العراق : شُكْرًا داعِشْ
دار الأمير للثقافة والعلوم ـ
إيمان شمس الدين *:
بعد سقوط الديكتاتور صدام حسين على يد الغزو الأمريكي للعراق بدأت مرحلة جديدة من عهد ديكتاتورية أخرى جاء بها العم سام بشعاراته المعهودة الحرية والديموقراطية، وعلى حسب هذه الشعارات كان يفترض أن يترك الأمريكي للشعب العراقي رسم معالم ديموقراطيته بنفسه كون العراق لا ينقصه النخب والمثقفين وليس طفلاً قاصراً يحتاج لولي يدير له شؤونه، نتج عن ديموقراطية أمريكا نظام سياسي طائفي شبيه إلى حد بعيد بالطائفية السياسية التي وضعتها فرنسا لديموقراطية لبنان.
وبدل أن تكون الديموقراطية قائمة على أسس المواطنة الصالحة ودولة المؤسسات ونظام الكفاءة الوطنية، قامت العراق بعد ديكتاتورية صدام على ديكتاتورية جديدة هي المحاصصة الطائفية وهي الغول الجديد الذي جاءت به أمريكا لتقسيم العراق بشكل هادئ وناعم ، وببذر بذور التفرقة التي تُمَكّن الأمريكان دوما من التواجد في العراق و الهيمنة على موارده المالية وموقعه الجغرافي الاستراتيجي بما يشكله من عمق استراتيجي لأمن اسرائيل ،خاصة أنها رسمت ضمن نظام الطائفية السياسية حزام أمني بالاتفاقيات الأمنية بينها وبين حكومة العراق ، وبالشركات الأمنية المنتشرة في أرجائه وبأسماء مختلفة ومخترقة مخابراتيا.
هذا النظام وبعد قرابة العشر سنوات أوأكثر لم يحقق للعراقيين إلا مزيدا من الدم والفتنة والفقر والجهل والدمار، خاصة مع ميل الشخصية العراقية غالبا للانقسام ، فتركيبة الشخصية العراقية تركزت في منظومتها الثقافة على الحزبية والتحزب القائم على العصبيات وحكم العائلات والاستنسابات حيث ما زال النظام العشائري متحكم في الذهنية العامة وإن في منطقة اللاوعي العراقي.
وقد بدت في الآونة الأخيرة تطفو على السطح وبشكل واضح وكبير خلافات السياسيين كنتيجة لنظام المحاصصات الطائفي، والذي انعكس على تركيبة مؤسسات الدولة الهشة والجيش العراقي، والذي يفترض أن يُحَيَّدْ كليا عن المحاصصات الطائفية كونه جيش الدولة الذي يحمي المواطنين جميعا ويحويهم تحت مظلته.
وما حصل في الأيام الأخيرة من سقوط سريع للموصل والمناطق المجاورة لها في يد التنظيم الارهابي داعش، كشف الضعف الذي خلفته المحاصصات الطائفية في الجيش ، وفي بنية مؤسسات الدولة، وكشف عن حجم الدمار السياسي الذي كان ثمرة نظام الطائفية السياسية الذي وضعته أمريكا ليبقى العراق في حالة حرب مستمرة، كون العراق ضعيفا يخدم المشروع الصهيوأمريكي ألضل من العراق قويا الذي يخدم مشروع الأمة.
اليوم بعد أن ألْتَفَّ الشعب العراقي وسياسيوه حول الجيش وتلاحمت كثير من القوى السياسية وانضوت تحت الدولة، بات لزاما علينا أن نقول ” شكراً داعش” على الغباء العسكري والسياسي الذي قمتي به.
فما حصل كشف فشل النظام المحاصصي ، وأثبت ضرورة إعادة النظر في الخصومات السياسية التي كرسها هذا النظام، بل أثبت ضرورة تشييد معادلة الدولة والجيش والمقاومة الشعبية، شريطة ان تقوم الدولة على نظام جديد هو نظام المواطنة الصالحة التي تتكئ على الكفاءة وليس على الانتماء المذهبي والطائفي.
اليوم هي فرصة كبيرة للتقييم والالتفاف حول العراق والجيش، فرصة للعراق ليقدم نموذجا ديموقراطيا جديدا مازال يهابه الجيران في الخليج وعملوا على عدم ولادته ووأده في مهده من خلال دعمهم للارهاب والتفتيت الطائفي ،فالعراق الديموقراطي بتمايزاته الطائفية في حال نجحت ديموقراطيته سيهدد الوراثة العائلية للحكم به ، وسيشعل نار المطالبات الشعبية في الخليج للاحتذاء به، وهو ما يهدد هذه الكيانات من جهة ويهدد النفوذ الأمريكي القائم على هذه الأسر الحاكمة وتحالفاته معها وفق مصالحة تقوم على استمراريتها في الحكم وحماية هذه الاستمرارية في قبال تحولها لأداة طيعة في يده تخدم أهدافه الاستعمارية بخبث ناعم.
لذلك كان الخيار الأنجع هو العراق المفتت بالطائفية السياسية، والمتهالك بالفساد والفقر والجهل رغم ما يملكه من ثروات.
وهو ما بذل لأجله كل الامكانات المتاحة من دعم عسكري وبشري ضُخَّ به إلى العراق من دول الجوار لينشروا الموت في كل مكان وليزرعوا من جثث العراقيين شوكا في طريق نهضة العراق.
اليوم على الشعب العراقي الذي أظهر وعياً كبيراً في القتال ضد التكفيريين، أن يظهر وعيا أكبر للنضال ضد نظام الطائفية السياسية وذلك بالطلب من المسؤولين عمل استفتاء شعبي على النظام السياسي الأصلح لحكم العراق.
فصناعة الدولة تكون من رحمها وليس بتلقيح صناعي من المحتلين، واليوم فرصة ثمينة لإعادة العراق لأحضان أبنائه بعد غياب دام أكثر من ١١ عاما في أحضان المشروع الصهيو أمريكي، وقد بدأت الخطوة من موقف العراق من حرب سوريا وهو موقف إقليمي أحكم حلقة المحور المقاوم، وعلى العراق إكمال هذه الخطوة بخطوات داخلية تحول نظامه الهش إلى نظام قوي صعب الاختراق وهذا يتطلب تظافر كل الجهود والتعالي على الخلافات الشخصية والاستنسابات العائلية والعشائرية.
فتجربة لبنان تجربة ماثلة يمكن الاستفادة من إيجابياتها والأخذ منها بما يناسب العراق، فالانشقاقات المستمرة والخلافات المستديمة بين التيارات السياسية والتي جلها قائم للتكسب وإحراز سلطة أو منصب لا تبني وطنا ولا إنسانا، بل هي قفز على جراح العراق ومصلحة العراقيين لأجل مصلحة تيار أو حزب أو وجاهة أو شخص وعائلة، وقد آن الأوان لإدراك حجم الخطر وحجم المسؤولية الموكلة على كاهل السياسيين، فالتاريخ يكتب أحداثه بالدم والأجيال إما تلعن شخوصه في المستقبل، أو تنعم بإنجازات هذه الشخوص وهو أمر مازال موكل إلى إرادة الشعب والجيش والسياسيين في التغيير بعد أن كشفت داعش الحقيقة وجمعت الشتات على حربها ورفض الإرهاب، و أبانت حجم الوعي الذي يملكه هذا الشعب رغم الفساد الذي أنهكه وقض مضجعه وأخر كل مقومات التنمية البشرية.
حفظ الله العراق وشعبها من كل مكروه.
* إيمان شمس الدين : كاتبة وباحثة