العقوبات على روسيا: هل أوروبا مستهدفة أميركياً أيضاً؟
موقع قناة الميادين-
إبراهيم علوش:
ثمة ثمن سياسي لا بد من دفعه لأن النخب الأوروبية الأطلسية التوجه سوف تجد الرأي العام الأوروبي يتململ ضدها وهي تدفع باقتصاداتها نحو التأزم.
فلاديمير بوتين، لاعب الجودو المحترف، كان قد أمسك اقتصادياً بالاتحاد الأوروبي، خلال السنوات الفائتة، بطريقة تتيح له أن يهوي بمن يهاجم روسيا أرضاً محطّماً عظامه. وها هم الأوروبيون يشاهدون اقتصاداتهم ترتطم بمزيجٍ من الركود والتضخم، وها هي شركاتهم تتعثر وقيمة أسهمها تنخفض، وعملتهم تتدهور، على خلفية العقوبات المفروضة على روسيا، فيما لمّا يتعافَ الاتحاد الأوروبي بعد من الآثار الاقتصادية لكوفيد.
كانت المفوضية الأوروبية قد أعلنت رسمياً، في الـ25 من شباط/فبراير الفائت، أن التوقع السابق لنمو الاقتصاد الأوروبي عام 2022 بنسبة 4%، المخفض أصلاً، “أصبح أكثر عرضةً للشك”، مع محاولة الإيحاء بأن الأثر السلبي على معدل نمو الاقتصاد الأوروبي من جّراء العقوبات على روسيا لن يتجاوز نصف واحد في المئة (0.5%).
لكن المؤشرات لا توحي بأن أثر العقوبات على روسيا سيكون محدوداً على دول الاتحاد الأوروبي هكذا.
فهناك مثلاً ارتفاع مؤشر أسعار المستهلك في منطقة اليورو إلى مستويات قياسية في الشهر الفائت إلى 5.8%، بحسب تقرير صادر عن المكتب الإحصائي للاتحاد الأوروبي Eurostat في 2/3/2022، والذي أشار أيضاً إلى أن هذا الارتفاع في معدل الأسعار جاء أعلى من الشهر الذي سبقه، الذي بلغ فيه معدل ارتفاع الأسعار 5.1%، وهي معدلات يتم حسابها على أساس سنوي (أي بناءً على معدل زيادة الأسعار مقارنة بالشهر ذاته قبل عام).
ارتفاع الأسعار في أوروبا سببه الرئيسي العقوبات على روسيا
يقول تقرير الـEurostat أيضاً إن أهم دوافع ارتفاع الأسعار الشهر الفائت في منطقة اليورو يرتبط مباشرةً بارتفاع أسعار الطاقة بنسبة 31.7%، وارتفاع أسعار الغذاء غير المصنّع (القمح مثلاً) بنسبة 6.1%، دوماً على أساس سنوي، مع فروق كبيرة في معدلات ارتفاع الأسعار المقدرة لدول منطقة اليورو المختلفة، حيث بلغت أعلى مستوياتها شرقاً، في دول مثل لاتفيا (12.4%)، وإستونيا (13.9%)، وبلغت أدنى مستوياتها غرباً، في فرنسا (4%)، وبلغت معدلات أعلى من المتوسط الأوروبي في دول مثل بلجيكا (9.6%) وهولندا (7.2%) وإسبانيا (7.5%)، أما ألمانيا والنمسا، فبلغ معدل ارتفاع الأسعار فيهما 5.5%، تحت المتوسط بقليل.
كتبت صحيفة “فايننشال تايمز” البريطانية، من جهتها، استناداً إلى اقتصاديين أوروبيين، أن ارتفاع مؤشر الأسعار الأوروبي جاء أعلى ممّا كان متوقعاً، وبوتيرة متصاعدة خلال الأشهر الفائتة، متوقعةً ارتفاعه أكثر من 6% مع نهاية الشهر الحالي، بسبب ارتفاع أسعار الطاقة والغذاء على خلفية الأزمة الأوكرانية (اقرأ: العقوبات على روسيا). تضيف الصحيفة أن هذا سوف يفرض على البنك المركزي الأوروبي أن يسارع إلى اتخاذ إجراءات نقدية انكماشية، مثل رفع معدل الفائدة وتقليل ضخ اليورو في السوق، بوتيرة أسرع مما عزم عليه سابقاً، إذا كان ينوي كبح جماح التضخم المتصاعد، وهي إجراءات كان قد تم التخطيط لتبنّيها تدريجياً على خلفية الارتفاع المهول في الديون والعجوزات بسبب كوفيد في عام 2020.
