الشرق الأوسط: انسحابٌ أميركيٌ حتمي
صحيفة الوطن السورية ـ
بانكاج ميشرا * ترجمة: عادل بدر سليمان:
حادث مصرع السفير الأميركي في ليبيا؛ «جيه كريستوفر ستيفنز»، مع ثلاثة من موظفيه، والهجمات التي تعرضت لها سفارات الولايات المتحدة في جميع أنحاء العالم المسلم الشهر الماضي، ذكّرت الكثيرين بالعام 1979، عندما حاصر الإيرانيون البعثة الأميركية في طهران. وهناك، أيضاً، وجد المتشددون عند صعودهم، بعد سقوط الشاه؛ طاغية إيران الموالي لواشنطن، وسيلة سهلة لتعزيز مكانتهم. لكن الهوس بالإسلام الأصولي يصرف الانتباه عن تناظر أكثر دلالة ومغزى للحالة الراهنة من الحصار في الشرق الأوسط وأفغانستان. هذا التناظر يتمثل بالحوامات الأميركية التي كانت تحوم فوق سطح السفارة الأميركية في العاصمة الفيتنامية سايغون العام 1975، على حين كانت الدبابات الفيتنامية الشمالية تدخل المدينة. وقد أنهت تلك المغادرة السريعة تورط أميركا الطويل والمكلف في الهند الصينية، التي كانت الولايات المتحدة قد ورثتها، مثل الشرق الأوسط اليوم، عن الإمبراطوريات الأوروبية البائدة. طبعاً لم تكن هناك؛ في جنوب شرق آسيا، موارد طبيعية لإغواء الولايات المتحدة، ولا حليف مثل «إسرائيل» لتدافع عنه. لكن تلك المنطقة بدت أنها تشكل الجبهة الأمامية في المعركة العالمية ضد الشيوعية. وقد حاول صانعو السياسة الأميركية، من دون جدوى، استعمال كل من الحكام المستبدين الوكلاء، وقوة النيران العسكرية، من أجل إرغام السكان المحليين على خدمة المصالح الإستراتيجية الأميركية وتقديمها على مصالحهم الوطنية.
انحسرت اليوم، كما كان متوقعاً، الاحتجاجات العنيفة التي أثارها فيلم «براءة المسلمين»، وعادت السفارات الأميركية إلى ممارسة نشاطها الاعتيادي. لكن الاستدعاء الرمزي للعنف الذي تضمن هجوماً شنته قوات طالبان على واحدة من أكثر القواعد الأميركية تحصيناً في أفغانستان، يظل واضحاً لا لبس فيه؛ حيث يعاد تمثيل دراما تراجع النفوذ الأميركي في الشرق الأوسط وجنوب آسيا، بعد حربين عقيمتين، وانهيار، أو ضعف الأنظمة المتهالكة الموالية للولايات المتحدة. ففي أفغانستان تندلع التظاهرات المعادية للغرب، ويقوم الجنود ورجال الشرطة المحليون بقتل مدربيهم الغربيين. وفي باكستان تندلع التظاهرات احتجاجاً على غارات الطائرات الأميركية من دون طيار، وعلى ما تردد عن حوادث تدنيس القرآن. والمدهش، أن هذه الطفرة في الكراهية العميقة وعدم الثقة في الغزاة الغربيين الأقوياء، المتطفلين والمتحكمين عن بعد، حدثت مرة أخرى كصدمة للعديد من صانعي السياسة والمعلقين الأميركيين، الذين يهربون فوراً إلى ذلك السرد الكسول الأحمق المتمثل بعبارة «إنهم يكرهون حرياتنا».
