الصين تغيّر قيادتها.. قفزة إلى “الاقتصاد الأول”
صحيفة السفير اللبنانية ـ
محمود ريا:
لا أحد يدري أي مصادفة جمعت بين استعداد الصين لتسلم الجيل الخامس من القادة البلاد في المؤتمر الثامن عشر للحزب الشيوعي المنطلق ابتداء من الثامن من هذا الشهر، وبين إطلاق الصين أول هذا الشهر المقاتلة الثانية من الجيل الخامس، وهي المقاتلة «جي ـ 31» التي لا يكتشفها الرادار.
ولكن مصادفة الأرقام والتواريخ لا تُخفي ارتباطاً وثيقاً بين حدثين: تطوير الصين السريع لقواتها العسكرية، واستعدادها لاحتلال مركز قيادي على مستوى العالم.
القوة العسكرية ليست هي وحدها التي توصل الصين إلى المكان الذي يُفترض أن تحتله على مستوى العالم، كما ترى صحيفة غلوبال تايمز الصينية شبه الرسمية، وإنما هناك أيضاً «القوة الناعمة» (السياسة والديبلوماسية وإعطاء القدوة) والقوة الاقتصادية. وفي كل مجال من هذه المجالات تسجل الصين علامات فارقة وترسخ وجودها كقوة مؤثرة في أحداث العالم وتطوراته.
لقد جاء انطلاق الطائرة «جي ـ 31» كخبر مفرح قبل أيام من بدء أعمال مؤتمر الحزب الشيوعي الجديد، لأنه يشكل ـ مع دخول أول حاملة طائرات الخدمة في سلاح البحرية الصينية قبل شهر ـ دليلاً على أن الصين تسلك فعلاً طريق بناء قوة عسكرية قادرة أن ترفد الموقف السياسي الصيني بالقدرة اللازمة لجعله يؤخذ على محمل الجد.
القيادة الصينية تتجه نحو تغييرات شاملة في مؤتمر الحزب الشيوعي، حيث سيتم اختيار تشي جينغ بينغ (نائب الرئيس الحالي والأمين العام المساعد) للأمانة العامة للحزب، ومن ثم رئاسة البلاد، من الرئيس الحالي هو جينتاو، الذي بقي في منصبه مدة عشر سنوات ـ على دورتين ـ وهي المدة التي تعارف عليها التقليد الصيني الحديث للفترة التي يقضيها القياديون الكبار في منصبهم، قبل تسليم الراية لمن يخلفهم من المسؤولين الذين يكونون قد خاضوا تجربة الحكم تحت وصاية الجيل الأكبر والأكثر خبرة.
ومع تغيير رئيس البلاد ورئيس مجلس الدولة (رئيس الوزراء) وين جيا باو، ومعظم أعضاء المكتب السياسي واللجنة المركزية للحزب، تبدو الصين أمام مرحلة جديدة كلياً، بقيادة جديدة وأولويات قد تكون مختلفة إلى حد ما عن الأولويات التي حكمت فترة ولاية الجيل الرابع من القيادة بزعامة هو جين تاو.
والمهمة ليست سهلة أمام الجيل الجديد الذي يواجه عدة فرص وتحديات في وقت واحد، فهو الجيل الذي يفترض أن يشهد انتقال الصين إلى مرتبة الاقتصاد الأول في العالم على مشارف العام 2020، بعد أن أوصل الجيل السابق البلاد إلى المرتبة الثانية، متخطية اقتصاديات عملاقة كالاقتصاد الألماني والاقتصاد الياباني.
كما أن الجيل الجديد سيشهد الترجمة العملية للتوجهات الجديدة للسياسة الخارجية الصينية، والتي تمثلت بإطلاق مبادرة الخروج من دائرة الحذر والتخفي في التعاطي مع القضايا السياسية الإقليمية والعالمية، واتخاذ قرارات حازمة في قضايا عديدة، ما أثار الكثير من التكــهنات حـول ما إذا كانت الصين قد كشّرت عن أنيابها فعلاً، وتركت لمخالب التنين فرصة البروز بعد عقود من اعتماد سياسة التركيز على النهوض الاقتصادي و«ترك السياسة لأهلها».
