العالم كما يراه فلاديمير بوتين
صحيفة البعث السورية-
هيفاء علي:
كان فلاديمير بوتين هو المتحدّث الرئيسي هذا العام في “منتدى فالداي” السنوي الثامن عشر الذي انعقد الأسبوع الماضي في مدينة سوتشي، وكان الموضوع العام هو الاضطرابات العالمية في القرن الحادي والعشرين: “الفرد والقيم والدولة”.
وقد تناول بوتين هذا الموضوع بشكل مباشر، حيث اعتبره مراقبون بالفعل أحد أهم الخطب الجيوسياسية في التاريخ الحديث لجهة وضعه في دائرة الضوء. وكما هو متوقع، فإن الأطلنطيون والمحافظون الجدد وأنصار التدخل الليبرالي سوف يحوّلون الأمر إلى جلطة دماغية، ولكن بالنسبة للمراقبين غير المتحيّزين، وخاصة في جنوب الكرة الأرضية، ما يهمّ هو إيلاء اهتمام وثيق لكيفية مشاركة بوتين في رؤيته للعالم، ولاسيما في أوقات الصراحة الشديدة.
وفي إشارته إلى الشراكة الإستراتيجية بين روسيا والصين، قدم تقييماً موجزاً للرقعة الحالية: “إعادة تنظيم ميزان القوى يعني ضمناً إعادة توزيع الحصص لمصلحة البلدان الناشئة والنامية التي شعرت، حتى الآن، بأنها مستبعدة. لتوضيح الأمر فإن الهيمنة الغربية على الشؤون الدولية، التي بدأت منذ عدة قرون وكانت لفترة قصيرة شبه مطلقة في نهاية القرن العشرين، تفسح المجال لنظام أكبر بكثير وأكثر تنوعاً”.
أما فيما يتعلق بالحرب الهجينة كطريقة عمل جديدة، فقال بوتين: “في السابق، كانت الحرب التي يخسرها أحد الأطراف تعني النصر للطرف الآخر، الذي تحمّل مسؤولية ما حدث. هزيمة الولايات المتحدة في حرب فيتنام، على سبيل المثال، لم تجعل فيتنام “ثقباً أسود”. على العكس من ذلك، ولدت هناك دولة نامية، والتي، في الحقيقة، يمكن أن تعتمد على دعم حليف قويّ. الأمور مختلفة اليوم لا يهمّ من له اليد العليا، الحرب لا تنتهي، إنها فقط تغيّر شكلها. وكقاعدة عامة، يكون الفائز الافتراضي متردداً أو غير قادر على تأمين انتعاش سلمي من الحرب، ولا يؤدي إلا إلى تفاقم الفوضى والفراغ الذي يهدّد العالم”.
في عدة مناسبات، وخاصة أثناء الأسئلة والأجوبة، أكد بوتين أنه معجب بـ نيكولاي بيردياييف الذي كان فيلسوفاً وعالماً لاهوتياً. وسبب هذا الإعجاب أنه في فلسفة التاريخ لـ بيردياييف، يتمّ تعريف معنى الحياة من حيث الروح، بينما تؤكد الحداثة العلمانية على الاقتصاد والمادية. وبالنسبة لـ بيردياييف، فإن التاريخ هو طريقة لحفظ الوقت بحيث يعمل الإنسان من خلاله من أجل مصيره، “إن العلاقة بين الإلهي والإنسان هي التي تشكل التاريخ.. إنه يولي أهمية كبيرة للقوة الروحية لحرية الإنسان”. وفي هذا السياق، أشار بوتين عدة مرات إلى الحرية والأسرة، وأهمية التعليم، وأشاد بتدريبه المهني في جامعة ولاية لينينغراد، وفي الوقت نفسه هاجم ثقافة الإلغاء التي تمّ الترويج لها “تحت راية التقدم”.
على المستوى الجيو- اقتصادي، استغرق مرة أخرى الوقت الكافي للشروع في شرح بارع وكامل -وحتى عاطفي- لعمل سوق الغاز الطبيعي، والرهان المدمّر الذاتي للمفوضية الأوروبية في السوق الفورية، والأسباب التي جعلت “نورد ستريم 2” يغيّر قواعد اللعبة.
وخلال سؤال وجواب، أصرّ بوتين في ردّه على أحد الأسئلة المتعلقة بأفغانستان على أربع نقاط: يجب استعادة الاقتصاد، ويجب على طالبان القضاء على تهريب المخدرات، كما يجب أن يتحمّل المسؤولية الأساسية “أولئك الذين ظلوا هناك لمدة 20 عاماً”، وأخيراً يجب الإفراج عن الأموال العامة الأفغانية. كما أشار بشكل غير مباشر إلى أن القاعدة العسكرية الروسية الكبيرة في طاجيكستان ليست مجرد إكسسوار زخرفي.
وعاد بوتين إلى موضوع أفغانستان، مؤكداً مرة أخرى أن أعضاء الناتو يجب ألا “يتنصلوا من مسؤولياتهم”، موضحاً أن الطاجيك يمثلون 47٪ من إجمالي السكان الأفغان، أي أن الرسالة كانت حول ضرورة وجود حكومة شاملة.
وأكد أن روسيا على اتصال بكل القوى السياسية في أفغانستان، بمعنى أن هناك اتصالات مع مسؤولين حكوميين سابقين مثل حامد كرزاي، وعبد الله عبد الله، وكذلك أعضاء من تحالف الشمال الذين هم الآن في المعارضة.
وحول سياسة العداء التي ينتهجها حلف الناتو إزاء روسيا، أشار بوتين إلى أن موسكو لم تعد تهتمّ بالتحدث مع هؤلاء المهرّجين بعد الآن، كما أكد وزير الخارجية سيرغي لافروف: “لن تتظاهر روسيا بعد الآن بأن بعض التغييرات في العلاقات مع الناتو ممكنة في المستقبل القريب”.
الآن موسكو تتحدّث فقط إلى السادة في واشنطن وبعد كل شيء، لا يزال الخط المباشر بين رئيس الأركان العامة الجنرال جيراسيموف، والقائد الأعلى للحلفاء الجنرال تود وولترز نشطاً. ومع ذلك، يواصل البنتاغون استفزاز موسكو. وها هو وزير الدفاع لويد ريثيون أوستن، الذي أشرف على الهروب الكبير للولايات المتحدة من أفغانستان، يتحدث الآن عن أن أوكرانيا يجب أن تنضمّ بحكم الأمر الواقع إلى حلف الناتو!.