العرب وطريق الشرق المفتوح
موقع العهد الإخباري-
أحمد فؤاد:
ربما كان صادقًا أن نقول باطمئنان إن العالم العربي هو أرض الفرص الضائعة، واليوم بالذات، وسط أنباء وتصريحات قادة مجموعة دول “بريكس” الجارية، وحزمة السياسات الجديدة التي أعلن عنها رؤساء المجموعة الاقتصادية الأهم في العالم، والتي تكاد ترسم لحظة يبدو فيها الخلاص من هيمنة إمبراطورية الشر الأميركية قريبًا، فإن فرصة جديدة ضائعة تضاف إلى القائمة العربية، والمأساة أن الفرصة هذه المرة كبيرة وضخمة، وواعدة.
بداية، فإن الاجتماعات التي يمكن وصفها بكلمة “قمة” قليلة، تكاد تكون نادرة، رغم أن الوصف شاع وابتذل خصوصًا في الإعلام الناطق بالعربية، وأقل منها اجتماعات دولية تشكل ميلاد لحظة تاريخية أو فارقة، وقمة البريكس التي جرت في جنوب أفريقيا يمكن لنا بكثير من التفاؤل والثقة وصفها بأنها قمة دولية فارقة، تجمع بين أطراف وازنة على الصعيد الدولي، وتمثل رقمًا مهمًا من الاقتصاد العالمي وعدد سكان الأرض، وكلمات قادة هذه الدول في الجلسات جاءت منسقة، ورغم لغاتها الكثيرة جاءت العبارات الحاكمة واحدة ومتقاربة، والقرارات تتمتع إلى حد بعيد بالقدرة والقوة ومساحة النفوذ والتأثير.
الرئيسان الروسي والصيني، وبواقع أن بلديهما منخرطان في صراع متعدد الأشكال والساحات والأسلحة مع الولايات المتحدة تصدرا الاهتمامات، وبعبارات متشابهة تقريبًا قال فلاديمير بوتين وشي بينغ إن “مجموعة بريكس تسعى لإنهاء هيمنة الدولار الأميركي على المبادلات التجارية العالمية”، وكذلك قال الرئيس البرازيلي لولا دا سيلفا إن “الدافع الذي أدى لإنشاء مجموعة بريكس يلهم قادة المجموعة من أجل بناء عالم متعدد عادل ومستدام”.
التغيير الحقيقي أو الثورة على نظام التبادل الاقتصادي العالمي القائم على الدولار الأميركي وحده، لم يعد أحلامًا بعيدة أو آمالًا معلقة في الهواء، وكسر ما كانت تبثه الدعايات الغربية المكثفة من أن الصين تسعى لإحلال اليوان مكان الدولار بشكل تدريجي، أي وضع غول أصفر مقابل خروج الغول الأخضر، ما أعلنته دول مجموعة “بريكس” هو إصلاح للنظام النقدي الدولي باستبعاد خضوع العالم لسطوة عملة محددة، سواء أميركا أو الصين أو أوروبا، وإلغاء فكرة عملة الاحتياط الدولية، عبر نظام معاملات جديد يقوم على تسوية التبادلات الدولية بالعملات المحلية، وفق طريقة تسوية المعاملات بين روسيا والصين الآن، على سبيل المثال، حيث يجري التبادل التجاري بينهما بالعملات المحلية اليوان والروبل.
الواقع أن هذا التوجه العالمي الجديد يتسق مع المعطيات والحقائق الفعلية، فلم يعد الاقتصاد الأميركي هو الأضخم في العالم، ولا عاد الدولار هو الحاكم بأمره دون شريك ولا تهديد في الأسواق والمبادلات، صندوق النقد الدولي –وهو جهة أميركية الميول والأهداف- يقول إن نسبة الدولار في سلة احتياطيات البنوك المركزية حول العالم قد تراجعت من 71% في العام 1999 إلى 59% في الربع الرابع من العام 2020، كما تراجعت تلك الحصة حاليًا لأقل من 48% من احتياطيات البنوك المركزية لكل بلدان العالم، مع تزايد المخاوف والارتدادات من تعامل الاحتياطي الفيدرالي الأميركي مع أزماته الاقتصادية، ومحاولة عبورها عبر تصدير التضخم لباقي العالم وجني الأرباح على حساب الجميع.
