العقوبات على روسيا والدور القادم لميناء تشابهار الإيراني
موقع العهد الإخباري-
د. علي دربج:
يبدو أن الأزمة الروسية ــ الأوكرانية، ستعيد من جديد رسم خارطة الجغرافيا السياسية للعديد من مناطق العالم، لا سيما في الدول المحاذية لروسيا، بسبب العقوبات الغربية الشديدة ضد موسكو، واحتمال إغلاق الدول الأوروبية ممرات العبور البرية التي تربط الشرق بالغرب وتمتد داخل الأراضي الروسية، نحو أوروبا.
تاريخيًا، لطالما اعتمدت الدول الداخلية الحبيسة غير الساحلية في آسيا الوسطى (اي تلك التي تقع داخل اليابسة، وغير متصلة مباشرة مع البحار المفتوحة لتسهل عملية اتصالها بالعالم الخارجي) على الممرات والطرق البرية والسكك الحديدية عبر روسيا للوصول إلى الأسواق هناك وخارجها.
وتبعًا لذلك، كانت كل من روسيا وأوكرانيا وبولندا وبيلاروسيا تأمل في أن تكون جزءًا من “الجسر البري الأوراسي الجديد” الذي يربط أوروبا بشرق آسيا. لكن العملية العسكرية لموسكو في أوكرانيا في 24 شباط الماضي، وانخراط هذه البلدان في اصطفافات “محاور متناقضة”، قلبت أهدافها، وأخرجت الأمور عن مسارها المخطط ووضعتها في مهب الريح، مما انعكس على الصين، وفاقم قلقها الشديد، كونه يعرض الطريق الشمالي لمبادرة الحزام والطريق، الذي يمر عبر روسيا، ويربط موانئ البحر الأسود بآسيا الوسطى.
يتمثل احد المخارج لجمهوريات آسيا الوسطى غير الساحلية، في حالة حدوث تطورات مفاجئة قد تقطع تجارتها الدولية، بربط بحر قزوين الداخلي، بخط سكة حديد باكو – تبليسي – كارس (BTK)، والذي سيساعد على نقل البضائع المتجهة إلى أوروبا.
لكن هذه البلدان وجدت خيارًا آخر، أكثر أهمية وسهولة، وهو الممرّ الإيراني بين الجنوب والشمال، والذي يعد أهم رابط تجاري بين آسيا وأوروبا، وهو أحد أهم طرق العبور في آسيا الوسطى والصين.
ما هي مميزات هذا الممر؟ وما دور ميناء تشابهار الايراني؟
يتميز هذا الممر بتوفر شبكات للنقل البري تتفرع منها وصلات إلى تركيا وأوروبا وتصل أيضًا الى الموانئ الإيرانية على الخليج الفارسي وخليج عمان. أما نقطة الوصل المركزية فستكون ميناء تشابهار الايراني، الذي ينفرد بأهمية استراتيجية خاصة، كونه الميناء البحري الوحيد في إيران الذي يتمتع بإمكانية الوصول المباشر إلى المحيط الهندي، فضلًا عن أنه أقرب ميناء إلى دول آسيا الوسطى.
من هنا، وفي 24 أيار 2016، وقّعت الهند وإيران وأفغانستان اتفاقًا ثلاثيًا تاريخيًا لتطوير ميناء تشابهار الإيراني الاستراتيجي كنقطة انطلاق في “ممر العبور والنقل” عبر أفغانستان. ورغم أن واشنطن حاولت كالعادة عرقلة هذا الاتفاق، لحرمان طهران من الاستفادة من أي منفذ يساعد في تخفيف العقوبات عليها، غير أن الهند ــ التي يعود عليها هذا الممر بمنافع وفوائد كبيرة جدًا ــ وقفت بوجه واشنطن، ومارست ضغوطًا قوية على الولايات المتحدة دفعتها الى الرضوخ وإعفاء الميناء من عقوبات “سياسة الضغط القصوى” ضد إيران.
وفي السياق ذاته، ونظرًا للموقع الاستراتيجي للميناء الايراني، أبدت أوزبكستان مؤخرا (الدولة غير الساحلية) اهتمامًا ملحوظا وكبيرًا بالانضمام إلى مشروع تشابهار العابر، حيث وقعت أخيرًا اتفاقية للوصول إلى الميناء في كانون الثاني 2022، أي قبل أسابيع فقط من بدء العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا.
لماذا انضمت أوزبكستان لمشروع تشابهار الايراني؟
عمليًا، يمر حوالي 80 في المائة من صادرات وواردات أوزبكستان عبر روسيا. وعليه، كان من الطبيعي أن تبحث طشقند عن طرق عبور جديدة، في اتجاهات أخرى، حتى قبل المعارك الحربية في اوكرانيا، لذا أصبح ميناء تشابهار نقطة اهتمام منطقية لطشقند.
