العلاقات العراقية – التركية بين المسارات المتعثرة والضرورات المشتركة
موقع العهد الإخباري-
عادل الجبوري:
تفاوتت الرؤى والتقييمات لزيارة رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني الأخيرة لتركيا، بين من نظر اليها على أنها لم تخرج عن سياق المجاملات الدبلوماسية والسعي الى تحفيز أنقرة للتعاطي الايجابي مع العراق دون الدخول في صلب المشكلات والأزمات الأمنية والسياسية والمائية القائمة بين الطرفين منذ فترة طويلة، وبين من نظر اليها على أنها خطوة مهمة للغاية باتجاهين، الأول يتمثل بحل ومعالجة جزء من المشاكل الداخلية، لا سيما أزمة المياه في العراق، والاتجاه الآخر يتمثل بتعزيز حضور العراق وانفتاحه الايجابي على محيطه الاقليمي والفضاء الدولي.
وفي الاطار العام، يبدو أن كفة الرؤية الايجابية رجحت على كفة الرؤية السلبية، من خلال بحث ومناقشة ملفات حيوية واستراتيجية عديدة، من قبيل طريق التنمية المعروف بالقناة الجافة، وإطلاقات نهر دجلة لتأمين خزين مائي كاف للعراق، والتنسيق العسكري والاستخباراتي بشأن التعامل مع الوجود المعارض لتركيا في شمال العراق، وتحديدًا حزب العمال الكردستاني (PKK)، وتوسيع دائرة محاربة الفساد وملاحقة الفاسدين.
لا شك أن أنقرة تعاطت بصورة سلبية مع العراق طيلة عقدين من الزمن أو أكثر، وعملت على استغلال ظروفه السياسية والأمنية الاستثنائية من أجل تحقيق مصالحها وتعزيز وتوسيع نفوذها ووجودها فيه، ناهيك عن اللعب على وتر القضية الطائفية من بعض البوابات السياسية. وهي اذا كانت قد حققت بعض المكاسب، فإنها من جانب آخر خسرت أكثر منها، خصوصًا وأنها فتحت العديد من الجبهات الخارجية، في سياق سعيها المحموم لاستعادة أمجاد الامبراطورية العثمانية، ناهيك عن أن مشاكلها الداخلية على الصعيدين السياسي والاقتصادي تفاقمت واتسعت بدلًا من أن تنحسر وتتقلص.
ولم يكن من الصعب على صناع القرار التركي ادراك حجم المشاكل والأزمات التي يواجهونها ويواجهها شعبهم، والتي تحتم عليهم حلها أو بأدنى تقدير حلحلتها، لا سيما وأن هناك استحقاقات انتخابية قريبة، يمكن أن تعيد نتائجها ومخرجاتها رسم الخارطة السياسية، وصياغة معادلات جديدة تتقدم فيها قوى وشخصيات معينة وتتراجع وتضعف قوى وشخصيات أخرى.
ولعل المنطق العقلاني، يقول إن مراجعة وتصحيح مسارات علاقات تركيا مع العراق، يعد خيارًا واقعيًا وعقلانيًا لا بد منه بالنسبة لساسة أنقرة، مثلما أن العراق في ظل حكومته الحالية وما طرحته من برنامج خدمي اصلاحي تنموي انفتاحي، وضع في أولوياته التعاطي مع كل الأطراف وفق قاعدة المصالح المتبادلة، وتكريس نهج الانفتاح وتوفير عوامل الجذب الاقتصادي، والتعامل مع الملفات الخلافية بطريقة متوازنة بحيث لا تفضي الى المزيد من الصدامات والتقاطعات والاختلافات.
وكان السوداني واضحًا في مجمل تصريحاته من أنقرة خلال اللقاءات التي عقدها مع كبار المسؤولين السياسيين ورجال المال والأعمال هناك، فقد أكد في اللقاء الذي جمعه مع عدد من المستثمرين ورجال الأعمال الأتراك بحضور وزير التجارة التركي محمد موش، أن أولويات عمل حكومته، تتمثل في قطاع الخدمات والسكن والنقل وبناء المدارس والتشغيل المشترك للمستشفيات بالشراكة مع القطاع الخاص، مشيرًا الى أن ما تم من تفاهمات مع الجانب التركي خلال الزيارة ينبع من إرادة حقيقية للمضي بالبلدين نحو تعزيز العلاقات في المجالات كافة، وأهمها عمل الشركات والمستثمرين الأتراك في العراق وتسهيل التبادل التجاري، داعيًا رجال الأعمال الأتراك إلى الإسهام في مشاريع البنى التحتية والفرص الاستثمارية الواعدة.
