الشرع يتذكّر الأسد؛ آليّة صُنع القرار
[ad_1]
أهمّ ما يكشف عنه نائب الرئيس السوري، وزير الخارجية الأسبق، فاروق الشرع، في مذكراته، هو آلية صُنع القرار في عهد الرئيس حافظ الأسد. في الواقع أن الشرع لا يتذكر سيرته، بقدرما يتذكر سيرة قائده، بل يمكن القول إنه يتذكّر سيرة لا ذاتية، بالنسبة لهما معاً. لا يدعي الشرع أكثر من الممارسة الذكية والمهنية والحازمة لسياسات رسمها الرئيس. تدخلات الشرع، كما يرويها بنفسه، محدودة للغاية، تتمثّل في إعلانه، من دون استشارة المركز، عن مواقف يعرف، بصورة لا لُبس فيها، أن الأسد سيتخذها.
ولكن هذا التعبير يظل ناقصاً. هنالك شيء يمكن تخيّله عن العلاقة بين الأسد والشرع، أنها كانت علاقة تواصل تلباثي؛ كان الشرع يفهم الأسد، بلا رتوش أو قراءة ذاتية أو محاولات للالتفاف، وكان الأسد يثق بالشرع، ويقدّر ذكاءه ومهنيته وقدرته على تلافي ارتكاب الأخطاء.
وفي سياق هذه العلاقة، كان للشرع هامش مهني للمبادرة وتقديم الاقتراحات، حتى تلك التي يعرف أن قوى أساسية في النظام لا تستسيغها. منها، مثلاً، اصراره على إدامة العلاقة مع الزعيم الفلسطيني ياسر عرفات.
كان الشرع، كالأسد، عديم الثقة بعرفات «الذي يغرق في التكتيكات على حساب الاستراتيجية»، وكان يتمنى لو أن الرجل اختطّ طريق نلسون مانديلا، بدلا من خط المناورات (ص 124)؛ لكنه، بالمقابل، رفض القطيعة معه، وعمل، دائماً، على اقناع قائده، لا بتغيير التقييم السوري للزعيم الفلسطيني، وانما باستمرار التواصل معه. ووراء ذلك أن الشرع، على خلاف مسؤولين آخرين، كان يرى اللوحة من خارج سوريا، ويسعى إلى سدّ الثغر في صورة الدبلوماسية السورية.
على كل حال، فإن آلية صُنع القرار في السياسة الخارجية السورية، كما تتضح في مذكرات الشرع، سلسة للغاية، لم تنطوِ ، كما يقدّر كثيرون، على تعقيدات غامضة أو أسرار مقدسة أو مفاجآت؛ فهي تقوم على ثلاثة أسس مترابطة، هي: أولاً، التمسّك، في كل الظروف، وفي مواجهة أقسى التهديدات، بثوابت استراتيجية محددة وراسخة ومقدسة ولا يمكن التزحزح عنها، (راجع الجزء الأول من هذا المقال، «الأخبار»، 18 آذار 2015)، ثانياً، المتابعة الشديدة الحساسية لمتغيرات موازين القوى الدولية والإقليمية، والتعاطي معها في حدود الثوابت الاستراتيجية. ثالثاً، الاحتراف المهني؛ فليست الدبلوماسية هي التي تحدد الثوابت، ولا هي التي تصنع البدائل في مواجهة المتغيرات، وإنما تعبّر عن هاتين العمليتين بأداء مهني رزين وشجاع.
يوضح ذلك جيداً القسم الأخير من مذكرات الشرع، أي المتعلق بعملية السلام من مؤتمر مدريد 1991 وحتى لقاء كلينتون ـــ الأسد في جنيف العام 2000 ( ص223 ــــ 458). لدينا، هنا، نحو عقد كامل من المفاوضات، كان السوريون مضطرين للانخراط فيها بالنظر إلى انهيار الاتحاد السوفياتي ومأساة العراق، ولكنهم تمسكوا، خلالها، بالثوابت الآتية: أولاً، دعم المقاومة في لبنان وفلسطين وتعزيز العلاقات مع إيران والاستمرار في بناء القدرات الدفاعية. ثانياً، تفعيل الدبلوماسية لحماية المقاومة وتأكيد شرعيتها، كما حدث في ابرام «تفاهم نيسان» 1996.
ثالثاً، الاصرار على التفاوض مع العدو، كعدوّ، وعلى أساس موقف عربي موحد، ووفق هدف واضح هو استعادة الحقوق على جميع المسارات في الآن نفسه، ورفض الحل على المسار السوري إلا بعد اقرار الحل على المسارات الأخرى. وحين استسلم النظام الفلسطيني، ومن بعده النظام الأردني، للشروط الإسرائيلية، ظلت سوريا تلح على ربط المسارين، السوري واللبناني. رابعاً، تجنّب التورط في علاقات تبعية للولايات المتحدة. فخلال عقد من العلاقات الودية بين دمشق وواشنطن، لم يطلب السوريون مساعدات أميركية، ولم يسعوا إلى تعزيز العلاقات الثنائية.
