العناية الفائقة لمن يمتلك 1000 دولار
صحيفة الاخبار اللبنانية ـ هيثم الموسوي:
كل مريض بحالة صحية حرجة، ويحتاج الى خدمات العناية الفائقة، ولا سيما اذا كان طفلا، عليه الّا يقترب من مستشفى رفيق الحريري الحكومي في بيروت، الا اذا كان في حوزته الف دولار عدا ونقدا. هذا ما قررته ادارة المستشفى الجديدة، وسوّقت له بوصفه «اصلاحا». بمعنى ما، قررت ان الفقراء غير المضمونين، وهي حال اكثرية المقيمين في لبنان، لا يستحقون الحصول على الخدمات الاستشفائية الطارئة والملحة، فليموتوا على باب مستشفى الدولة.
هذا القرار اتخذه رئيس مجلس الادارة المدير العام للمستشفى فراس الابيض عند تسلمه مهمّاته في شهر أيار الماضي، ونتجت منه مآسي كثيرة مع الوقت، ولا سيما ان الاطفال اصبحوا هم المستهدفين به على نحو خاص، لان عدد الاسرّة في قسم العناية الفائقة الخاص بالاطفال ضئيل جدا، والطلب عليها مرتفع مقارنة بالقسم المخصص للكبار، وفق ما اوضحته مصادر في المستشفى لـ»الاخبار»، التي شرحت ان حالات كثيرة واجهتها الادارة تتعلق بحاجة الأطفال الحديثي الولادة يحتاجون الى اقامة مديدة في قسم العناية الفائقة، ولم يستطع اهاليهم تأمين المبالغ المطلوبة كدفعة مسبقة، ما عرّضهم لمخاطر كبيرة.
يبرر الابيض قراره انه يأتي في سياق معالجة العجز المالي، الذي يرزح تحته المستشفى. ويقول أن الادارة تطلب من «المرضى الخاصين، الذين لا تغطيهم اي جهة ضامنة، ويريدون العلاج على نفقتهم، وضع مبلغ 1000 دولار كدفعة مسبقة على الحساب عند ادخالهم قسم العناية الفائقة»، مشيرا إلى ان «هذا المبلغ لا يمثّل سوى نسبة ضئيلة من كلفة إقامة المريض في قسم العناية الفائقة، التي قد تستغرق أسابيع او أشهرا، اذ إن الإقامة لليلة واحدة في هذا القسم تكلف حوالي 600 دولار أميركي».
ولكن ما مصير المريض الذي لا يمتلك هذا المبلغ؟ هل يُترك للموت على باب المستشفى الحكومي؟
لا يعطي الابيض جوابا حاسما، بل يجهد في محاولته للتخفيف من وطأة الاسئلة، فيردد ان «المريض اللبناني الذي يتلقى العلاج على حساب وزارة الصحة العامة أو الجهات الضامنة الأخرى وكذلك المرضى من الجنسيات السورية والفلسطينية والعراقية الذين تغطي علاجهم جهات ضامنة… يُطلب منهم عند الدخول الى المستشفى مبالغ اقل من المستشفيات الخاصة». امّا وزير الصحة العامة وائل ابو فاعور، فيبدو «شوفينيا» اكثر في جوابه، اذ «يطمئن» أن هذا القرار «لا يشمل اللبنانيين»، ويقول انه استفهم من الابيض خلفيات هذا القرار، وفهم انه يسعى الى «نهوض المستشفى وتجنب تدهوره»، ويكرر «مقارنة» بالمستشفيات الخاصة، وكأن هذا هو المقياس الذي يحدد السياسات الصحية وواجبات الدولة ومستشفياتها: انه منطق السوق الذي يسود ولو على حساب ارواح الناس مهما كانت جنسياتهم.