علاوة على ذلك، تمتلك أوزبكستان بالفعل خط سكة حديد، يمتد إلى شمال أفغانستان، كما انها تخطط للربط بشبكة السكك الحديدية الإيرانية عبر هرات من أجل تسهيل الوصول إلى ميناء تشابهار. وقد ظهر ذلك بشكل جلي وواضح عندما افتتحت طهران نهاية عام 2020، خط سكة حديد خاف – هرات العابر للحدود إلى أفغانستان، مما عزز ربط العبور متعدد الوسائط (البحري والسكك الحديدية) بين هذين البلدين.
ومع أن طريق طشقند – كابل – بيشاور إلى ميناء كراتشي قد يكون أقصر قليلاً، من الطريق الايراني ، لكنه لا يخلو من المخاطر، بسبب مروره عبر مناطق جبلية، وهو أقل أمانًا من الممر الإيراني.
ليس هذا فحسب، فإن مشاركة أوزبكستان في مشروع ميناء تشابهار ستمكن الهند من الوصول بشكل أسهل وأسرع إلى سوق آسيا الوسطى التي يبلغ عدد سكانها 80 مليون نسمة في منطقة تعد فيها الصين المنافس الضخم التقليدي لنيودلهي، أكبر شريك تجاري واقتصادي لجميع دول ما بعد الاتحاد السوفياتي الخمس.
وتأكيدًا على أهمية هذا الميناء الحيوي للهند، كان رئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي، دعا في ايلول 2021 دول آسيا الوسطى إلى التحرك حتى تتمكن من الاستفادة من قدرة ميناء تشابهار من أجل توسيع تجارتها في المنطقة.
كيف حلّت إيران عقدة “طالبان”؟
مكّنت براغماتية وواقعية طهران من إقامة علاقات وثيقة نسبيًا مع “طالبان” بعد عودتها إلى السلطة (مثل أوزبكستان)، وهو ما ارتدّ ايجابًا على الطرفين (طالبان وايران)، وترجم بعودة جزء كبير من التعاون الاقتصادي والتجاري بين البلدين كما كان في السابق.
كما لعبت العلاقات الإيرانية ــ الأوزبكية مع “طالبان”، دورًا رئيسيًا في الحفاظ على مشروع ميناء تشابهار، على عكس ممر اللازورد، الذي توقف عمليًا بعد أن استولت “طالبان” على كابل.
أما العامل الآخر الذي أعطى دفعًا لهذا المشروع، فهو حاجة “طالبان”، إلى مواصلة المشاريع الإقليمية العابرة للحدود مثل خط أنابيب الغاز الطبيعي بين تركمانستان وأفغانستان والهند (TAPI)، ومشروع نقل وتجارة الكهرباء في آسيا الوسطى وجنوب آسيا، ومصلحتها الكبيرة في ميناء تشابهار، وذلك بهدف زيادة الشرعية السياسية المحلية والدولية لـ”طالبان”، وكذلك تحسين الوضع الاقتصادي في أفغانستان.
ماذا عن دور الهند؟
في الحقيقة، يعتبر دور الهند في استمرار مشروع ميناء تشابهار العابر، وانضمام أوزبكستان إليه أمرًا حيويا بالغ الأهمية. ففي اعقاب عودة “طالبان” إلى السلطة في اب 2021، كانت مشاركة الهند المستمرة في مشروع تشابهار هامشية. غير أنه مع بدء استقرار الوضع في أفغانستان نوعًا ما، غيرت نيودلهي موقفها، بعدما لعبت إيران وأوزبكستان دورًا مهمًا في هذه العملية.
ما يجب معرفته، أنه من منظور نيودلهي، يتنافس مشروع ميناء تشابهار بشكل مباشر مع الممر الاقتصادي بين الصين وباكستان (وهو مشروع رائد لمبادرة الحزام والطريق في جنوب آسيا)، وبالتالي فهو ذو أهمية استراتيجية للهند ايضًا كما ايران.
وانطلاقًا من هذه النقطة، شيدت الهند شبكة طرق تربط المناطق الأفغانية المحاذية للحدود الايرانية، بالعاصمة كابل والمدن الرئيسية في أفغانستان، وقد ساهم ذلك بوصول السلع الهندية غير القابلة للتلف، إلى أفغانستان مع تجاوز باكستان تمامًا، التي منعت الهند حتى الآن من الوصول المباشر إلى أفغانستان.
في المحصلة، إن المعارك في أوكرانيا والقيود المفروضة على طرق عبور الحزام والطريق العابرة لروسيا إلى أوروبا، كلها عوامل أدت الى زيادة اهتمام أوزبكستان بمشروع عبور ميناء تشابهار، كما جذبت انتباه دول آسيا الوسطى الأخرى، بما في ذلك كازاخستان، وبالتالي هذا سيُحتّم على هذه البلدان تطوير علاقاتها مع “طالبان”، وهي نتيجة جيوسياسية أخرى غير متوقعة للأزمة الاوكرانية.