وقد أثار هذا الموقف الحريص على استقلال البلاد وكرامتها، دهشة وزيرة الخارجية مادلين اولبرايت التي سألت الشرع مباشرة: لماذا لا تطلبون منا مساعدات وقروضا؟ (ص 405). خامساً، رفض التطبيع المجاني مع إسرائيل، حتى بالمصافحة. سادساً، رفض تقديم أي تنازلات في الأرض حتى لو كانت عشرة أمتار (ألحت عليها إسرائيل للفصل بين الحدود السورية وبحيرة طبريا) ورفض أي مساس بالسيادة السورية على الأرض، كالقبول بمحطة انذار اسرائيلية في الجولان. سادساً، التمسك بالحقوق الفلسطينية، وإدانة اتفاقات اوسلو التي رأى الأسد «أن كل بند فيها يحتاج إلى مفاوضات». وهذا ما حصل ويحصل منذ 1993.
وعلى الرغم من كل هذا التشدد في إدارة عملية المفاوضات، فقد كانت دمشق، تنظر إلى هذه العملية كـ «لعبة سياسية» توصل الأسد والشرع إلى أنها «انتهت» في آخر قمة سورية ــــ أميركية في جنيف في 26 آذار 2000 (ص 450) في الواقع، لم تكن لدى الأسد أي أوهام. ولكنه كان يشتري الوقت، بينما كان، في الأثناء، يواصل الحرب خارج الأسوار، ويسعى لبناء الحد الأدنى من التضامن العربي، والعمل على نسج وتعزيز علاقات دمشق الدولية، والتواصل مع العراق ومحاولة اخراجه من دائرة الحصار والعدوان. لم تكن السياسة الخارجية السورية «ساذجة» كما يتوهم بعض الثورويين، ولكن كان ساذجاً حقاً مَن يظن بأن الرئيس حافظ الأسد سيوقّع صلحاً مع العدوّ، أو يسمح لعلم إسرائيل أن يرفرف في سماء دمشق. الفارق أن أصحاب الجملة الثورية ليسوا مسؤولين عن شيء، حتى إزاء عمل جماعي محدود، بينما كان الأسد مسؤولاً عن مصالح دولة وشعب وجيش وأمة، يراعي هذه المصالح، من دون أن يتخلى عن المبادئ. وهنا تكمن عبقريته.
في مذكرات الشرع، الجديرة بالقراءة المتأنية، محطات أساسية في السياسة الخارجية السورية، البالغة التعقيد في عقد الثمانينات، إزاء بلدان المشرق العربي؛ هنا، سنسلّط الضوء على أهمها، تلك المتعلقة بالعراق.
عندما خسرت سوريا، في العام 1978، الجبهة المصرية، بالسلام المنفرد مع إسرائيل، اتجه الأسد نحو تعويض حليف الحرب (مصر) بحليف العمق (العراق)؛ وضع كل ثقله وراء مشروع توحيد الحزبين والبلدين المشرقيين؛ لو كُتب لهذا المشروع النجاح، لكانت معادلات السياسة العربية انقلبت كليا؛ كان الكيان الوحدوي ليشكّل ثقلاً اقليمياً قادراً على تحدي اسرائيل، والحاق الأطراف الفلسطينية والأردنية واللبنانية، بمركزها القومي، والتخلّص من الحاجة إلى التضامن العربي مع الأنظمة الخليجية المعادية، في ارتباطاتها وعقليتها وثقافتها، للهلال الخصيب، والتمكن من إقامة علاقات ندية مع القوتين الإقليميتين، تركيا وإيران. توصّل الأسد مع الرئيس العراقي، أحمد حسن البكر، إلى التوقيع على «ميثاق العمل القومي» بين الحزبين والبلدين، وكانت الآمال واسعة، قبل أن ينقلب صدام حسين على البكر وعلى الميثاق وعلى القيادات العراقية المؤيدة للوحدة مع سوريا، ثم غرق العراق (الحليف العربي الاستراتيجي الممكن) وإيران (الحليف الإقليمي الكائن) في حرب مدمرة عبثية، سعى الأسد إلى ايقافها دون جدوى، ثم، عندما أصبحت الحرب تنزلق نحو احتلال أراض عراقية، اعتبارا من العام 1985، أوضحت دمشق للإيرانيين، رسمياً، أن سوريا ترفض احتلال أرض عربية (ص 160).
ثم، في العام 1986 قبل الأسد مبادرة حليف صدام حسين، الملك حسين، وانخرط معه في مسعى لمشروع أفشله صدّام ايضاً، لبناء اتحاد مشرقي مؤلف من سوريا والعراق والأردن؛ كان ذلك الاتحاد كفيلاً بإنهاء الحرب؛ إذ كان الإيرانيون عندها سيضطرون إلى التراجع، لئلا يدخلوا في قتال مع حليفهم العربي الوحيد، سوريا.
من الممتع قراءة تفاصيل هذا المشهد في مذكرات الشرع (ص 162) وخصوصاً اللقاء السري التي عقده الرئيسان، الأسد وصدام، في الأردن؛ وكان سرياً ومطولاً (11 ساعة متواصلة)، إلى درجة أن الملك الأردني هو الذي كان يقدم الطعام والشراب، لضيفيه بنفسه!.
أختم بهذا الموقف الطريف، والصريح في دلالته، عن مضمون العلاقات السورية ــــ الإيرانية، بين الشرع والرئيس الإيراني، حينها، علي خامنئي؛ نقل الوزير السوري له طلبا من الأسد بوقف قصف السفن السعودية والكويتية. قال خامنئي: « الله هو الذي يقصفها»، فردّ الشرع بذكاء:» فلتدعُ الله، إذاً، في صلاتك، لكي يكف عن رمي هذه الصواريخ»! وقد استجاب الله، بالفعل، لصلاة الخامنئي، فأوقف قصف السفن، بعدها، بأيام! (ص 161).