#الضاحية تضيق بأهلها: خيار العودة إلى القرية
صحيفة الأخبار – زينب محسن
لم تعد الضاحية الجنوبية لبيروت ملاذ الهاربين. فبعد دفعاتٍ كثيرة من الهجرة إليها، ها هي اليوم تضيق بناسها، الذين صاروا يبحثون عن ملاذ آخر، وجده البعض في العودة إلى مسقط رأسه. لكن، الضيق ليس هو السبب الوحيد، إذ يُضاف إليه لائحة من الأسباب، منها غلاء المعيشة وارتفاع كلفة السكن وتدني الأجور والبطالة، فضلاً عن التلوّث والفلتان الأمني
«المدينة لم تعد تتّسع لنا». بهذه العبارة، اختتم أحمد (اسم مستعار) 35 عاماً من العيش في ضاحية بيروت الجنوبية. بعد هذا «العمر»، وضّب أمتعته وحمل عائلته عائداً إلى بلدته في البقاع، التي لم يعد يربطه بها إلا سجل القيد. فهو لم يولد هناك. وُلد وتعلّم وبنى حياته العائلية في الضاحية، مع ذلك، وجد نفسه هارباً منها.
عوامل كثيرة دفعت أحمد إلى العودة للقرية، أبرزها السكن، فهو كان يقطن في غرفة صغيرة في حيّ السلم، أحد أفقر الأحياء في الضاحية وأكثرها اكتظاظاً بالسكان، وقد اضطرّ في وقتٍ لاحق إلى تقسيمها لقسمين بعدما كبرت عائلته المؤلفة من ثلاثة أولاد.
غرفة لا تزورها الشمس، ولكن تصلها روائح مجاري الصرف الصحي والنفايات في كل وقت، «حيث يوجد بالقرب من بيتنا معمل فرز النفايات في العمروسية».
هذا القرب أثّر بصحّة ابنته المصابة بالربو، وهو ما دفعه إلى اتخاذ القرار بـ«الهجرة العكسية». أما السبب الآخر، فهو الأجر الذي بالكاد يقترب من الحد الأدنى للأجور، والذي لا يستطيع معه استئجار بيت بمواصفات أفضل، ولا يسمح له أصلاً بالتفكير في شراء منزل، ولو كان من غرفة واحدة. هكذا، وجد أحمد في قريته الملاذ الآمن. بيت أوسع قليلاً تدخله الشمس من كل الجهات. حديقة تشكّل متنفّساً لأولاده للعب واللهو. بيئة غير ملوثة أسهمت في تحسّن وضع ابنته الصحي بدرجة كبيرة… وكلفة معيشة أدنى.
ليس أحمد وحده من يترك الضاحية. خليل (اسم مستعار) اتخذ قراراً بـ«نصف» عودة إلى القرية، تمثلت بعودة عائلته إلى الجنوب، فيما بقي هو يعمل في الضاحية، لكونه لم يجد عملاً في القرية. وقد أضاف خليل أسباباً أخرى لقراره بـ”الهجرة العكسية” إلى بلدته، بعدما ضاق ذرعاً بـ«الفلتان الأمني والاجتماعي، حيث كنت أخاف على أولادي من رصاصة طائشة، خصوصاً أننا كنا نسكن في منطقة الليلكي».
كانت بيروت وضواحيها الملجأ الأوّل للآتين من الأرياف بحثاً عن عمل وفرص أفضل للعيش. وقد بدأت موجات الهجرة إليها منذ زمنٍ سحيق، وتحديداً منذ نهاية القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين. وتكثفت الهجرة إليها من الجنوب والبقاع في العقد السادس من القرن العشرين بسبب تركّز النشاط الاقتصادي فيها. ثمّ أتت الحرب الأهلية لتهجّر الكثيرين، فتكفّلت بنزوح الآلاف إلى المنطقة التي ستعرف لاحقاً بالضاحية الجنوبية لبيروت.