كذلك بيّن السوداني أهمية تضمين قانون الموازنة مشروع صندوق تنمية العراق، والصناديق المتفرعة منه، وهو مشروع تعتمد فلسفته على تنفيذ القطاع الخاص، وتطرق الى أهمية مشروع طريق التنمية المعروف بالقناة الجافة، الذي تشير الدراسات الاستشارية إلى أن كفّته سترجح، كممر ناقل للبضائع والطّاقة، خلال الاعوام القادمة بالتوازي مع انشاء مشروع ميناء الفاو الكبير.
ويتفق عدد كبير من الساسة وأصحاب الرأي على أن إدارة الحكومة الحالية للعلاقات الخارجية تعد تأكيدًا على نجاحها بتفعيل دور العراق المحوري واستثماره بتحقيق مكاسب على مختلف الصعد، والتي لم تتوقف عند حدود ما أنجز في تركيا، بل تعدته قبل فترة قريبة لنجاح دبلوماسي للوساطة العراقية بين الجمهورية الاسلامية الايرانية والسعودية.
في اطار هذه الرؤية، فإن هناك من يؤكد أن زيارة السوداني لتركيا تختلف عن سابقاتها، حيث إنها بحثت ملفات مهمة جدًا، وهذه المرة كانت بإرادة عراقية واضحة وصادقة، وجاءت بنتائج طيبة وغير مسبوقة على مستوى الحصص المائية التي تحكمها القوانين الدولية، وفيها وضع الوفد العراقي النقاط على الحروف عبر الإلزام بالقانون الدولي والاتفاقات الثنائية الضامنة للحصص المائية بين دول المنبع والمصب لينجح العراق بنيل الحقوق المائية. علمًا أن الرئيس التركي رجب طيب اردوغان تعهد بزيادة الاطلاقات المائية في نهر دجلة بما يضمن معالجة أزمة نقص المياه التي يعاني منها العراق.
وفي هذا الشأن يشير المتحدث باسم وزارة الموارد المائية في الحكومة العراقية خالد شمال الى أن وقوع الاختيار على نهر دجلة لزيادة الاطلاقات المائية له من الجانب التركي بسبب أنه يمر من تركيا الى العراق بشكل مباشر، ولا توجد أي دولة أخرى يمر بها كما هو الحال مع نهر الفرات الذي يمر من سوريا قبل ان يدخل العراق”. مضيفًا “ان الاطلاقات المائية من السدود التركية الى نهر دجلة تحتاج عدة ايام لدخولها الى العراق، في حين أن الإطلاقات لنهر الفرات تحتاج الى أكثر من اسبوعين لوصولها الى العراق”.
وكان السوداني قد كتب في تغريدة له على منصة التواصل الاجتماعي “تويتر” بمناسبة اليوم العالمي للمياه “نعمل على تأمين حصص العراق من حقّه في المياه عبر الحوارات وعقد الاتفاقيات، وما تحقق في زيارتنا إلى الجارة تركيا وإعلان زيادة تدفقّات مياه دجلة مثالٌ على نجاح توجهات الحكومة”.
الى جانب ذلك، فإنه مثلما اثمرت زيارات سابقة للسوداني لبعض دول الجوار والمنطقة في تفعيل اجراءات استرداد الفاسدين والأموال المسروقة، فإن هذا الملف كان حاضرًا بقوة على طاولة البحث والنقاش، وبما يعزز نهج الحكومة وأولوياتها في محاربة الفساد وملاحقة شبكاته في داخل العراق وخارجه.
وطبيعي أن يتمحور مجمل الحراك السياسي الاقليمي والدولي للسوداني وأعضاء حكومته على الأولويات المحددة في البرنامج الوزاري، ما سيمنح المزيد من القوة والمصداقية للحكومة، ويلزم الاخرين بالتعامل بجدية ووضوح أكبر معها، وأكثر من ذلك يفضي الى حل ومعالجة الكثير من المشاكل والازمات الاقتصادية والسياسية والامنية التي تراكمت وتفاقمت واستفحلت على مدى أعوام أو عقود من الزمن. ولا شك أن دول الجوار تمثل مفاتيح أساسية ومهمة للعراق من أجل تنمية اقتصاده، وتعظيم موارده، وتعزيز أمنه، وتكريس استقراره، وبالتالي ترسيخ المسارات الصائبة لمستقبله.