المشكلة طبعاً أن مثل هذه الإجراءات تسمى” انكماشية” بالضبط لأنها تضعف معدل النمو الاقتصادي، أي لأنها تدفع بالاقتصادات نحو التباطؤ والركود، مع ما يرافق ذلك من ارتفاع في معدل البطالة وانخفاض مستوى المعيشة. ولهذا ينقل تقرير الـ”فايننشال تايمز” ذاته عن اقتصاديين مرتبطين بالبنوك المركزية الأوروبية أنهم يميلون، على العكس، إلى التأخر أكثر في ابتلاع الدواء الانكماشي المر، في ضوء المعطيات الجديدة الناجمة عن أزمة أوكرانيا بالذات، مع العلم بأن معدلات الفائدة الأوروبية هي صفر في المئة اسمياً، وسالبة عملياً.
أفق مظلم أمام الاقتصاد الأوروبي في ظل الأزمة الأوكرانية
ليس كل شيء على ما يرام إذاً، ولا هي غيمة صيفٍ عابرة. والمسألة التي يكدّ صنّاع السياسة الاقتصادية الأوروبيون لحلها باتت: أيهما أكثر خطراً، ترك الأسعار تحلّق، والعجوزات تتراكم، أم المخاطرة بخنق النمو الاقتصادي في خضم أزمة سياسية واقتصادية كبرى؟
في الحالتين ثمة ثمن سياسي لا بد من دفعه هنا، لأن النخب الأوروبية الأطلسية التوجه سوف تجد الرأي العام الأوروبي يتململ ضدها وهي تدفع باقتصاداتها نحو التأزم، فما بالك إذا استمرت الأسعار في الارتفاع واستمر النمو الاقتصادي في التباطؤ في آنٍ واحد! وهو احتمالٌ قائمٌ دوماً عندما يكون سببُ ارتفاعِ الأسعارِ الانخفاضَ في كمية الموارد المتاحة للإنتاج والحياة (مثل النفط والغاز)، في ما يسميه الاقتصاديون “صدمة عرض” Supply shock، وهو بالضبط ما راح يحدث لأوروبا في سياق حصار روسيا، ضمن مشروعٍ تقوده الإدارة الأميركية على حساب حلفائها الأوروبيين أيضاً، على ما يبدو.
ثقة المستهلك والمنتِج الأوروبي بدأت بالانهيار
أضف إلى ذلك طبعاً حالة قلة اليقين في ظروف الأزمات عموماً، والتي تدفع المستهلكين إلى تقليص إنفاقهم على السلع المعمرة والكماليات، وتدفع المستثمرين إلى تأجيل إنفاقهم على المشاريع الاستثمارية ريثما تنجلي الأمور، ما يضعف الطلب الكلي ويدفع بالاقتصاد نحو المزيد من التباطؤ.
ويشير آخر تقرير صادر في 25/2/2022 عن برنامج الدراسات الاستقصائية لقياس ثقة المستهلكين ورجال الأعمال الأوروبيين بالاقتصاد، التابع للمفوضية الأوروبية، إلى أن البيانات التي اعتمد عليها لا تغطي فترة التصعيد العسكري في أوكرانيا، لكننا نجد مع ذلك أن مؤشر ثقة المستهلك الأوروبي بالحالة الاقتصادية شهد حتى 18/2 الفائت، بحسب التقرير، انخفاضاً متتالياً للشهر الرابع على التوالي، بعد ارتفاعه بشكلٍ صاروخي منذ بداية عام 2021.
ويتوقع أن يشهد مؤشر ثقة المستهلك الأوروبي انخفاضاً أكبر بكثير على خلفية التدهور الاقتصادي المرتبط بالأزمة الأوكرانية. أما مؤشر ثقة رجال الأعمال الأوروبيين، الذي شهد ارتفاعاً طفيفاً للمرة الأولى منذ ثلاثة أشهر، بحسب التقرير الرسمي الأوروبي ذاته، فمن المرجّح أن يشهد انخفاضاً أكبر بكثير، إذا اعتبرنا أسعار الأسهم مؤشراً على مدى الثقة بأداء الشركات الأوروبية، وإذا استمر خط انحدارها على المدى الطويل.