المعروف ان المرضى، ولا سيما الاطفال منهم، الذين يحتاجون الى خدمات قسم العناية الفائقة في المستشفى يكونون في حالة حرجة، ما يعني ان من واجب المستشفى، سواء كان ملكية خاصة او عامّة، ان يوفّر الخدمات الاستشفائية لهم وينقذ حياتهم بمعزل عن قدرتهم على الدفع. هذا ما يفرضه القانون اصلا، فكيف اذا كان المستشفى حكوميا، كمستشفى رفيق الحريري في بيروت، الذي تلجأ اليه الاسر الفقيرة المحرومة أي تغطية صحّية دائمة ومستقرة، ولا تمتلك القدرة على تأمين المبلغ المطلوب كدفعة مسبقة على الحساب، الذي يمثّل اكثر من 223% من الحد الادنى الرسمي للاجور.
توضح مصادر مطلعة في المستشفى ان الكلفة لا تقتصر على هذه «الدفعة» فحسب، فهي تبقى مجرد دفعة مسبقة على حساب قد يصل الى اكثر من 4200 دولار، اذا تطلبت حالة المريض الاقامة لمدة اسبوع في غرفة العناية الفائقة، وهو ما ينطبق كثيرا على حالات الاطفال الحديثي الولادة.
تشير هذه المصادر الى ان الكلام عن ان القرار لا يشمل «اللبنانيين» زائف ايضا، فهناك حالات كثيرة لا تغطيها وزارة الصحّة، كما ان سياسات العقاب على الولاءات السياسية قد تكون سببا لحرمان المواطن حقه بالاستشفاء، فضلا عن ان اياما كثيرة لا تكون فيها «الوزارة على السمع»، وبالتالي يعجز المريض عن الحصول على موافقتها في حالات ملحة، واضافة الى كل ذلك، هناك السقف المالي لكل مستشفى، اذ كثيرا ما يرفض المستشفى استقبال مريض على حساب وزارة الصحة لانه استنفد سقفه المالي المحدد. لا يجيب الوزير ابو فاعور عن كل هذه الاسئلة، الا انه يقول ان «لا سقف ماليا محددا من جانب الوزارة على مرضى المستشفى الحكومي». وهذا ما تنفيه مصادر ادارية في المستشفى، اذ تقول «لطالما مرت فترات ينفذ فيها السقف المالي المحدد من الوزارة في منتصف الشهر».
لا يفسر الابيض، حسابياً، كيف يمكن ان «يُنقذ» المستشفى، عبر قراره فرض دفعة الالف دولار المسبقة. هناك من يقول ان العجز المالي يفوق الـ120 مليار ليرة. الا ان الابيض يعجز، في الواقع، عن تحديد الحجم الفعلي للعجز، فالمستشفى لا يزال، حتى اليوم، يفتقد الى قاعدة بيانات مالية واضحة، نتيجة اهمال مصلحة الشؤون المالية والادارية.
لا شك ان المستشفى يحتاج الى «اصلاح»، من يدخل اليه فسيشاهد: مصاعد معطلة، انعدام التهوية وغياب التكييف في الكثير من الغرف، نقص في التجهيزات والمستلزمات الطبية، أقسام مقفلة … وسيسمع من العاملين أن المستشفى يعاني نقصا حادا في الادوية وادوات التعقيم. هذا الواقع «المريض»، الذي يعيشه المستشفى منذ فترات طويلة، بسبب اهمال وزارة الصحة وارضاء المستشفيات الخاصة وفساد الادارات المتعاقبة، لا يبرر تعريض حياة المرضى للخطر وفرض شروط مالية تعجيزية على الفقراء للحصول على حقهم في الاستشفاء. يرد الابيض على ذلك بالقول: «هل يريدون تحويل المستشفى الى مجاني؟ لا مانع لدي فليمكنونا من ذلك»، ولكن ماذا عن الهدر المالي الكبير والصفقات المشبوهة التي ترهق ميزانية المستشفى، يقول: «الملفات أصبحت في عهدة القضاء وأحيل بعضها الآخر إلى الجهات الرقابية التي تحقق فيها… ان موقف الادارة من تلك الملفات مرتبط ببت القضاء إياها، ونحن بانتظار التقارير النهائية للتفتيش المركزي لتبني على الشيء مقتضاه».