الجيل الجديد من القيادة مـعني إذاً بالقول للعالم إن الصـين بـدأت بالخـروج مـن «شرنـقة كـونها دولة ناميـة»، التي كان المسؤولون الصينيون يستميتون في إبقائها غطاءً لترددهم في اتخاذ مواقف سياسية دولية حاسمة، وإن الحديث عن الصين كدولة عظمى لم يعد أمراً محظوراً، وإنما بات حقيقة واقعة، تكرّسها مشاعر الفخر التي تشي بها تعليقات الصحف الصينية على التطورات العسكرية والسياسية التي بدأت تشهدها هذه الدولة العملاقة.
وإذا كان السؤال عن كيفية إخراج الصين إلى الملأ كقوة عظمى هو سؤال محوري في المؤتمر الثامن عشر للحزب الشيوعي الصيني، فإن هناك أسئلة لا تقل أهمية مطروحة على هذا المؤتمر، وهي أسئلة تتعلق بالداخل الصيني، وعلى رأسها قضايا الإصلاح الاقتصادي وكيفية محاربة الفساد والسعي لتأمين متطلبات الشعب.
إن هذه القضايا تأخذ حيّزاَ هاماً من اهتمام الخارج، كما من اهتمام الصينيين أنفسهم، الذين يترقبون نتائج المؤتمر، وما سيسفر عنه من مقررات سيكون لها انعكاس حقيقي ومباشر على حياتهم اليومية، فضلاً عن مستقبل بلادهم التي تواجه تحديات اقتصادية وسياسية كبرى، في عالم يعاني من تدهور اقتصادي كبير ومشاكل سياسية تزداد تعقيداً يوماً بعد يوم.
إن الثقة بالنفس، التي يبديها المسؤولون الصينيون وهم يجرون عملية تغيير قيادة الدولة الأكثر سكاناً في العالم، لا تحجب القلق الذي ينتابهم وهم يواجهون حملة إعلامية كبرى تهدف إلى إظهار البلاد غارقة في الفساد وتجاوز السلطة واستغلال النفوذ، والتي كان من أبرز مظاهرها اتهام رئيس الوزراء الحالي وين جيا باو بأنه غطى حصول أقربائه على ثروات كبرى وصلت إلى ملياري دولار، فضلاً عن نكء الجراح فيما يتعلق بموضوع العضو السابق في المكتب السياسي للحزب الشيوعي بو شيلاي، المتهم بقضايا فساد وتستر على جريمة قتل، وغيره من المسؤولين الذين أحيلوا إلى المحاكمة بسبب قضايا مماثلة.
والقلق لا يقتصر على هذه الأمور، وإنما يتخطاه إلى أسئلة كبيرة تحتاج إلى الإجابة عليها في هذا المؤتمر، على رأسها السؤال عن حجم الحريات التي يتمتع بها المواطن الصيني الآن، وإلى أي حد يمكن توسيعها في إطار الرؤية الصينية الخاصة للاشتراكية السياسية و«الديموقراطية المحلية»، إضافة إلى سؤال القوميات، وعلى رأسها ملفا منطقتي سينكيانغ والتبت، اللتين تشهدان من فترة لأخرى تحركات تبدأ من المطالبة بحكم ذاتي أوسع، ولا تنتهي إلا عند حدود السعي إلى الانفصال.
إذا كان العالم قد انشغل خلال هذين الأسبوعين بالانتخابات الأميركية، وما أفرزته من نتائج، نظراً لما ستعكسه هذه النتائج من متغيرات على الكثير من المستويات، فإن المؤتمر الثامن عشر للحزب الشيوعي الصيني ـ الذي يتزامن تقريباً مع هذه الانتخابات ـ احتلّ حيّزاً معيّناً من الاهتمام على المستوى العالمي، بقي دون مستوى ما شهدته الولايات المتحدة الأميركية.
في المؤتمر القادم للحزب الشيوعي الصيني، أي بعد خمس سنوات، لا شك أن صورة العالم ستكون مختلفة تماماً، وقد يتحول ذلك المؤتمر إلى حدث عالمي بكل معنى الكلمة، حدث يترك بصماته على كل السياسة العالمية، ويشعر كل فرد في الكرة الأرضية بتأثيره ـ الإيجابي أو السلبي ـ عليه شخصياً، تماماً كما هو واقع الأمور الآن مع الانتخابات الأميركية.