العراق: بين طي صفحة الربيع الأميركي والعودة إلى معركة فرض رحيل القوات الأميركية
جريدة البناء اللبنانية-
حسن حردان:
يبدو أن واشنطن قد اصيبت بالخيبة في محاولتها تعويم هيمنتها على العراق، وبالتالي فشلت في إحداث انقلاب سياسي تطيح وتقصي من خلاله قوى المقاومة عن السلطة لمصلحة تفرّد القوى الموالية للولايات المتحدة
هذه الخيبة وهذا الفشل خيّما على الإدارة الأميركية في أعقاب تسمية محمد السوداني لتأليف الحكومة العراقية، ومن ثم نجاحه في تشكيل حكومة يغلب عليها الاتجاه الرافض للهيمنة الأميركية، واستطراداً إقدامها على إجراء تغييرات وتعيينات في مراكز حساسة، أمنية وعسكرية وحكومية مسّت بمراكز النفوذ الأميركي، واعتبرت بداية لمرحلة جديدة في العراق، أحبطت معها اهداف الربيع الأميركي الذي استهدف إحداث انقلاب سياسي يمكن الفريق الموالي لواشنطن من السيطرة على السلطة وإعادة فرض الهيمنة الأميركية الكاملة على العراق، بما يحقق للولايات المتحدة هدفها في إقصاء وعزل قوى المقاومة العراقية، وصولاً إلى حلّ قوات الحشد الشعبي التي لعبت دوراً أساسياً في الحاق الهزيمة بتنظيم داعش الإرهابي المصنع أميركياً لتبرير عودة القوات الأميركية إلى العراق بعد انسحابها منه عام 2011 تحت ضغط ضربات المقاومة العراقية..
فمنذ تشكيل حكومة السوداني سارع «معهد واشنطن» إلى تنبيه الإدارة الأميركية من إقدام السوداني على المسّ بمراكز النفوذ الأميركي في الأجهزة الأمنية والعسكرية وغيرها من المواقع الحساسة التي زرعت فيها عناصر موالية للولايات المتحدة تنفذ توجهاتها وتعليماتها.. وبعد إقدام حكومة السوداني على إحداث هذه التغييرات التي مسّت بمواقع النفوذ الأميركي داخل مؤسسات وأجهزة الدولة العراقية، شنّ معهد واشنطن حملة ممنهجة ضدّ السوداني واصفاً إياه بـ «مدير تكنوقراطي» لقوى المقاومة، مما يكشف حجم الانزعاج الأميركي من إجراءات حكومة السوداني.. على انّ الأمر لم يقتصر على ذلك لا سيما بعد ان أعربت واشنطن عن قلقها من عودة بغداد إلى طرح مسألة إنهاء وجود القوات الأميركية في العراق، مما يضع نهاية لالتفاف واشنطن، بالاتفاق مع حكومة مصطفى الكاظمي السابقة، على قرار البرلمان العراقي بمطالبة القوات الأميركية بالخروج من العراق، وهو الأمر الذي ركز عليه أمين عام عصائب أهل الحق قيس الخزعلي بقوله في مقابلة له،
«سيبدأ القائد العام (أي رئيس الوزراء) عملية مفاوضات حقيقية. وأُشدد على أنها يجب أن تكون حقيقية وغير شكلية أو خادعة، كما جرت العادة في الماضي (في عهد رئيس الوزراء الكاظمي)، وذلك للتوصل إلى اتفاقٍ على أساس نقطتين هامتين هما السيادة والدستور. وهذا ما ننتظر حدوثه الآن».
أضاف الخزعلي: أنّ «المقاومة» لا تضغط حالياً على رئيس الوزراء محمد السوداني للبدء بهذه المفاوضات لأنّ «هناك فهماً لحجم المشاكل التي يواجهها رئيس الوزراء و(لإعطائه) الوقت». وأضاف: «لكن هذه مسألة لن نرضى أبداً بحلّ وسط بشأنها. إن الوجود العسكري للولايات المتحدة غير قابل للتفاوض، ولن نقدّم أبداً حل وسط (في هذا الصدد)».
وبالفعل فقد أعلن رئيس الحكومة العراقية أنّ بلاده ستفتح حواراً مع قوات التحالف في بلاده بقيادة واشنطن لتحديد مدى الحاجة اليها .
وأشار محمد السوداني في أول مؤتمر صحافي يعقده كرئيس للحكومة الى «أن لديه تخويلاً وتفويضاً من القوى السياسية بإجراء حوار مهني فني مع قوات التحالف الدولي التي تقودها الولايات المتحدة في العراق «لتحديد الحاجة من تواجد التحالف الدولي كأعداد تتعلق بالمستشارين وكمهام للتدريب والمشورة وتبادل المعلومات، وفي ضوء ذلك ما سيتمخض من قرار حكومي ستلتزم به كلّ الأطراف السياسية وسنشرع باستكمال هذا الحوار وفق ما مخطط له».
وأضاف أنّ توجه حكومته يؤكد أنّ دور العراق الطبيعي هو أن يكون محوراً في المنطقة، وهذا الدور الريادي يجب أن يبقى ويستمر ويكون نقطة لالتقاء مصالح الدول بالمنطقة، ومن مصلحة العراق أن يقوم بهذا الدور ويقيم أفضل العلاقات وفي الوقت نفسه يحقق الاستقرار في المنطقة اذا كان هناك نوع من التوتر بين هذه الدولة أو تلك.
