الطلاق الأعظم في العالم “الجهادي”
نغم أسعد – صحيفة السفير
في الجزء الثالث من السلسلة التي تُقدّمها مجلة «فورين بوليسي» الأميركية، يروي «أبو أحمد»، وهو عنصر سوري فاعل في «داعش» شهد توسّع التنظيم الهائل وأمضى أشهراً إلى جانب أعتى المُقاتلين الأجانب، كيف أن تنظيم «القاعدة» لم يتقبّل انشقاق تنظيم «داعش» عنه، لتندلع «الحرب الأهلية» بين الحركات المُناهضة للنظام السوري.
في أيار العام 2013، كان «داعش» مُصمماً على تدعيم مكانته باعتباره القوة «الجهادية» الأكثر رعباً في العالم، لكنه كان أمام تحدّ كبير يتمثّل في كيفية التعامل مع تنظيم «القاعدة».
لم تكن القيادة العليا لتنظيم «القاعدة» لتقبل ادعاءات أبي بكر البغدادي بأحقيته في السلطة، تحديداً بعد كذبه حول أنه كان يُنفّذ تعليمات زعيم تنظيم «القاعدة» أيمن الظواهري. بعد شهر من الاجتماع التاريخي بين زعيم «داعش» وبعض القادة «الجهاديين» الآخرين في كفر حمرة (راجع الجزء الأول)، قامت مجموعة صغيرة من الرجال، بينهم عدد قليل من الحُرّاس المُسلّحين بالسفر سرّاً في مركبتين ضمن الأراضي السورية. تحرّكوا بحذر وهدوء، خوفاً من أن يكتشف أمرهم الجهاز الأمني التابع للبغدادي أو أن يتمّ استهدافهم من قِبَل الجيش السوري.
سُمّيت هذه المجموعة بـ «لجنة خراسان»، وضمّت أعضاء أمضوا سنوات تحت قيادة زعيم «القاعدة» السابق أسامة بن لادن والظواهري في «خراسان»، وهي تسمية إسلامية تاريخية قديمة لمنطقة جغرافية تمتدّ بين إيران وأفغانستان وآسيا الوسطى، وتوجّهوا إلى سوريا نيابةً عن الظواهري.
طلب أحد أعضاء «لجنة خراسان» «أبو أسامة الشهابي»، وهو من الجنسية السورية، من أصدقائه في اللجنة توخّي الحذر الشديد خلال ترحالهم، لأن «لديّ معلومات بأن البغدادي كان يُخطّط لاغتيال أبي ماريا القحطاني (أمير في جبهة النصرة)، لذلك علينا أيضاً أن نكون حذرين»، وفقاً لـ «أبي أحمد».
كانت مهمة «لجنة خراسان» التحقيق في توسّع البغدادي نحو سوريا، وتسليم نتائج التحقيق إلى الظواهري، الذي سيُقرّر، بدوره، ردّة فعل «القاعدة» تجاه الوضع في العراق وسوريا، حيث خرج التنافس بين «داعش» و «القاعدة» (مُمثّلة بـ «جبهة النصرة») عن نطاق السيطرة بوضوح.
في صيف العام 2013، ومع انشقاق جماعات «جهادية»، الواحدة تلو الأخرى، عن «القاعدة» لتُعلن ولاءها لـ «داعش»، دقّت «لجنة خراسان» ناقوس الخطر وصبّت اهتمامها على منافسها في الساحة «الجهادية»، من منطلق أنه إذا لم يستطِع الظواهري استعادة ولاء بعض الجماعات في سوريا، أو على الأقل كبح هذا التمرّد في مهده، فإنه يُخاطر بأن يتحوّل إلى قائد من دون جنود.
تألفت اللجنة من ستة أعضاء منهم: «أبو أسامة الشهابي» (سوري في عقده الرابع من مدينة الباب، وعلى اتصال مباشِر مع الظواهري)، والكويتي محسن الفضلي (ولد في الكويت وقُتِل في غارة جوية أميركية في 8 تموز 2015 في بلدة سرمدا السورية)، وسنافي النّصر وهو رئيس المكتب السياسي لـ «النصرة» (سعودي معروف أيضاً بلقب «أبو ياسر الجزراوي» وقُتِل في غارة أميركية لطائرة من دون طيار في بلدة الدانا الواقعة شمال سوريا في 15 تشرين الأول 2015)، و «أبو عبد الملك» (سعودي آخر قُتِل في الغارة الجوية ذاتها على بلدة الدانا في تشرين الأول).
كان هدف «لجنة خراسان» سياسياً في الأساس. وضع أعضاؤها نُصْبَ أعينهم مهمة إقناع القادة «الجهاديين»، الذين بايعوا البغدادي بالتراجع عن قرارهم. أكد «الشهابي» أن البغدادي «أسّس تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام فقط، لأنه شَعَر بأن النصرة تزداد قوة. لقد عرف بأن الجولاني، زعيم النصرة، كان سيتحوّل إلى قائد كبير»، وأن الظواهري لم يُرسل البغدادي أبداً من العراق إلى سوريا، كما لم يطلب من القادة الآخرين مبايعة التنظيم أو البغدادي نفسه.