يبدو وكأن الولايات المتحدة، التي دفعتها القشور السميكة لبعض الإيديولوجيات؛ كالنازية والشيوعية، إلى تبني فهم متعالٍ لسلطتها ورسالتها الأخلاقية، قد غاب عنها الحدث المركزي في القرن العشرين: الصحوة السياسية الثابتة، والعنيفة في كثير من الأحيان، للشعوب التي ظلت طوال عقود عرضة لمساوئ النفوذ الغربي. هذا الإغفال الغريب يفسر سبب استمرار صانعي السياسة الأميركيين في تضييع فرص التسويات السلمية لفترة ما بعد الاستعمار في آسيا. وكان الزعيم الفيتنامي «هوشي منه» قد حاول، بعد أن ارتدى بذلة الصباح وتسلح باقتباسات من إعلان الاستقلال في مطلع عام 1919، إقناع الرئيس الأميركي «وودرو ويلسون» بوضع حد للحكم الفرنسي في الهند الصينية، فخاب أمله. وقد انتهى القوميون الهنود، والمصريون، والإيرانيون والأتراك الذين عقدوا آمالاً على رئيسٍ ظنوه أممياً ليبرالياً أن يقوم بإطلاق «مذهب أخلاقي» جديد في الشؤون الدولية، بخيبة أمل مماثلة أيضاً.
وما كان أي من مناهضي الإمبريالية هؤلاء ليتكلف أي عناء لو أنهم عرفوا أن «ويلسون»، وهو الجنوبي المغرم بالنكات عن «السود»، كان يؤمن بالحفاظ على «حضارة البيض وهيمنتها على العالم». وكان «فرانكلين د. روزفلت» أكثر تصالحية بقليل فقط، عندما اقترح في العام 1940، تهدئة خواطر العرب الفلسطينيين الذين انتزعت منهم ممتلكاتهم بمنحهم «القليل من البقشيش». ولم يغير «روزفلت» رأيه، إلا بعد أن التقى الزعيم السعودي «ابن سعود»، وأدرك أهمية النفط للاقتصاد الأميركي لمرحلة ما بعد الحرب. إلا أن الحرب الباردة، وهوس أميركا بوهم الشيوعية المتجانسة التي تكشف عن وحدة متراصّة، حجبا مرة أخرى ذلك الزخم الذي لا يمكن وقفه لاتجاه التخلص من الاستعمار، والذي كانت تغذيه رغبة جامحة لدى الشعوب المهانة في تحقيق المساواة والكرامة وسط عالم تسيطر عليه أقلية صغيرة من الرجال البيض. في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية، ذهبت التماسات «هوشيه منه» إلى طلب المساعدة من رئيس أميركي آخر هو «هاري إس. ترومان»، من دون أن تفلح أيضاً. وقد تمّ نبذ الزعيم الفيتنامي الذي عمل مع عملاء المخابرات الأميركية أثناء الحرب، باعتباره شيوعياً خطراً. لكن الكثيرين في آسيا، رأوا أن الفيتناميين سوف ينهون الهيمنة الأجنبية على بلدهم، وهي مسألة وقت فقط.
ووفقاً لما ذكر الناقد الأميركي «إيرفينغ هاو» في عام 1954، يعزى ذلك إلى أن العالم دخل في «عصر ثوري» جديد، ساد فيه التوق الشديد إلى التغيير بين ملايين المسيسين في آسيا. وحذر «هاو»، قائلاً: «.. وأي شخص يكسب السيطرة عليهم، سواء بأشكال شرعية أم مشوّهة، سوف ينتصر». وقد تم قمع هذا التطلع الجماهيري للتحول السياسي لوقت أطول بسبب استبدادية الحرب الباردة في العالم العربي؛ لكنه انفجر الآن، ليضعف بشدة قدرة أميركا على التحكم في الأحداث هناك. ونظراً لتاريخها الطويل من التواطؤ مع الطغاة في المنطقة، بدءاً بشاه إيران وليس انتهاءً بحسني مبارك، تواجه الولايات المتحدة الآن عجزاً كبيراً في منسوب الثقة. ولا يشي الاعتقاد بأنه يمكن تجاوز هذا الشك العميق عبر بضعة خطب رئاسية مهدئة، إلا عن جهل مخزٍ بما يسمى العقلية العربية، التي كان يعتقد حتى وقت قريب أنها لا تستجيب إلا للقوة الغاشمة. ليس السلفيون المتطرفون وحدهم فقط مَنْ يعتقدون بأن الأميركيين لديهم دائماً نيات خبيثة: فقد كان المتظاهرون المصريون المناهضون للإسلاميين، الذين رشقوا موكب الوزيرة كلينتون في الإسكندرية بالبيض الفاسد في تموز الماضي مقتنعين بأن أميركا تعقد صفقات مشبوهة مع الإخوان المسلمين. وقلة من الناس في العالم الإسلامي فوتوا استغلال وتلاعب رئيس الوزراء الإسرائيلي الصارخ بالسياسة الأميركية من أجل توجيه ضربة وقائية إلى إيران.