الشركات الأوروبية تتراجع والشركات الأميركية تتقدم
نلاحظ، على سبيل المثال، أن أهم مؤشر لأسعار الأسهم الأوروبية، وهو STOXX Europe 600، الذي تبلغ قيمة الأسهم المتداولة فيه أكثر من 13 تريليون يورو، تدهور بمعدل 6% منذ يوم بدء العملية الروسية في دونباس، أي إن قيمة الشركات الأوروبية انخفضت بذلك المعدل، فيما انخفضت قيمة الأسهم في البورصة الألمانية، وألمانيا أكبر اقتصاد في أوروبا طبعاً، بقيمة 9%، وهي مرشّحة للمزيد من الانخفاض، بحسب المحللين الماليين (انظر مثلاً تقرير موقع CNN Business في 4/3/2022).
قارن، في المقابل، ارتفاع مؤشرات أسعار الأسهم في البورصة الأميركية منذ بدء العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا، إذ إن مؤشر أسعار S&P 500، وهي أكبر 500 شركة تُتداول أسهمها في بورصة نيويورك، وتبلغ قيمتها مجتمعة أكثر من 42 تريليون دولار، ارتفعت قيمته بمعدل 3% منذ بدء العملية الروسية. أما مؤشر أسهم NASDAQ، الذي تبلغ قيمة أسهم الشركات المتداولة فيه حوالى 20 تريليون دولار، فقد ارتفعت قيمته 4% تقريباً منذ بدء العملية الروسية. وهذه الأرقام حتى يوم الجمعة الموافق في 4/3/2022، مع العلم بأن سوق الأسهم الأميركية يغلق في نهاية الأسبوع يومي السبت والأحد.
يراهن صنّاع القرار الأوروبيون على أن تكون تلك موجة عابرة فحسب. لكن العبرة هي أن وضع الشركات الأوروبية يتدهور، ووضع الشركات الأميركية يتحسّن، تحت ظروف فرض العقوبات على روسيا، وهذا هو المتغيّر هنا. فهل سيتمكن الأوروبيون من تجاوز المحنة قريباً؟
تدهور اليورو مقابل الدولار قصة أخرى
إن التفكير الرغائبي قد تكون له حسناته في رفع المعنويات وتخدير الألم مؤقتاً، لكنه يتحول إلى نقمة على صاحبه إذا لم يشخّصْ جذور المشاكل بشكلٍ موضوعيٍ بارد. وواقع الحال الأوروبي أن الأمر لا يتوقف عند ارتفاع الأسعار وتراجع الثقة بأداء الشركات الأوروبية، بل يتعداه إلى اليورو ذاته، الذي غطست قيمته منذ العملية الروسية، حتى بلغ 1.092 دولار أميركي مقابل اليورو، إلى مستوى لم يصل إليه منذ ربيع عام 2017، وهو مسار انحداري انزلق فيه اليورو، مقابل الدولار، منذ تصاعد التهديدات بعقوبات شاملة ضد روسيا على خلفية الوضع في أوكرانيا، قبل بدء العملية الروسية فيها. ولهذا قفز اليورو من على منصة الغطس منذ 4 شباط/فبراير تحديداً، وما زال يغطس.
يشار إلى أن معدل التضخم في الولايات المتحدة الأميركية في أول شهرين من عام 2022 راوح ما بين 7 و7.5% نتيجة الطباعة المفرطة للنقد والعوامل المرتبطة بآثار كوفيد الاقتصادية في الولايات المتحدة. وبحسب المنطق الاقتصادي، فإن الدولة التي يكون معدل التضخم فيها أعلى، تضعف القوة الشرائية لعملتها الوطنية بصورة أكبر، وينخفض سعر صرفها مقابل عملات الدول التي يكون فيها معدل التضخم أقل. فكيف يمكن أن يضعف اليورو مقابل الدولار إذاً، فيما معدل التضخم في الولايات المتحدة الأميركية أعلى منه في الاتحاد الأوروبي؟
من البديهي أن ثمة عوامل أخرى جوهرية تؤثر في سعر الصرف إلى جانب معدلات التضخم، ومنها سعر الفائدة (الذي يدفع باتجاه رفع سعر الصرف كلما زاد عنه في الدول الأخرى)، ومعدل النمو الاقتصادي (الذي يؤثر باتجاهين مختلفين)، وعوامل أخرى.
