العروض الصينية للبنان وسياسة “صرف النظر”
موقع العهد الإخباري-
فاطمة سلامة:
في إحدى اللقاءات السياسية، شبّه أحدهم لبنان بالمريض الذي يحمل الدواء بين يديه لكنّه يمتنع عن شربه. هكذا يبدو لبنان على يد الطبقة السياسية فيه. مرضه معروف وعلله الاقتصادية والمالية واضحة، وبالتوازي فالعلاج جاهز لكنّ الطبقة السياسية “لا تريد” أو بالأحرى تفتقد الى “السيادة في القرار”. وهنا تكمن علّة العلل في هذا البلد الذي يفتقد فعلًا لقرار سيادي يقول فيه ما يعبّر عن مصلحته الوطنية. بمعنى، تفتقد الدولة اللبنانية لأن يكون لها سلطة لاتخاذ القرارات وممارسة حقّها القانوني في ذلك دون أي تدخل من جهات أو هيئات خارجية.
وليس خافيًا أنّ لبنان ومنذ عقود يفتقد لأن يكون سيّدًا في قراره إزاء كل ما طُرح لحل أزماته الداخلية. شواهد كثيرة في هذا الصدد تُبيّن كم كان المسؤولون اللبنانيون مجحفين بحق شعبهم حين راوغوا وماطلوا وقالوا “لا” للعروضات المفيدة للاقتصاد اللبناني والتي كانت كفيلة بحل أزمات كبرى على رأسها الكهرباء. تكرار التجارب مع دول عدة في هذا الصدد ومنها إيران، روسيا، الصين بيّنت أنّ لبنان مسلوب الحق في اتخاذ القرارات لكن بملء إرادته، وهنا تبدو المفارقة. خشية مسؤولين كثر على كُرسيّهم وأحلامهم الواهية بأنهم سيصبحون “الرقم 1” لدى الدول المتحكّمة بالقرار اللبناني جعلتهم يضعون المصلحة الشخصية على مصلحة ملايين اللبنانيين.
كثيرًا ما طالعتنا الأخبار عن زيارات قامت بها وفود وصفت برفيعة المستوى الى لبنان ومنها صينية لكنّ النتيجة باتت معروفة مسبقًا. حتّى هذه الوفود ملت اللقاءات مع الجانب اللبناني والتي تبدو “بلا جدوى” و”مضيعة للوقت”. تكرار لقاءات العروض نفسها باتت كفيلة لرسم سيناريو أي لقاء. يطلب الضيف العارض موعدًا ليُدلي بما لديه راسمًا صيغة الاستفادة من المشروع على قاعدة “المنفعة المشتركة” أي “رابح رابح”. يستمع المسؤولون اللبنانيون للضيف ويستفسرون منه عن بعض النقاط حفظًا لماء الوجه، وتظاهرًا بالاهتمام. ينتهي الاجتماع فيغادر الضيف العارض على إيقاع مقولة يُردّدها المسؤولون اللبنانيون دائمًا “سيحتاج العرض مزيدًا من الدرس”. والدرس هنا بالمفهوم اللبناني يعني استمزاج آراء الدول الحاكمة بأمر بعض المسؤولين في لبنان -أي بأمر القرار اللبناني- وعلى رأسها الولايات المتحدة الأميركية التي تمنع أي حل، ليأتي الجواب المعروف سلفًا والمعلّب “اصرفوا النظر”.
افتقاد لبنان لـ”السيادة في القرار” جعلته يُضيّع من يديه فرصًا كثيرة طُبعت عليها “فيتوات” خارجية. العروض الصينية على رأس تلك الفرص. والمفارقة، أنّ لبنان يُحرم ويُمنع خارجيًا من الذهاب بعيدًا في علاقاته مع الدول الصديقة ومنها الصين، بينما يحق لدول أخرى كالسعودية في تطوير علاقاتها مع بكين. هنا تتبدّى ازدواجية المعايير في أوضح صورها على قاعدة “يحق لي ما لا يحق لغيري”. لا حرج في أن تستفيد السعودية من التعاون مع بكين ومن مشاريعها الضخمة، أما لبنان فممنوع عليه.
