً، وهكذا شكلت مجموعة العوائق الجغرافية أساس حدود الأرض. وفي الداخل نشأت توازنات من فعل الخوف نفسه، وسيطرات وقيادة وأنماط حياة، واجتمعت ثلاثة عناصر (شعب وأرض ونظام) لتشكل الدولة والكيان.
ثالثاً ـ في تطور مفهوم الكيان السياسي: إن التطور الذي شهدته الجماعات البشرية مستفيدة من موارد أكبر أو من أعداد أكثر أو من طبيعة أكثر غنىً وقابلية، ومراكمة المعرفة وتطور نظم العيش، جعلت من العوائق الطبيعية (البحار الأنهار، الجبال، الصحارى) ذات البعد الدفاعي غير فعّالة. هذه العوائق صار يمكن اجتيازها، وفائض القوة يمكن استخدامه، ونشأ ما نسميه “المصلحة القومية خارج الحدود”، وهو الرغبة بالاستزادة من القوة والموارد مما عند الآخرين، فلم يعد من الضروري أن تتحرك كل الجماعة طلباً للموارد، بل جهزت الجيوش للقيام بالأمر، وصارت المستعمرات، ونشأت الامبراطوريات، ومنها ما لا تغيب عنها الشمس.
بالخلاصة، حين نستعرض أساس تشكل الدولة/ الأمة في الفكر الأوروبي نجد ثلاث نظريات تقوم على ثلاثة أبعاد:
أ ـ البعد الجغرافي، وقد أعطاه الألمان الأولوية، إذ لم تتمكن ألمانيا من أن تكون دولة استعمارية.
ب ـ البعد الاقتصادي، وقد أعطاه الانكليز الأولوية، لأن انكلترا هي الدولة الاستعمارية الأكبر في العالم.
ج ـ البعد الثقافي، وقد أعطاه الفرنسيون الأولوية لأن فرنسا لم تتمكن من مجاراة إنكلترا اقتصادياً واستعمارياً.
أين يكون العنف السياسي؟
إن تجاوز أي من الأبعاد الثلاثة يستدعي بالضرورة عنفاً سياسياً. كيف يمكن احتلال جغرافيا أخرى دون عنف وقهر؟
كل الاجتياحات والاحتلالات رافقتها المجازر والإبادات وتدمير الحرث والنسل بهدف إحداث تغييرات جغرافية وضم مقاطعات وأراضٍ جديدة تُحكم مباشرة من قبل المستعمر. ونحن نشهد اليوم شكلاً بشعاً، بل هو الأبشع، في فلسطين، بحيث يكون الاستيطان والاغتصاب بدل الاستعمار، وإحداث تغييرات قهرية على مختلف الصعد.
ثم كيف تُنهب الثروات دون عنف سياسي؟ الثروات الأفريقية والآسيوية لطالما نُهبت قهراً وقتلاً وتجويعاً وإرهاقاً بالضرائب والإتاوات، والممرات المائية ومناجم الفحم وو…
أما ثقافياً، فإن فرض نظم مناسبة للمستعمر تساعده على نهب الثروة وكأنها بإرادة وطنية، ثم تغيير النظم، ثم تغيير الجغرافيا وتغيير الديموغرافية، كلها أدوات سيطرة وقهر وعنف سياسي.
ولطالما نظّر الاستعمار لنفسه ليعطي نفسه الذريعة والمبرر الأخلاقي، فالمحافظون الجدد في الولايات المتحدة، وفي ثمانينيات القرن الماضي، أخرجوا دراساتٍ وأبحاثاً مفادها ما يلي: إذا احتسبنا الثروة القومية لبلد ما، ودرسنا مؤشرات النمو لذلك البلد، (صحة، تعليم، طاقة، معلوماتية، بيئة…) لحصلنا على رقمين. ثم قمنا بالقسمة، الصورة: علامة النمو والمخرج: علامة الثروة. النتيجة أن دولة كالسعودية نموها قليل وثروتها كبيرة، يعني الحاصل دون الواحد، وهي دولة لا تعرف كيف تنفق ثروتها، ويجب أن “يساعدها” الأميركيون على إنفاق ثروتها بمنظور متطور، وهكذا كل الدول الإسلامية، وبالخصوص العربية منها. فالعرب لا يقفون على نفس درجة التطور الإنساني كالغربيين. هذا تصنيف عنصري عرقي حديث ومبرر بالأرقام.
هذا هو العنف السياسي الخارجي. لكن هناك عنفاً سياسياً داخلياً، سواء أكان طبيعياً أم لا.
بعد الشعب والأرض كان هناك النظام كي تتشكل الدولة، والنظام كالحياة متحرك يلزمه التطوير، لكن التوازنات التي ينبغي أن تتغيروفق متغيرات ديموغرافية واقتصادية وسياسية أخرى، وفي حال عدم وجود المرونة الديموقراطية للإصلاح، تصطدم إرادة حاكم بالبقاءعلى ما هو عليه بالقانون الطبيعي للتطور، فتتمظهر قمعاً وسجناً أو قتلاً وسحقاً، وقد تكون إرادة التغيير خارجية، أو أقله بنسب وكميات وكيفيات يحددها الخارج وليس الظروف الموضوعية فيصبح الثائر خائناً وتتضح الظروف المؤاتية لحروب لا تنتهي والعنف السياسي الخارجي ينبغي أن يواجه، والدفاع حق مقدس كفلته كل الشرائع والقوانين. نحن هنا أمام عنف مقدس، لا يمكن التخلي عنه…
كأن العنف السياسي قدر للبشرية لا يمكن الخروج عنه!!؟؟
لا حتماً. ألم نرَ نموذجاً غير قهري في التاريخ البشري؟
إنه نموذج “لا إكراه في الدين” حيث اجتمع الناس على الفكرة والاعتقاد وليس على البيولوجيا والخوف. التموضع على أساس “أكرمكم عند الله أتقاكم”، و “لا فضل لعربي على عجمي..” وحيث الكرامة إنسانية، “ولقد كرمنا بني آدم”…
مع أن القتل الذي كان في تاريخنا مشيناً سواء حين ما أسمي “الفتح” أو في اغتصاب السلطة.
توسعت دولة الإسلام في عهد رسول الله من كيلومترين مربعين إلى ما يزيد عن مليوني كيلومتر مربع وعدد الضحايا قليل، بمن فيهم شهداء وقتلى حروب دفاعية، وحين صار فتح مكة قتل ستة من المشركين، اعتبر الرسول (ص) قتلهم خطأ ودفع ديّتهم.
أما في الفتح المزعوم فكانت البداوة المتأسلمة هي الفاتح، لا قيم العدل والخير والسلام، واليوم ماذا تفعل البداوة المتأسلمة؟ تعيد الكرّة بطريقة أبشع بكثير.