بدأت الضاحية تتمظهر وتتوسّع، وبدأت بساتين الحمضيات وأحراج الصنوبر تتراجع شيئاً فشيئاً لمصلحة الإسمنت الذي تمدّد كثيراً بفعل الكثافة السكانية والبناء العشوائي. فمن مجموعة قرى وبلدات تحيط بالعاصمة، إلى مدينة مكتظة تعيش على كتف مدينة أخرى مكتظة، وبات مئات الآلاف يقيمون في الضاحية اليوم على مساحة لا تتجاوز 28 كلم2. ويبدو أن طاقتها على التوسع والانفلاش قد أُشبعت أيضاً، وقد استنفدت كل الأراضي والعقارات في هذه المساحة الضيقة… حتى صارت الضاحية تضيق بأهلها، وبات من هم مثل أحمد وخليل يفتّشون عن فسحة عيشٍ خارجها.
تشرح الدكتورة حلا نوفل، الأستاذة في المعهد العالي للدكتوراه في الجامعة اللبنانية والخبيرة في قضايا السكان والتنمية، أنّ ما يجري «بدأ يأخذ حيّزاً من اهتمامنا ونشجّع طلاب الماجستير والدكتوراه على تناول الموضوع، بعدما لاحظنا ارتفاع وتيرته في السنوات الأخيرة، خصوصاً أن الأبحاث لا تزال معدومة في هذا المجال». مع ذلك، ترفض نوفل أن «نطلق على ما يحدث اسم الظاهرة، في ظلّ غياب الأرقام المبنية على دراسات علمية، فالظاهرة يجب أن تطاول عدداً كبيراً من السكان». تضع ما يحصل في إطاره الذي لا يزال طبيعياً إلى الآن، لأسبابٍ منها «الاقتصادية وغلاء المعيشة في المدينة، خصوصاً مع ارتفاع أسعار الأراضي والمضاربات العقارية، حيث أصبح من شبه المستحيل على أي عامل أن يتملّك بيتاً في بيروت وضواحيها». تتابع نوفل بالقول: «كذلك فإن زيادة الأجور لا تتناسب وزيادة كلفة المعيشة في بلد مثل لبنان، ما يضطر المواطن إلى النزوح لمناطق خارج بيروت وضواحيها أو الرجوع إلى قريته، حيث يستطيع أن يحقق الحدّ الأدنى من حقه بالسكن اللائق، في ظل غياب السياسات الإسكانية وتوجه المطورين العقاريين إلى بناء الأبنية الفخمة والشقق الكبيرة جداً لتلبية حاجات طبقة معينة من الأغنياء، والتي تبقى غالباً فارغة». وهنا، تخاف نوفل من تهجير تصفه بالـ«منظّم» للفقراء تحت عنوان قانون «الإيجارات الجديد، الذي سيُسهم بجعل الهجرة المعاكسة ظاهرة، لأنّه لن يكون أمام المستأجرين القدامى من خيار، فإما أن يغادروا إلى مكان آخر، أو أن يبقوا في الشارع، خصوصاً أن النسبة الأكبر من المستأجرين القدامى هم من كبار السن».
من جهة أخرى، تشير نوفل إلى «أن المساحة هي من محددات الانتشار، بمعنى أن ضيق المساحات في الضاحية وغيرها من الضواحي المحيطة والمتّصلة بالمدينة الأم، والذي وصل إلى حد الإشباع، يدفع الناس إلى الهروب من هذا التكدس، فالأبنية ملاصقة بعضها لبعض، لا مساحات خضراء أو مساحات عامة مشتركة، وتصبح المشكلة مضاعفة إذا ما أضفنا عوامل أخرى مثل أزمة النفايات ووصول نسب التلوث إلى معدلات قياسية». وترى نوفل أن «الإنماء الذي حصل في بعض القرى والبلدات وتوجُّه بعض المدارس والجامعات الخاصة لافتتاح فروع لها في المناطق البعيدة عن بيروت، إضافة إلى المستشفيات والمراكز الصحية، كل هذا أسهم أيضاً في دفع بعض الناس إلى العودة». فأولوية العائلات اللبنانية، بحسب نوفل، هي العمل والتعليم والطبابة، «فإذا توافرت هذه العوامل الثلاثة في منطقة من المناطق يستقرّ الناس في قراهم»، تختم.