العراق وسياساته الخارجية.. تصحيح المسارات الخاطئة وتعزيز الصائبة
صحيفة الوفاق الإيرانية:
إيران كانت في طليعة الدول الداعمة والمساندة للعراق بعد إطاحة نظام صدام، عبر رفع تمثيلها الدبلوماسي فيه، وفتح آفاق التعاون الاقتصادي معه، ودعم العملية السياسية، والوقوف معه في مواجهة الإرهاب التكفيري المتمثل في تنظيم القاعدة أولاً، ومن ثم تنظيم “داعش”.
لا بد أن يكون من بين أولويات الحكومة العراقية الجديدة، حسم موضوع الوجود الأميركي في البلاد، بإطاره العسكري والأمني.
لعلها مصادفة جيدة، حينما كانت الجزائر أول دولة يزورها الرئيس العراقي الجديد عبد اللطيف رشيد، للمشاركة في الدورة الحادية والثلاثين للقمة العربية، حيث أتيح له أن يلتقي عدداً من الزعماء والقادة والساسة العرب، والذين ربما لن يكون ممكناً اللقاء بهم في مناسبات أخرى وخلال فترة زمنية قصيرة ومحددة.
وإلى جانب القضايا والملفات الإقليمية والدولية التي بحثها الرئيس رشيد مع من التقاهم في الجزائر، كانت تلك اللقاءات فرصة مناسبة جداً لتأكيد ثوابت العراق في سياساته وعلاقاته الخارجية بمحيطه الإقليمي وعموم المجتمع الدولي، ولتجديد دعم أشقائه العرب له، مع خروجه من حالة الانسداد السياسي وتشكيله حكومة جديدة، أمامها العديد من المهمات والاستحقاقات الثقيلة، وتواجه الكثير من التحديات الخطرة.
يمكن اعتبار مشاركة الرئيس العراقي الجديد في القمة العربية الأخيرة وما تخللها من لقاءات ومباحثات، باكورة تحرك الحكومة العراقية الجديدة وعملها على ملف السياسة الخارجية، هذا إذا افترضنا أنه وبحسب الدستور العراقي، تتمثل السلطة التنفيذية بمفصلَي رئاسة الجمهورية والحكومة.
وهنا، فإنه من المهم جداً تسجيل جملة ملاحظات عامة وجوهرية بهذا الخصوص.
الملاحظة الأولى، أنه منذ الإعلان عن ترشيح محمد شياع السوداني من قبل الإطار التنسيقي لرئاسة الحكومة في أواخر شهر تموز/يوليو الماضي، ثم تكليفه رسمياً بتشكيلها من قبل الرئيس المنتخب عبد اللطيف رشيد في 13 تشرين الأول/أكتوبر الماضي، أفرد حيزاً من حراكه لملف السياسة والعلاقات الخارجية، عبر سلسلة رسائل وإشارات ولقاءات مع ساسة ودبلوماسيين عرب وأجانب من دول مختلفة، انطوت على توجهات إيجابية لتحقيق المزيد من الانفتاح في علاقات العراق بجيرانه ومحيطه الإقليمي والفضاء الدولي بما يعزز مكانته، ويكرس سيادته ويوسع مصالحه، فضلاً عن جعله نقطة التقاء وساحة للتفاهم والحوار بين الأفرقاء.
الملاحظة الثانية، تتمثل في أن الحكومة السابقة برئاسة مصطفى الكاظمي، وإن أخفقت في بعض الاستحقاقات الداخلية المطلوبة أو معظمها، إلا أنها سجلت بصمة واضحة في مجال السياسة الخارجية، وعلى مستويين، الأول هو الحضور الملموس في مختلف المحافل الدولية، وتوسيع آفاق العلاقات بقوى إقليمية ودولية متعددة، والثاني، تطويق المشاكل والأزمات والخلافات بين أطراف متخاصمة، عبر تهيئة الأجواء والظروف المناسبة لحوارات بناءة، كما حصل بين إيران والسعودية، فضلاً عن المساهمة في نزع فتيل جملة من أزمات المنطقة، أو التخفيف من حدتها وتطويقها عند مديات وحدود معينة.
الملاحظة الثالثة، هي أن مفتاح الاستقرار الداخلي للبلاد، على الصعد السياسية والأمنية والاقتصادية، يتمثل في طبيعة العلاقات بالأطراف الخارجية، الإقليمية منها والدولية، والتي غالباً ما تكون لديها سياسات ومواقف ومصالح متقاطعة ومتناقضة فيما بين بعضها البعض، ويتطلب التعاطي معها قدراً كبيراً من الحكمة والعقلانية، من دون الإخلال بالثوابت مع تجنب سياسة المحاور والاستقطاب والاصطفاف مع طرف ضد طرف آخر.
والسوداني، قبل نيل حكومته ثقة البرلمان وبعده، أجرى العديد من اللقاءات مع سفراء إيران والولايات المتحدة الأميركية والاتحاد الأوروبي والسعودية ودول أخرى، وكذلك مع مبعوثة الأمم المتحدة، وهي لقاءات، وإن كان طابعها دبلوماسياً بروتوكولياً، ارتباطاً بتولي السوداني رئاسة الحكومة الجديدة، إلا أن “الرسائل المتبادلة” خلالها انطوت على أهمية كبيرة، وأشّرت إلى طبيعة التوجهات والمسارات في التعاطي مع المتغيرات.
ولا شك في أنه مثلما تكون للعراق محددات وأولويات في ترتيب علاقاته بكل طرف من الأطراف، فإن الأخيرة لها الشيء ذاته، ومن الخطأ وغير المعقول أن توضع كل الملفات ومع كل الأطراف في قالب واحد وعلى سكة واحدة.