لكن لو افترضنا جدلاً أن قرار الاحتياطي الفدرالي (البنك المركزي الأميركي) رفع الفائدة على الإيداعات بالدولار ربع واحد في المئة، بما لا يغطي شذرة من الفارق بين معدلي التضخم الأميركي والأوروبي، قد لعب دوراً في تعزيز الدولار مقابل اليورو، فإن العاملَين الآخرَين اللذين يناقَشان علناً في الإعلام الاقتصادي الأميركي هما:
1) انخفاض معدلات البطالة الأميركية إلى مستويات قياسية، ما يعني أن الاقتصاد الأميركي ينمو بقوة، وبالتالي، يوفر فرصاً استثمارية كبيرة لرؤوس الأموال الأجنبية، وبذلك يزداد الطلب على الدولار، مقارنة بالاقتصاد الأوروبي الذي يترنح تحت وطأة أزمة طاقة كبرى، بسبب العقوبات على روسيا.
2) كون الدولار الأميركي هو عملة ملاذ آمن، مثل الذهب، يزداد الطلب عليه عالمياً كلما اشتدت الأزمات، وما برح هذا الاتجاه في الطلب العالمي على الدولار الأميركي يتعزّز.
تجارة الأزمات أربح تجارة أميركية
النقطة الأخيرة تحديداً، تعني أن الولايات المتحدة تستفيد من التأزيم الدولي، ما دام ما يصيبها منه اقتصادياً أقل ممّا يصيب غيرها، والأفضل لها، ما دام اقتصادها ينتعش، واقتصادات غيرها تذوي، تماماً كما كانت الحرب العالمية الثانية هي المفصل التاريخي الذي أخرج الاقتصاد الأميركي من الكساد العظيم (1929 – 1939)، ونقل صولجان القوة العالمية من بريطانيا وفرنسا إلى الولايات المتحدة.
وإذا اتخذنا من تجربة الحرب العالمية الثانية مقياساً، فقد أخّرت الولايات المتحدة الأميركية الإنزال على النورماندي عامين على الأقل، وهي تتفرج على الاتحاد السوفياتي السابق وألمانيا النازية يهشّم أحدهما الآخر، وأوروبا تحترق، ولم تشنّ هجومها العام إلا بعد أن رأت الجيش الأحمر السوفياتي يغذّ الخطى مظفّراً، وهو يرفل بدماء شــهدائه، نحو برلين.
انتبهوا لتقارب التواريخ: في الـ 6 من حزيران/ يونيو عام 1944، بدأ إنزال الحلفاء بقيادة أميركية في النورماندي على الشاطئ الفرنسي المحتل نازياً، وفي الـ 1 من تموز/ يوليو، عام 1944، بدأ انعقاد مؤتمر “بريتون وودز” Bretton Woods في ولاية نيو هامشير الأميركية، والذي أسفر عن تتويج الدولار الأميركي عملةً رسميةً لكوكبنا، وعن ولادة مؤسّستي “صندوق النقد الدولي” IMF و”البنك الدولي للإنشاء والتعمير” World Bank، أي عن مأسسة الهيمنة الأميركية على العالم.
إذا كانت تجربة تبوّء الولايات المتحدة الأميركية صدارة العالم على خلفية الحرب العالمية الثانية معلومةً تاريخيةً فحسب خارج الولايات المتحدة، فإنها تحفر عميقاً في وعي النخبة الأميركية الحاكمة، التي تعيد اكتشافها وإنتاجها غريزياً كمرجعية لممارسة السياسة الدولية.
فماذا يمكن أن تفعل تلك النخبة اليوم في مواجهة صعود اليورو كمنافس وحيد فعلياً للدولار الأميركي في الاقتصاد الدولي، وفي مواجهة صعود أقطاب دوليين منافسين أخطرهم سياسياً القطب الأوراسي الروسي، وأخطرهم اقتصادياً قطب “الحزام والطريق” الصيني، وأخطرهم نقدياً اليورو؟
اليورو يعني ألمانيا أساساً، العمود الفقري للاقتصاد الأوروبي، ومن ثم فرنسا، وروسيا بوتين هي الوريث الشرعي والجغرافي – السياسي للاتحاد السوفياتي. فلنضرب روسيا بألمانيا إذاً، ونجلس للتفرّج على الفيلم الأميركي الطويل، نحن وأصدقاؤنا البريطانيون، الطرف الثاني المتضرر من صعود روسيا وألمانيا في أوروبا بعد الولايات المتحدة.
والقصة ليست قصة صعود الدولار مقابل اليورو، فهذا كان يمكن أن يكون مفيداً للصادرات الأوروبية لولا أن كلفة الإنتاج الأوروبية ارتفعت. القصة قصة الأسباب التي جعلت اليورو يتضعضع مقابل الدولار الأميركي، أي زيادة الطلب العالمي على الدولار وانخفاضه على اليورو. فالدولار هنا يزاحم اليورو مباشرة، ولسوف يكون اليورو الخاسر الأول من تعنّت الغرب في أوكرانيا، بغض النظر عن المخلب الصغير زيلينسكي، إذا رسخ هذا الاتجاه.