الناتج المحلي الأميركي، والذي كان يسند ويعزز مكانة الدولار وهيمنته المطلقة على أسواق العالم، عقب الحرب العالمية الثانية، التي خرج منها الجميع خاسرًا مدمرًا إلا الولايات المتحدة، كان يمثل 45% من الإجمالي العالمي، ثم بدأت النسبة تقل تدريجيًا وتتراجع إلى أن وصلت إلى 23.2% من الإجمالي العالمي في 2015، ثم إلى 19% حاليًا عند حساب الناتج المحلي الإجمالي وفقًا لطريقة تعادل القوى الشرائية، بينما اندفع الاقتصاد الصيني من الصفر تقريبًا إلى 14% من الناتج المحلي الإجمالي العالمي في 2015، ثم يدور اليوم حول مستوى 23% من الإجمالي العالمي وفقا لتعادل القوى الشرائية.
كذلك فإن أرقام منظمة التجارة العالمية تمنح بعدًا جديدًا لعملية كسر هيمنة الدولار، وفي نشراتها تقول المنظمة إن قيمة الفائض التجاري الصيني في العام 2021 تخطت نحو 675 مليار دولار، مقارنةً بعجز تجاري أمريكي بلغ 1181 مليار دولار، بما يعني أن اليوان الصيني وفي مقارنة مع الدولار الأميركي معزّز بفوائض ضخمة في الميزان التجاري وميزان الحساب الجاري الصيني، والأمر ذاته مكرر في تقرير آفاق الاقتصاد العالمي 2023، الصادر عن البنك الدولي، الذي يقول إن الفائض الصيني يبلغ نحو 2.3% من الناتج المحلي الإجمالي في العام 2022، مقارنةً بعجز أمريكي بلغ نحو -3.6% (بالسالب) في العام ذاته.
القصة التي نحن بصددها معقدة إلى أبعد حد، وبدأت تأخذ منحنى جديدًا ودقيقًا للغاية، كونها ليست تغييرًا اعتياديًا في قواعد التعامل التجارية بين الدول وتسوية التبادل العالمي، بل هي قضية كسر الذراع الطويل لإمبراطورية امتلكت من أسباب النفوذ ما لم تحلم به أية إمبراطورية سبقتها في التاريخ الإنساني المعروف، ثم إن هذه الورقة الخضراء –الدولار- صارت عنوان قوتها والتعبير الأمثل عن هيمنتها وأخطر أسلحتها وأمضاها، وتكمن فيها مفتاح استمرارها أو مبتدأ سقوطها، في آن.
لكن المؤلم في هذه الحكاية كلها أن الدول العربية لم تحضر، سواء على المستوى الرسمي في “بريكس” حيث لا نمتلك مقعدًا في هذا التجمع العالمي الأهم، ولا على مستوى رفع الوعي بما يجري في العالم من تغيرات كبرى، وارتباطها بالأزمة العربية الصعبة الحالية، والتي تضرب كل الدول، حتى الدول البترولية التي كانت فيما مضى تضمن لها ثرواتها ونفطها حاجزًا وسدًا عاليًا يبعدها مؤقتًا عن الأمواج والرياح العاتية.
المأساة العربية ليست في غياب الحضور، وهي مصيبة واقعة، لكن في غياب القرار العربي بالأصل، فالعالم العربي كله ليس بلا ثمن، ولا هو كتلة هواء فارغة، بل إن إرادته مربوطة إلى أقصى حد بالرغبات/ الأوامر الأميركية.
التضخم صار هو الكلمة الأكثر تداولًا في العالم العربي، الكل يعاني والكل سيعاني، واستمرار ربط العملات العربية بالدولار الأميركي، واستمرار المبادلات التجارية بين العرب والعالم بالدولار يعني أن الأزمة مستمرة، وكل يوم يضيع بعيدًا عن قرار وقف معاملاتنا بالدولار، والاتجاه إلى الشرق، بكل ما يحمله هذا القرار من معنى ورمزية، والتبادل التجاري مع العالم بالعملات المحلية يعني أن المعاناة لن تتوقف، وهذه الأثمان الباهظة التي ندفعها خصمًا من حقوقنا وإمكانيات حياتنا ستذهب هباءً منثورًا، بلا فائدة.
مع كل قرار جديد برفع الفائدة من الاحتياطي الفيدرالي الأميركي، فإن ما تنتظره الدول العربية، الساقطة في فخ الديون الأجنبية الهائلة، والعاجزة كليًا عن إعادة بناء أو تعديل هياكلها الاقتصادية أو جداول أولوياتها البائسة، سيكون ضربة رباعية مروعة من التضخم وتوقف تدفقات الأموال الساخنة والاضطرار إلى إجراء تخفيض معتبر في عملاتها المحلية، وأخيرًا فجوة أوسع من ذي قبل في الموازنات، وهي المختلة أصلًا، وهي أوضاع مأساوية خصوصًا بالنسبة للطبقات الأفقر، والتي تشرب دائمًا مرارة الخيارات الفاشلة والهوى الغربي لدى الطبقات العربية الحاكمة.