الشاشات اللبنانية بين الـ’لايف’ والـ’رايتنغ’.. العين على أموال المعلنين
حفلت مواقع التواصل الاجتماعي، الأسبوع الماضي، بتعليقات ساخرة ومنتقدة رافقت ظهور نائب رئيس تحرير جريدة “الأخبار”، بيار أبي صعب، على شاشتي “”LBCI و”الجديد” في الوقت نفسه تحت شارة “مباشر”. تعليقات الجمهور طالت القناتين، بل القناة التي ثبت تلاعبها بالشارة في سبيل الظفر في سباق على رفع نسبة “الرايتينغ”، بصرف النظر عن المعايير المهنية التي من المفترض أن تحكم العلاقة بين الوسيلة الإعلامية والجمهور، ما يخلق الثقة المتبادلة بين الطرفين.
حادثة الأسبوع الماضي، والتي أطلق عليها البعض وصف “الفضيحة”، لم تأتِ من خارج السياق. فالسياق العام لأداء معظم وسائل الإعلام اللبنانية، المرئية منها على وجه الخصوص، لم يُنبئ لحال أفضل مما نحن عليه اليوم.
اليوم، يملأ الغش والخداع الشاشات، لكنّه يُقدّم للجمهور مغلّفاً بأذكى أنواع التسويق، والمعتمد على قاعدة “الشعبوية”.
فبدل أن تنقل الشاشات اللبنانية برامج تحمل في طيّاتها حلولاً لمشكلات وآفات يعاني منها المجتمع، كالإدمان مثلاً، أو ظاهرة إطلاق الرصاص في الهواء، والتي غالباً ما تؤدي الى سقوط ضحايا. صارت الشاشة مكاناً لتجميل مثل هذه الآفات، وتقديمها بشكل “مهضوم” يثير ضحكات المتلقي بدل أن يثير فيه القلق والانتباه. عندها، تصير هذه الظواهر الغريبة والسيئة، مقبولة ومألوفة.
هذا في شق. أما في الشق الآخر، فغالباً ما تسوّق الشاشات لبرامجها باعتماد مصطلح “خرق المحرّمات” ومقاربتها. هذه المحرّمات تكون في معظم البرامج والشاشات، عبارة عن نقل مشكلة عائلية، بين أم وابنها أو رجل وزوجته مثلاً، على الهواء مباشرة مع ما يصاحبها من “أكشن” وتجاوز للخصوصيات والآداب العامة معاً. يصرف مقدّمو هذه البرامج ومعدّوها الكثير من الجهد والعمل للبحث عن نماذج مماثلة تُغني حلقاتهم التلفزيونة، لكنهم في المقابل لا يتكلّفون أي عناء في سبيل محاولة إيجاد حلول لمشاكل الأشخاص الذين يظهرون في برامجهم المختلفة.
أيضاً برامج النقد التي انتشرت بكثرة مؤخراً، والتي رفعت شعار النقد الفني والسياسي البنّاء، صارت اليوم عبارة عن “رادارات” لإلتقاط زلاّت وهفوات جميع من يظهر على شاشة، حتى ولو كان مواطناً عادياً ظهر في موقع حدث معيّن وهو غير معني لا بإتقان الطلّة الإعلامية وفنونها وثقافتها. يقولها بصراحة مقدّمو هذا النوع من البرامج، أن هدفهم الوحيد “إضحاك الجمهور وتسليته”، بصرف النظر عمّا إذا كانت المادة التي يقدّمونها له تقوم في الأساس على التجريح الشخصي والمسّ بالخصوصيات العائلية والدينية وحتى الجنسية، فضلاً عن السخرية من المرضى والمعوّقين.
صحيح أن المجتمع بشكل عام بحاجة الى شاشات تقدّم الفكاهة والترفيه بقدر حاجته الى برامج السياسة والثقافة والعلوم (إلخ)، لكن السؤال يُطرح بقوة: أي كوميديا نريد؟ ومَن يحدّد؟في الإجابة، ثمة مَن يقول إن الإعلام في لبنان يعاني من مختلف أمراض المجتمع اللبناني بذاته، وبالتالي هو مرآة تعكس حال المجتمع. لكن يقول آخرون إن وسائل الإعلام “سَلّعت” الأفكار والقيَم في سبيل الربح السهل والسريع. دليلهم على ذلك، أن المشاهدين من فئة كبار السنّ، لا يزالون يحافظون على نمط مشاهدة “من الزمن الجميل”، حيث كانت الكوميديا بيضاء وبسيطة وتصل الى القلب، أما اليوم، فقد نشأ جيل من المشاهدين على نمط من المحتوى الكوميدي والثقافي والفني الهابط إذا ما قورِن بما كان يُقدّم من محتوى بما بات يسمّى “الزمن الجميل”.
بعيداً عن لعبة “أيهما قبل، البيضة أمْ الدجاجة”، والتي تتسع هوامشها بفعل غياب أي جهة رقابية فعّالة، بما أن الرقابة المعمول بها حالياً هي عبارة عن مواثيق شرف، (أي رقابة ذاتية حصراً)، لا شكّ أن قطاع الإعلام في لبنان يعاني مشاكل إدارية وتنظيمية كبيرة تُفاقم من الأعباء المالية الكبيرة التي تقع على عاتق المؤسسات العاملة فيه. وحتى هذا لا يبرّر للعاملين فيه إسقاط كل المعايير المهنية والأخلاقية في الحرب المستعرة بين الشاشات من أجل كسب “ولاء” المشاهدين، وأموال المعلنين.