العالم نحو حرب باردة جديدة
وكالة أخبار الشرق الجديد ـ
غالب قنديل:
ما جرى في الأيام القليلة الماضية في كواليس الجمعية العامة للأمم المتحدة يعبر بصورة عميقة عن تشكل توازنات عالمية جديدة تنهي عهد الهيمنة الأميركية الأحادية وتؤسس لواقع دولي جديد من أبرز سماته أننا ذاهبون إلى حرب عالمية باردة لا تشبه في مكوناتها الحرب الباردة التي عاشها العالم في النصف الثاني من القرن الماضي بين الاتحاد السوفياتي والولايات المتحدة.
أولا: يخيل إلى بعض المحللين أن انتهاء الهيمنة الأحادية الأميركية يقود تلقائيا إلى قيام العالم المتعدد الأقطاب المحكي عنه وما يحلو لبعض المتسرعين وصفه بالنظام الدولي الجديد، لكن التمعن في حقيقة ما جرى يقود إلى الاستنتاج أن القوى الصاعدة في العالم ومنها حلف المقاومة في المنطقة بقيادة روسيا وبدور محوري لإيران وبفعل صمود سوريا تمكنت منذ حرب تموز 2006 من مراكمة توازنات جديدة قادت في اختبار القوة الأخير بعد تهديد أوباما بالعدوان على سوريا إلى خلق توازنات جديدة تمنع المغامرات الحربية التي درجت عليها الإمبراطورية الأميركية منذ سقوط الاتحاد السوفياتي وتعيد الولايات المتحدة وحكومتها وحلفاءها في بريطانيا وفرنسا إلى بيت الطاعة في مجلس الأمن الدولي حيث تسود قواعد متكافئة للصراع العالمي بتعادل القدرة على استعمال حق الفيتو بين الدول دائمة العضوية.
لكن ذلك يعبر عن توازن عالمي جديد تحت سقف امتناع الغزوات والحروب الكبرى لكنه حافل بالصراعات السياسية والتناقضات المحركة للأزمات التي ما يزال جلها معلقا بما في ذلك ما يعتبر لقوة دولية حاسمة هي روسيا أمرا حيويا لا مجال للتفريط به كاستعادة نفوذ روسيا التقليدي في أوروبا السلافية الأرثوذكسية التي ورثتها دول الغرب عن حلف وارسو بعد انهيار الاتحاد السوفياتي.
ثانيا: إن النظام الدولي متعدد الأقطاب يعني تغييرا شاملا في قواعد العمل والعلاقات داخل الأمم المتحدة التي ما تزال في جهازها الإداري والسياسي وأدواتها التنفيذية بدءا من أمينها العام خاضعة بصورة كلية للهيمنة الأميركية وبالتالي فالخلل سيستمر إلى أن تتمكن القوى العالمية الصاعدة التي أنهت عصر الهيمنة الأحادية على العالم من إعادة تكوين مؤسسات الأمم المتحدة وفرض تغيير قواعد عملها والأسس المعتمدة في تركيبها بما في ذلك إدخال أعضاء دائمين جدد كالبرازيل والهند وجنوب أفريقيا وربما لاحقا إيران.
التوازن العالمي الجديد الذي سيترسخ ميزته سقوط الهيمنة الأحادية للولايات المتحدة التي تصرفت طيلة ثلاثين عاما باستعمال قوتها العسكرية في بلطجة دولية غير مسبوقة تعاملت خلالها مع الأمم المتحدة باعتبارها جهازا ملحقا بمخابراتها وبوزارة خارجيتها وظيفتها تنفيذ القرارات والطلبات الأميركية والسير بالأمر بينما كان الشركاء الدوليون الآخرون وبالذات روسيا والصين في حالة انتظار وترقب واعتراض سياسي على العربدة الأميركية في أحسن الأحوال إلى أن أتاح انتصار المقاومة اللبنانية وسوريا وإيران عام 2006 لهذين الجبارين التصرف على خلفية تبدل التوازنات العالمية وحتى أقام صمود سوريا في وجه العدوان الاستعماري فرصة لممارسة حق النقض في وجه الإمبراطورية الأميركية ثلاث مرات وهو ما توج واقعيا بمعادلة الردع الاستراتيجي دفاعا عن سوريا وهي معادلة ختمت عهد الحروب الأميركية والهيمنة الأحادية وردت ملفات النزاع في العالم إلى سلطة مجلس الأمن وتوازناته المحكومة بالفيتو.
ثالثا: في العلاقات بين القوى الكبرى الفاعلة وبصورة خاصة بين الولايات المتحدة وروسيا وكذلك بين الولايات المتحدة وإيران والصين وغيرها من مجموعة البريكس تستوطن ملفات نزاع وصراع وتناقضات كثيرة وهي تؤسس لمنافسة مفتوحة على الطاقة والموارد في العالم وعلى الأسواق التجارية وستبقى محركا مولدا للتناقضات وللاستقطاب الحدي على المستوى العالمي دون إتاحة انحدار الأمور نحو حافة المواجهات العسكرية الدولية وحيث سوف تتحكم من الآن فصاعدا في جميع الأزمات وعلى صعيد جميع دول العالم الثالث التوازنات المحلية بينما تلجأ القوى الفاعلة والمتحركة في أقاليم الصراع الدولي إلى أدوات التدخل غير المباشر في سعيها لترجيح كفة هذا الفريق أو ذاك وهو ما يميز مناخ الحرب الباردة الجديدة التي لا يحكمها تقاسم ثابت لمناطق النفوذ على طريقة يالطا كما يهيأ للبعض ففي يالطا جرى تقاسم النفوذ بين الاتحاد السوفياتي والولايات المتحدة على أساس خطوط التماس الجديدة بعد الحرب العالمية الثانية الناشئة عن انتشار جيشي الدولتين الأعظم ودار بعد ذلك الصراع على النفوذ في الأقاليم الواقعة خارج تلك الخطوط أما في الظرف الحاضر فلا خطوط تماس واضحة لمواقع النفوذ بل تداخل وتشابك يشمل الكرة الأرضية في حركة المصالح والتحالفات وبالتالي لا تسويات جاهزة وشاملة لكل القضايا والصراعات بل قواعد جديدة للاشتباك والمنافسة في حرب باردة جديدة تشترك فيها القوى العظمى النافذة في العالم ومنها في منطقتنا إيران التي استطاعت بفضل صمودها مع حلفائها وتمسكها باستقلالها وتطورها الهائل اقتصاديا وتقنيا أن تفرض الاعتراف الأميركي بدخولها إلى نادي الكبار.