الشرق الأوسط الجديد.. دقت الساعة
موقع العهد الإخباري-
أحمد فؤاد:
أيام قليلة فصلتنا عن خطاب الأمين العام لحزب الله سماحة السيد حسن نصر الله حاملًا بشرى نصر جديد على الإرادة الصهيونية والأميركية. ومِثل زلزال ضرب الشرق الأوسط كله، لا تزال النتائج تظهر تباعًا، وردود الفعل تنكشف، بعد أن تزول عنها سحابة الغبار والدخان الهائلة.
لكن، وقبل الدخول في أي حديث يخص ما تحقق فعلًا، وعلى أرض الواقع، فإننا أمام نصر إستراتيجي تحقق، وهذا النصر ما كان له أن يتحقق لولا حزب الله. ثم إن هذا النصر ليس فقط وقفًا على قلب معادلة الواقع العربي المخزي والمشين، لكنه يستطيع ببعض الثقة والإرادة والتخطيط السليم أن يرسم مستقبلًا ينطلق من لبنان، ويفيض بألقه على الوطن العربي، تمامًا كما كانت المقاومة هي الإجابة التي خرجت من لبنان لتنقذ الوضع العربي كله.
وكأنما رجل يتحدث إلى نفسه، ويحاسبها أولًا، ثم ينتقل بالحديث إلى الناس، يعرف جيدًا أين يقف، وما هي حدود قدراته، ويؤمن بها، يعرف جيدًا قيمتي الوقت المناسب والكلمة المناسبة، ومن جمال المناسبة التي يتحدث لذكراها، ولجلالها، قدم لنا سماحة السيد حسن نصر الله بالفعل والإرادة، التفسير العملي لصيحة الله المدوية “إذا جاء نصر الله والفتح”.
وكما كانت خطابات اللحظات الحاسمة في حرب تموز 2006، جاء الخطاب الأخير هادئًا، يستشرف تحديات المستقبل قبل أن يخوض في إنجاز الحاضر، ويمنح الحق لأصحابه، ويضيء لنا مساحات جديدة من الرؤية والفهم لما جرى، وحين يريد أن يشتبك مع الواقع المعيش، تتماسك نبرات صوته وتتصل عباراته ببعضها بعضًا، وبنا، ويتدفق كلامه إلى القلوب، كأعذب ما يكون.
وإذا كان تعيين الحدود البحرية، أو بشكل أدق، وضع معادلة جديدة مع العدو عنوانها الردع البحري، فإن سماحة السيد كان دقيقًا وحاسمًا، كعادته، حين صبغ المواجهة بصبغتها الشاملة، التي لا يقوى لا فرضها، ولا حتى على الإعلان عنها سواه، وهي كما قال سماحته نصًا: “هناك من يحمّلنا مسؤولية الخطوط ونحن لا علاقة لنا بخطوط، واذا بتسألني بحرنا وين؟ بقلك: بحرنا يمتد الى غزة ونحن والشعب الفلسطيني مش قاسمين”.
هذه هي الروح والإرادة التي انتصر بها حزب الله في كل مواجهة ضد العدو الصهيوني، فعلى عكس الأنظمة التي تنبطح تحت مقررات الشرعية الدولية – الأميركية في الحقيقة – فإن حزب الله لم يستهدف منذ البداية أقل من فلسطين، ولم يساوم عليها، ولم يرفع راية فلسطين للمتاجرة بها وتحتها، كما فعلت أغلب الأنظمة العربية، وفي أحلك الظروف كان المبدأ واضحًا بسيطًا مباشرًا، فلسطين كل فلسطين.
وقبل مواجهة “كاريش”، وفي كل مرة شهدت صراعًا عربيًا/ صهيونيًا، كان الإنسان العربي -مجبرًا أو مضطرًا – يواجه التحديات الكبرى، معزولًا عن حقائق واقعه منفصلًا عنها، ويخوضها إن أجبرته الظروف مشحونًا بمزيج قاتل من الأمنيات والوهم والنزق الفردي، وهو بالتالي يترك موقعه كله تحت رحمة عواطف جامحة وشعور بالإحباط شديد، وفي كل نهاية تكتب الهزيمة على الرقاب وكأنها قدر مقدور ونهاية طريق لا مفر منه ولا مهرب.
لكن في ملف تعيين الحدود البحرية، كان كل شيء مختلفًا وبشكل جذري عن أية مواجهة سابقة أمام كيان العدو، فإذا كان أبسط تعريف للبصيرة هو أنها فن رؤية ما لا يستطيع الآخرون رؤيته، وإذا كان سماحة السيد رأى منذ البداية أزمة لبنان وطرح حلولها، وأولها بالطبع حقه في استخراج ثرواته البحرية، ولما اصطدم طريق الحل بمخطط الحصار والخنق الأميركي، وضع خريطة واضحة لما اعتبره حقًا وطنيًا مشروعًا للبنان، وحشد كل طاقاته وإمكاناته للخروج من لج الأزمة إلى ضفاف الحل، وأعلن إرادته أمام العالم، واستطاع – ربما للمرة الأولى – أن يوحد كل لبنان على كلمة سواء، ثم هو فرض كامل شروطه على العدو، هل لفرد أن يظن بعد كل هذا أننا أمام حدث أقل ما يوصف به إنه نصر إستراتيجي، ساحق وكامل، وأننا أمام واحدة من لحظات التاريخ الفارقة الكبرى.
وإذا كان الوضع الإقليمي هو قلب الحدث والحديث، فمن الأجدر أن نلقي نظرة أوسع وأعم على الوضع العالمي كله، كما يبدو اليوم. وزير الخارجية الأميركي الأسبق هنري كيسنغر – وإن كان ابتعد قليلًا عن الأضواء مؤخرًا، إلا أنه لا يزال أحد أهم صناع السياسة الأميركية ومخططيها ومنظريها – يقول في كتابه المعنون “النظام العالمي.. تأملات حول طلائع الأمم ومسار التاريخ”، إن النظام العالمي بشكله المعاصر نشأ قبل 4 قرون في أوروبا، وعقب صلح وستفاليا، وأصبح هذا النظام قادرًا على وضع قواعد لعبة لـ “ضبط السلوك”، وبمرور القرون انتقل مركز ثقل هذا النظام، وبتأثيرات ما بعد الحرب العالمية الثانية إلى الولايات المتحدة، بقوتها وقدراتها الهائلة، والتي لم تصبهما أية أضرار مع الصراع الكوكبي الهائل، وتجبر المهزومين على العودة إلى “الأسرة الدولية”، تحت القيادة الأميركية بالطبع، وبالتالي فإنه من اللازم العمل على تأكيد هذه القيادة في مختلف بقاع الأرض وعبر المحيطات.
والذي تابع ملف التعيين، وأزمته منذ البداية، يعلم جيدًا أن المفاوض الأميركي عاموس هوكشتاين، كان يطرح على لبنان إما القبول بالرؤية الصهيونية فورًا أو لا غاز، وكان يقدم مقترحاته للدولة اللبنانية وممثليها واضعًا ساقًا فوق ساق، وكأنه يملي شروط الاستسلام للإرادة الأميركية التي تتطوع بمد يد المساعدة إلى لبنان، ما فعله حزب الله ببساطة هو أنه كسر هذه اليد الممدودة، وانتزع حقه بيده هو، لا بيد هوكشتاين ولا بيد أميركا.