وبعد ساعات من تصريحات السوداني ردّت السفيرة الأميركية في العراق ألينا رومانوسكي عليه بالقول «إنّ بلادها لن تنسحب من العراق ولديها التزام طويل الأمد مع هذا البلد وأولويات منها تنفيذ الاتفاقية الاستراتيجية الموقعة بينهما عام 2008».
غير انّ هذا التعارض الواضح بين توجهات حكومة السوداني، والإصرار الأميركي على رفضها إنما يعكس الانجاه نحو اقتراب التصادم بين حكومة السوداني من جهة، والولايات المتحدة من جهة ثانية، والذي بدوره من المرجح ان تعود معه هجمات المقاومة العراقية ضدّ القوات الأميركية لرفض الأخيرة الاستجابة لطلب العراق بالانسحاب مما يجعل منها قوات احتلال.. وهو ما يعيد الأمور إلى المرحلة التي أعقبت قرار البرلمان المطالب بانسحاب القوات الأميركية.. والذي تمّ إجهاضه بعد استقالة حكومة عبد المهدي وتشكيل حكومة الكاظمي..
انّ ما تقدم يشكل دليلاً قوياً، برأي معهد واشنطن، على أن «المقاومة» أصبح لها الآن كلمة رفيعة عندما يتعلق الأمر بالقرارات الاستراتيجية التي تتخذها الحكومة، وهو امتياز لم تكن تتمتع به في عهد رئيس الوزراء الكاظمي. ويفسّر ذلك لماذا بدا الخزعلي راضياً جداً عن السوداني كرئيس للوزراء عندما قال: «في الماضي، كانت لدينا اعتراضات وملاحظات (لأنني) كنت أعرف أنّ نوايا الحكومة السابقة أو رئيس الحكومة السابقة كانت سيئة، لذا وقفنا ضدّ (تحركاته). وفي الوقت الحالي، رئيس الوزراء هو رئيس وزراء «الإطار التنسيقي»، وبالتالي لا توجد شكوكٍ حول وجود نوايا سيئة».
لهذا يرى «معهد واشنطن» بانّ ملاحظات قيس الخزعلي تعكس «الثقة العالية التي تشعر بها «المقاومة» في هذا الوقت. ويُظهر تصريحه عن خضوع «القرارات السياسية والاقتصادية والأمنية» لسيطرة «الإطار التنسيقي».
انطلاقاً مما تقدّم يمكن تسجيل ما يلي:
أولاً، انّ خطة الانقلاب الأميركي التي بدأت عبر تظاهرات واحتجاجات تشرين الأول عام 2019 والتي أطاحت بداية بحكومة عبد المهدي واتفاقها مع الصين، قد فشلت، ولم تنجح في إتمام الانقلاب بعد الانتخابات النيابية خصوصاً بعد ان اختلت التوازنات النيابية لمصلحة الإطار التنسيقي اثر استقالة نواب التيار الصدري…
ثانياً، إنّ محاولة الالتفاف على قرار البرلمان العراقي الداعي إلى انسحاب القوات الأميركية، قد اخفقت مع عودة حكومة السوداني إلى طرح القضية من جديد، واستعداد قوى المقاومة لاستئناف هجماتها ضدّ القوات الأميركية اذا ما أصرّت واشنطن على رفض الاستجابة لطلب العراق بالرحيل عن العراق..
ثالثاً، انّ سعي واشنطن إلى استخدام الأراضي العراقية قاعدة انطلاق للتدخل في شؤون إيران الداخلية واثارة الاضطرابات وتنفيذ أعمال إرهابية وتخريبية في طريقها هي الأخرى للفشل بعد زيارة السوداني إلى طهران واجتماعه مع المسؤولين فيها واعلانه عن رفض السماح بأيّ اعتداء على إيران انطلاقاً من الأراضي العراقية…
رابعاً، انّ خطة واشنطن لإعادة إقفال الحدود بين العراق وسورية واستطراداً منع البلدين من التواصل والتنسيق برياً مع إيران، ووضع حدّ لتعاونهم في مواجهة داعش وقوات الاحتلال الأميركية، لم تنجح أيضاً، مع تعزيز نفوذ قوى المقاومة في داخل مؤسسات الدولة العراقية…
خامساً، انّ العراق مقبل عاجلاً ام آجلاً على فتح معركة فرض رحيل القوات الأميركية عن العراق، باعتبارها شرطاً لتحقيق سيادة واستقلال العراق ووضع حدّ لعدم الاستقرار السياسي والأمني الذي تتسبّب به هذه القوات، الأمر الذي سيؤدي إلى إجبار واشنطن على سحب قواتها من سورية لفقدانها الدعم الذي كانت توفر لها قواعدها في العراق…
في الخلاصة، انّ حكومة السوداني، بعد ان طوت صفحة الربيع الأميركي، يبقى عليها استكمال ذلك بفرض رحيل القوات الأميركية، وإحياء الاتفاقية الاستراتيجية مع الصين لإخراج العراق من أتون أزماته…