والنقطة الجوهرية هنا، تتمثل في ضرورة استثمار أجواء الدعم والتأييد الإقليمي والدولي الواسع للحكومة الجديدة في تحقيق جملة أمور، أهمها تعزيز الأوضاع الاقتصادية للبلاد وتحسينها، والعمل على معالجة الملفات والقضايا العالقة، لا سيما ذات الطابع الأمني، وتجنيبها-بأقصى قدر ممكن-الآثار والانعكاسات والإسقاطات السلبية للخلافات والصراعات بين الخصوم والأفرقاء. واليوم، يتردد في عواصم مختلفة، القول “إن التزام رئيس الوزراء العراقي الجديد سياسة خارجية متوازنة وعلاقات جيدة مع جميع جيران العراق يفتح آفاقاً إيجابية للمستقبل”.
لابد أن يكون من بين أولويات الحكومة العراقية الجديدة، حسم موضوع الوجود الأميركي في البلاد، بإطاره العسكري والأمني، وأكثر من ذلك، وضع حد لهيمنة واشنطن على بعض المفاصل المالية والأمنية والاقتصادية الحيوية العراقية، وإعادة النظر ومراجعة الاتفاقية الأمنية واتفاقية الإطار الاستراتيجي، اللتين أبرمتا بين بغداد وواشنطن قبل 14عاماً في ظل ظروف وأوضاع استثنائية ضاغطة في حينه.
وهنا يجب الالتفات إلى أن إيران كانت في طليعة الدول الداعمة والمساندة للعراق بعد إطاحة نظام صدام، عبر رفع تمثيلها الدبلوماسي فيه، وفتح آفاق التعاون الاقتصادي معه، ودعم العملية السياسية، والوقوف معه في مواجهة الإرهاب التكفيري المتمثل في تنظيم القاعدة أولاً، ومن ثم تنظيم “داعش”.
وإذا كانت عملية ترتيب علاقات العراق بجيرانه ومحيطه الإقليمي وتعزيزها، تحظى بأهمية كبرى، وتعدّ عاملاً أساسياً في استقراره السياسي، وازدهاره الاقتصادي، وتماسكه الأمني، فإن ترتيب علاقاته بالمجتمع الدولي وتعزيزها، لاسيما القوى والأطراف المؤثرة والفاعلة فيه، والتي تربطها به مصالح تتداخل مع مصالحها وحساباتها في عموم المنطقة، لا يقلان أهمية وضرورة. وقد أثبتت التجارب السابقة، أن رهن إرادة البلاد ومصيرها ومستقبلها في يد قوة عالمية واحدة، كأن تكون الولايات المتحدة الأميركية، وإهمال قوى أخرى مؤثرة وفاعلة، مثل روسيا والصين، كان خطأ فادحاً، وكانت له انعكاسات سلبية هائلة.
فطبيعة المعادلات العالمية، ومساحات التأثير، وتباين الأولويات، ومناهج إدارة الأزمات، كلها مسائل يجب أخذها بالاعتبار عند رسم مسارات السياسات الخارجية وصياغة سياقاتها. فالفرق كبير جداً بين الولايات المتحدة الأميركية التي تتصرف بمنطق الهيمنة والاستعلاء والإملاء، مستعينة بإمكانياتها وقدراتها العسكرية الضخمة، وبين الصين صاحبة الرؤية الاقتصادية العميقة. وفي هذا السياق، يمكن الإشارة إلى ردود الأفعال السلبية لواشنطن حيال الاتفاقية الاستراتيجية مع الصين، التي أبرمت في عهد رئيس الوزراء الأسبق عادل عبد المهدي، أواخر شهر أيلول/سبتمبر عام 2019، وكانت أحد أسباب سعي واشنطن لإسقاط حكومة الأخير، وقبل ذلك، وفي عهد رئيس الوزراء الأسبق نوري المالكي، بذلت واشنطن جهوداً محمومة لإفشال صفقات الأسلحة المبرمة مع روسيا، من دون نسيان مساعيها لقطع الطريق أمام شركة “سيمنز” الألمانية المتخصصة في قطاع الطاقة الكهربائية لإبقاء الساحة خالية لمصلحة شركة “جنرال إليكتريك” الأميركية.
على حكومة السوداني تفعيل الاتفاقية العراقية-الصينية، وعدم حصرها في بناء مجموعة مدارس فقط، والانخراط في مشروع الحزام والطريق الاستراتيجي، وعدم إهمال روسيا، بالرغم من انشغالها بدوامة الحرب وصراعها مع أوكرانيا والغرب. وكذلك مدّ المزيد من جسور التواصل مع قوى ناهضة في الفضاء الدولي، كالهند وباكستان ودول أخرى في أفريقيا وأميركا اللاتينية وآسيا.
وفي الوقت ذاته، يفترض أن يشكل الاقتصاد محوراً ومرتكزاً أساسياً في رسم سياسات العراق الخارجية، فإن ما يجب على حكومة السوداني فعله، هو الفصل والتمييز قدر الإمكان بين الاستحقاقات والحسابات الاقتصادية من جهة، وبين مشاريع وأجندات التطبيع السياسية، التي تتخذ من الاقتصاد بوابة لها من جهة أخرى، ويكفي دليلاً على ذلك، مشروع الشرق الأوسط الكبير، وصفقة القرن، واتفاقيات السلام الإبراهيمي، والشام الجديد وغيرها.
لعل الفرصة مواتية لرئيس الوزراء العراقي الجديد أن يعزز المسارات الصائبة ويصحح المسارات الخاطئة، لا على صعيد الملفات الداخلية الأمنية والخدمية والمالية فحسب، بل على صعيد الملفات الخارجية، التي لا تبتعد في الكثير من محطاتها ومنعطفاتها عن الداخلية.