وفود صينية زارت لبنان أكثر من 6 مرات خلال السنوات الأخيرة ولا آذان صاغية
والمفارقة الكبرى أنّ لبنان الذي يخضع للإملاءات ويحرم نفسه من الاستفادة من عروض الصين، تراه اليوم يضيء على العلاقات الصينية اللبنانية من بوابة القمة العربية -الصينية التي عقدت في الرياض. الكلام الرسمي اللبناني من هناك لا يُشبه أبدًا الطريقة التي تعامل بها لبنان مع العروض الصينية. الخطابات والنظريات لا تشبه التطبيق على أرض الواقع. الحديث عن أواصر صداقة تربط جمهورية الصين الشعبية وقواسم مشتركة كان يتطلّب حُكمًا ردّ فعل مختلفا وتعاطيا إيجابيا مع ما طُرح على لبنان قبل سنوات من مشاريع صينية يبدو سركيس شلهوب -وكيل الشركات الصينية في لبنان- أبرز الشاهدين عليها. وفق شلهوب، أضاع لبنان فرصًا كثيرة. على مدى أكثر من ثماني سنوات والعروض الصينية تتوالى على لبنان -يقول شلهوب- لكن لا آذان صاغية. يستغرب المتحدّث كيف أنّ لبنان لا يريد الصين رغم أنّ العالم كله يريدها، ولا يُخفي أن بكين مهتمة بالسوق اللبناني بعد أن دخلت الى أسواق العالم كلها.
شلهوب الحاضر في كل اجتماع لبناني-صيني -لمناقشة العروض- يلفت الى أنّ وفودًا صينية زارت لبنان أكثر من 6 مرات خلال السنوات الأخيرة، وأبدت كل استعداد لإنجاز عدة مشاريع. ولم يعد سرًا أنّ ثمّة عروضاً كثيرة طُرحت وكتباً رسمية أرسلت لرؤساء حكومات ووزارء لإقامة عدّة مشاريع منها إنشاء معامل كهرباء وإنجاز سكة حديد من طرابلس حتّى طبرجا، وإنشاء نفق ضهر البيدر على طريقة الـ “BOT”، ولكن كمن يضرب في حديد بارد لا أحد يتّخذ قرارًا، يقول شلهوب.
في كل العروض الصينية لم يطلب الجانب الصيني أي ضمانات لا خارجية ولا من مصرف لبنان. جُل ما طلبه ضمانة وزارة الطاقة والمالية بالتسديد له على مدى 15 عامًا. بحسب شلهوب، حاول الصينيون وفي آخر لقاء -حول الكهرباء- “حشر” الجانب اللبناني فتذرّع الوزير بأنّه لا يوجد أموال في لبنان، ردّ الجانب الصيني بأننا لا نطلب أموالًا طيلة فترة بناء المعامل، وذهب أبعد من ذلك بالقول “نعطي فترة سماح وبعد الجباية نأخذ الأموال”، فردّ الوزير بأنّ أحدًا لا يدفع الأموال في لبنان لنجبيها”. تمامًا كما جرى التذرع بأنّ لبنان يريد “توربينات” أوروبية فوقّعنا اتفاقًا مع شركة سيمنس الألمانية لوضع توربينات “سيمنس” في حال تم المشروع مع لبنان. وهنا يؤكّد شلهوب “لم نترك بابًا إلا وطرقناه لكنهم لا يريدون”.
يتحدّث شلهوب عن تفاصيل العرض الصيني بملف الكهرباء، فيوضح أنّه قائم على بناء ثلاثة معامل كهرباء رئيسية: دير عمار، سلعاتا والزهراني. الصين كانت مستعدة حتّى لتمويل الإمدادات وتسليم المشروع في مدة تتراوح بين 20 الى 25 شهرًا. تكلفة المشروع تبلغ مليار ونصف المليار دولار، فتكلفة كل معمل تتراوح بين الـ400 الى 500 مليون دولار وهذا كان كفيلًا بأن ننعم بكهرباء 24/24 يضيف شلهوب الذي يسأل: “هل يوجد بلد في العالم لا يملك ساعة كهرباء ويرفض العرض الصيني الذي يحقّق له حلم الـ24/24 ساعة كهرباء؟ يسأل شلهوب ويختم حديثه بالقول “لا يريدون حلًا”.