الشيعة: الطائفة الدافئة
صحيفة السفير اللبنانية ـ
ايمن عقيل :
لم يتصل الشيعة بتراثهم يوماً كما يفعلون هذه الأيام. هذا التراث الذي تقع في قلب إشعاعه العاطفي واقعة كربلاء من حيث هي معادلة واضحة طرفاها المبادئ والموت في سبيل هذه المبادئ. وللمفارقة، نجحت هذه البكائية في تخلل العقيدة السياسية٬ بحيث أن أي جماعة غير الشيعة ستشعر بأن شيئاً ما ليس على ما يرام عندما تعزلها خياراتها السياسية عن العالم الخارجي القريب والبعيد على السواء. على العكس من ذلك، يشعر الشيعة أنهم يشبهون الحسين أكثر الآن. هم غرباء، وحيدون، مبدئيون، ويذهبون بعيداً في خياراتهم. يغلقون عالمهم عليهم، الدفء هو الشعور الطاغي. وحتى عندما تصادف شيعياً «عادياً»، تلمس توصيفاً للراهن على منوال «هذا الليل فاتخذوه جملاً»، بمعنى أنهم يعفون أصدقاءهم من مصير دموي ما يبدو محتوما. هل هو محتوم؟ وإلى أي مدى سيشبه الواقع الكناية والإحالة؟
ليس جديداً أن «الشيعية النضالية» أستلهمت جلّ خطابها من المعجم الكربلائي٬ والمقاومة في الجنوب اللبناني استولدت الواقعة الكربلائية في يوميات الحدث الميداني وكان في الأمر تعبئة دينية ناجحة. ويُسجّل أن السيد حسن نصرالله أخرج الخطاب العاشورائي من الإطار الشيعي إلى الإطار الإسلامي والإنساني الرحب عملياً بعدما كان قد أُخرج سابقاً من قبل علماء شيعة كبار على مستوى النظرية. هو الذي قال إن الحسين يقاتل الآن في غزة وأن إسرائيل هي «يزيد العصر»٬ ما سبّب له المتاعب بين المغالين من الشيعة، وأعدادهم ليست بقليلة على امتداد خريطة الانتشار الشيعي في العالم. لا حاجة للقول إن الأمر لم يشفع له لاحقاً.
والمُلاحظ أن الخطاب الشيعي المقاوم كان كربلائياً٬ ولكن المصير لم يكن عاشورائياً بالضبط. المصير كان انتصارات وإنجازات غير مسبوقة في تاريخ الصراع العربي الإسرائيلي. السؤال هو عن صلاحية هذا الماضي القريب لاستشراف مستقبل اللحظة الإسلامية الراهنة بالغة الحراجة٬ مع عدم استبعاد العامل الإسرائيلي الذي يبدو أنه أنجز صفقة ما مع بعض دول الخليج. اضطراب اللحظة مرده غياب أصدقاء جديون لهم خارج الدائرة الشيعية. حتى بعض فصائل المقاومة الفلسطينية أثبتت أن ولاءاتها المذهبية تفوقت على ما عداها، أمّا التيارات القومية والعلمانية واليسارية فإن وجودها يكاد يكون نخبوياً بحتاً. استثنائية اللحظة تمنح سؤال المصير مشروعية منطقية. هل نحن بصدد عاشوراء معاصرة؟
في استقراء لتجربة «حزب الله»، يُلاحظ بوضوح أنه طوّر أداءه في العمل المقاوم وزاوج بين صلابة العقيدة في العداء ومرونة التكتيك في التنفيذ القتالي. في النهاية، مَن في رصيده تفاهمات تموز 1993 ونيسان 1996 ومَن في عنقه إدارة جبهة باردة على الحدود الجنوبية، من المفترض أنه قادر تماماً على ابتداع دينامية آمنة تعبر به بين مبادئ لا يمكن التنازل عنها وواقع لا بد من قراءته بأمانة. وباستثناء من يرى طرف عباءة المخلص في الأفق، المعطيات تلح على تفعيل المرونة إزاء غربة الشيعية السياسية المطردة في الإقليم، علماً أن صلابة المبادئ نفسها لم تمنع المرونة سابقاً. السؤال هو عن حجم حضور السياسة بوصفها تدبراً حكيماً لأفضل الممكن يمنع الارتهان لحرفية المبادئ، حتى النبيلة منها.