ولا شك أن هناك سنوات قادمة من الفوضى تظل بانتظار الشرق الأوسط، على حين تسعى تيارات مختلفة للسيطرة على الحكم. ويشكل مقتل السفير «ستيفنز»، وهي واحدة من قصص النجاح الأميركي المشهودة في «الربيع العربي»! كما أنها إشارة أوليَّة إلى الفوضى القادمة. كما يؤشر الحادث إلى التداعيات والعواقب التي لا يمكن تخيلها، والمحتمل أن تعقب أي تدخل غربي مماثل في سورية – أو إيران. وكما كان الحال في جنوب آسيا عام 1975، فقد تعرت حدود القوتين العسكرية والدبلوماسية الأميركيتين. ولا يمكن أن ينجح الدعم المالي أو البقشيش، إلا إلى حد معين، مع قادة يناضلون من أجل السيطرة على مصادر الطاقة المتنوعة والشرسة المثيرة للارتباك، التي أطلقها «الربيع العربي».
وعلى الرغم من أنه من غير المستساغ، أقله سياسياً، أن أذكر ذلك أثناء حملة انتخابية، فإن الحاجة إلى انسحاب إستراتيجي أميركي من الشرق الأوسط وأفغانستان نادراً ما كانت أكثر إلحاحاً مما هي عليه اليوم. وهى حاجة قوية بوجه خاص، حيث يقلص تنامى قوة الاستقلال من عبء أميركا في ممارسة دور الشرطي في المنطقة، على حين تخرج عن حليفتها المفترضة؛ «إسرائيل»، إشارات مثيرة للقلق على تحولها إلى مدفع فالت وطليق.
لكن لن يضيع كل شيء إذا ما أعادت أميركا مرة أخرى تكييف حجم حضورها المهتز سياسياً في العالم الإسلامي. ومن الممكن أن تعود العلاقة، مثلما حدث مع عدوتها السابقة فيتنام، إلى علاقة تضمن الاحترام المتبادل. (رغم أن التحشيد العسكري الأخير في منطقة المحيط الهادئ – وهو جزء من «محور آسيا» لإدارة أوباما- يشير إلى تقديرات مبالغ فيها جديدة لحجم القوة الأميركية في المنطقة). إن الجمهوريين الذين يدعون الرئيس أوباما إلى رفع «العصا الغليظة» يتصورون أنهم ما يزالون يعيشون في زمن الرئيس «تيودور روزفلت» وهو القائل: «تحدث بلطف، لكن احملْ عصا غليظة». على حين يرسى الأمميون الليبراليون، بدعوتهم إلى تعامل أميركي أعمق مع الشرق الأوسط، حقبة زمنية مماثلة. ولدى كليهما فكرة مبالغة عن النفوذ المالي الأميركي، بعد أكبر أزمة اقتصادية تمر بها الولايات المتحدة منذ ثلاثينيات القرن الفائت. إنها دول العالم الصاعدة مؤخراً والشعوب المستيقظة هي التي ستتولى تشكيل الأحداث على نحو متزايد في حقبة ما بعد الغرب. ولا مفر من التراجع الأميركي. ويبقى السؤال الوحيد هو إذا ما كان ذلك التراجع سيكون طويلاً وعنيفاً كما كان حال تراجع أوروبا في منتصف القرن العشرين من آسيا وإفريقيا.
بانكاج ميشرا: كاتب بريطاني من أصل هندي، من مؤلفاته: «نهاية العذاب: البوذا في عالمنا»، وكتاب: «غواية الغرب». آخر كتبه حمل عنوان: «من حطام الإمبراطورية: الثورة على الغرب وإعادة صناعة آسيا».
عن (NYtimes).