وشدّد على أنه أرسل «معظم الرسائل والخطابات (المتعلّقة بالتحقيق) إلى الظواهري، الذي سوف يحكم لمصلحة النصرة، لا لمصلحة داعش».
بدء «الحرب الأهلية»
حتى تلك اللحظة في أيار 2013، كان التنافس بين «داعش» و«النصرة» لا يزال سلمياً. لكن عندما رُجّحت كفّة ميزان القوة لمصلحة «داعش»، حلَّت «الريبة» وقلّة الثقة مكان الصداقة والمودّة بين أنصار الجماعتين. واتهمت «النصرة» «داعش» بتقسيم الحركة «الجهادية» وإضعافها في سوريا، بينما اتهم أعضاءُ «داعش» «النصرة» بالليونة والسير مع التيار.
ومع اشتداد المعركة، كان أعضاء لجنة «خراسان» قد أنهوا تحقيقهم الميداني بخصوص مُخطّطات البغدادي، وبناءً عليه، حكم الظواهري لمصلحة «جبهة النصرة» ضدّ «داعش»، ودعاها لقيادة «الجهاد» في سوريا، موضحاً أن على تنظيم البغدادي العودة إلى العراق.
وفي رسالة نُشرت في 23 أيار 2013، كتب الظواهري: «أخطأ الشيخ أبو بكر البغدادي في إعلانه دولة العراق والشام الإسلامية من دون أن يستأمرنا أو يستشيرنا بل ومن دون إخطارنا».
بعد إعلان الظواهري، شعر بعض الجهاديين بأنّهم خُدِعوا فعكسوا مسارهم وانضموا مُجددا لـ«النصرة». ووفقاً لـ «أبي أحمد»، تخلّى حوالي 30 في المئة من أعضاء «النصرة» عن «داعش»، وعادوا إلى «الجبهة».
في المقابل، أعلنت بعض الفصائل وقوفها على «الحياد» في هذا النزاع المتنامي. فمجموعات مثل «أحرار الشام» و«جند الأقصى» كانوا يأملون بأن يبقوا بمنأى عن ذلك الصراع على السلطة.
أوامر تكميم الأفواه
أصدقاء الأمس أصبحوا أعداء اليوم. حاول كلُّ طرف إقناعَ الآخر بالانشقاق. ولاحظ «أبو أحمد» زيادة مفاجئة في أنشطة شرطة «داعش» السرية. وسرت شائعة في مناطق «داعش» مفادها أن أي شخص يُحاول الانشقاق أو المغادرة سيتمّ قتله مباشرة.
نجاح انقلاب البغدادي في نيسان 2013، وضع «جبهة النصرة» على حافة الانهيار تقريباً. لكنها عادت لتكسب بعض القوة، وبدأت بإعادة تنظيم صفوفها وأقامت تحالفات مع الجماعات «الجهادية السلفية» مثل «أحرار الشام»، وبعض وحدات «الجيش السوري الحر».
عندما وصل التوتر بين المعسكرين إلى ذروته، بدأت «النصرة» و «أحرار الشام» و «الجيش السوري الحر» بطرد «داعش» من إدلب ومن بعض أجزاء محافظة حلب. وفي نهاية المطاف، قرّر تنظيم «داعش» التخلّي عن كامل منطقة شمال غرب سوريا وبسط سلطته في مناطق «الخلافة» في شمال سوريا وشرقها، فيما أصبحت «النُصرة» اللاعب المُسيطر في محافظة إدلب. ولم تعد مناطق الجماعتين «الجهاديتين» مُتداخلة، فلا تكادان تتشاركان حدوداً في ما بينهما. خط الاشتباك الوحيد بينهما يقع في ريف حلب الشمالي. وأصبح حلفاء الأمس يعيشون اليوم في عالمين منفصلين.
في 20 كانون الثاني 2014، أصبح الانقسام بين الجماعتين «الجهاديتين» الأقوى في سوريا نهائياً. في كفرجوم، أعدَّ تنظيم «داعش» قافلة من مئتي عربة مُمتلئة بالمُقاتلين وعائلاتهم وبالأسلحة والرهائن الأجانب. في ذلك الموكب، شاهد «أبو أحمد» ثلاثاً من الحاويات الـ15 المُمتلئة بالمواد الكيميائية التي سبق أن استولت عليها «جبهة النصرة» من «الفوج 111» (راجع الجزء الثاني).
ثمّ علا هدير قافلة «داعش» الفولاذية الضخمة وهي تنطلق شرقاً باتجاه مدينة الرقّة.