على سبيل المثال، لا الحصر، قام البنك المركزي الروسي، ما بين صيف عام 2020 وصيف عام 2021، بتخفيض احتياطياته من الدولار الأميركي من 22.2% إلى 16.4%، فيما زاد احتياطياته من اليورو خلال الفترة ذاتها إلى 32% من المجموع.
بمقدار ما ينهار اليورو إذاً، تقل قيمة احتياطيات البنك المركزي الروسي، المقدّرة اليوم بنحو 640 مليار دولار، أكثر من نصفها بات مجمّداً في البنوك الغربية، وكل مكوّناته من العملات الغربية والين لم يعد يمكن استعماله. وهذا يعني اصطياد العصفورين الروسي والأوروبي بحجر أميركي واحد.
أثر العقوبات على الاتفاق النووي مع إيران
بإمكان الإدارة الأميركية تخفيف الضغط عن الاقتصاد الأوروبي واليورو لو سارعت إلى توقيع الاتفاق النووي مع إيران، ما سيزيد عرض النفط والغاز في الأسواق الدولية، وهذا سيضرب روسيا بإيران أيضاً، ويخفف عبء إجراءات حصار روسيا على الأوروبيين بصورة كبيرة، ولهذا يدفع الأوروبيون باتجاه المضيّ قدماً في توقيع اتفاق مع إيران طبعاً.
من هذه الزاوية وحدها، وهي ليست الزاوية الوحيدة للنظر إلى الاتفاق النووي، يأتي تمسّك إيران بشروطها كاملة، والبعض يقول زيادتها شروطاً على تلك الشروط، في وقت ملائم تماماً بالنسبة إليها من ناحية تفاوضية، في ظل الأزمة الأوكرانية، أكثر من أي وقت مضى.
لكن ثمة جوانب أخرى خطيرة، مثل معنى رفع الحصار الاقتصادي عن إيران بالنسبة إلى محور المقاومة ومكوّناته، وعلى الوجه النقيض بالنسبة إلى النفوذ الأميركي والصهيوني وأذنابه في المنطقة، ولهذا تحاول الإدارة الأميركية أن تدخل في صفقة جزئية وتدريجية مع إيران، يمكن الارتداد عنها مجدّداً، لكن هيهات!
كما أن جناح الصقور في الإدارة الأميركية غير معنيّ برفع الضغط عن اليورو والاقتصاد الأوروبي، أما الجناح الآخر فيحاول أن يُخرِج عملية تقزيم أوروبا وإعادة فرض الانضباط الأميركي عليها بطريقة أكثر استساغةً للأوروبيين، وبعض هذا الجناح يرى أن التنين الصيني سيكون المستفيد الأكبر من لعبة القمار الكبرى التي تلعبها إدارة بايدن، إذا أعدنا صياغة تعبير بريجينسكي عن رقعة الشطرنج الكبرى.
لا بد من لفت النظر هنا إلى أن قيمة الاستثمارات الأوروبية في روسيا تبلغ 400 مليار دولار، فيما تبلغ قيمة الاستثمارات الأميركية في روسيا أقل من 100 مليار دولار، كما أن هناك، فضلاً عن ذلك، أكثر من 150 مليار دولار من الأسهم والسندات الروسية بأيدي الغربيين، بدرجة أكبر بأيدي الأوروبيين مما هي بأيدي الأميركيين. وهذه كلها باتت مجمّدة أيضاً، ولا سيما مع إغلاق بورصة موسكو للتداول. فالاقتصاد الأوروبي تلقّى جروحاً بالغة في هذه الأزمة.
لم يعد لدى الولايات المتحدة أعلى ناطحات سحاب في العالم كما كان الأمر في السابق، لكنّ النخب الأوروبية الحاكمة، المنجرّة خلف الولايات المتحدة في تحيّزاتها الأطلسية على حساب اقتصاداتها وشعوبها، تشبه رجلاً ألقي به من فوق مبنى مركز التجارة العالمي في نيويورك، أعلى مبنى في الولايات المتحدة والنصف الغربي من الكرة الأرضية، وعلوّه 94 طبقة فوق الأرض، فلما هوى الرجل إلى الطبقة الـ 22 تحديداً، قال لنفسه: حتى الآن، كل شيء على ما يرام so far, so good!