السّيادة على الإنترنت والعولمة الّتي فشلت
موقع قناة الميادين-
محمد فرج:
سؤال السيادة على الإنترنت هو سؤال فرعي لسؤال شامل: هل فشل مشروع العولمة، على الرغم من الفرصة التاريخية التي أتيحت له في ظل غياب التوازن العالمي؟
في روسيا، كما في الصين، يتفاعل الحديث عما يسمى “السيادة على الإنترنت”؛ فبعد توقف خدمات “فيسبوك” لساعات في تشرين الأول/أكتوبر هذا العام، صرَّحت روسيا أنَّ الحاجة إلى هذا الخيار السيادي في ازدياد، فليس من الممكن استمرار الاعتماد على منصات لا نمتلك السيطرة على حاضنتها التقنية، والتي يتوقّف تواصل الناس في حال تعطّلها، بعد أن أصبح عادة يومية، وتتعطّل أيضاً مهمات المشاريع الاقتصادية والإعلانات وتسيير الأعمال.
من جانب آخر، تضع إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن فتح الإنترنت الصيني على العالم على رأس أولوياتها، وترى في كسر الجدار الناري الإلكتروني مهمة لها دوافعها التجارية والسياسية التي لا مفر منها في سياق تسخين المعركة ضد الصين، فتشكيل التحالفات العسكرية في بحر الصين الشرقي والجنوبي، وتأليب الهند واليابان وكوريا الجنوبية ودول “آسيان”، لا يعطيان مفاعيلهما من دون محاولات اختراق الجبهة الداخلية في الصين باستخدام الأساليب المعتادة.
“السيادة على الإنترنت” هي فرع من فروع دراسة العولمة كظاهرة، وكأداة حاولت الولايات المتحدة تسخيرها لخدمة مشروع “العالم بلون واحد”؛ اللون الأميركي طبعاً. سؤال السيادة على الإنترنت هو سؤال فرعي لسؤال شامل: هل فشل مشروع العولمة، على الرغم من الفرصة التاريخية التي أتيحت له في ظل غياب التوازن العالمي؟
في ذروة الحرب الباردة في نهاية الستينيات، كانت الرسالة الأولى التي تجرب بين حاسوبين عملاقين (Login) بين جامعة كاليفورنيا وستانفورد. وصل أول حرفين “LO” ليعلنا بداية اتصال العالم بمنطق جديد. ومن رسالة مبتورة بين جهازين، إلى شبكة الشبكات، والوصول إلى العنكبوتية، وابتكار بروتوكول “TCP”، كان العالم يزداد اتصالاً.
مع نهاية الحرب الباردة في بداية التسعينيات، لم يعد استخدام الإنترنت حكراً على المختصّين أو العاملين في مهمات نقل الملفات، فكان الابتكار الأكبر لتسخير خدمات الويب للمتواصلين عبر الشبكة، وولدت النطاقات “WWW”، التي أفسحت المجال لعرض الأفكار والتواصل الحديث الذي قادنا إلى لحظة “فيسبوك”.
اليوم، يوجد أكثر من مليار ونصف المليار موقع في شبكة الإنترنت، 200 مليون منها فقط فعال، وهي مواقع لم تحمل النصوص والأفكار فحسب، إنما حملت أيضاً معاملات البيع والشراء، في انتظار انتقال “الروائح والتذوق”، وحملت رسومات المشاعر والرسائل الفورية. كان ذلك انتصاراً عظيماً للبشرية، حتى لو أخذ معه إغلاق مكاتب البريد والبرقيات السريعة، ومكاتب حجوزات السفر والاتصالات بالتكنولوجيا التناظرية(analog) .
لم يكن رهان الأميركيّ على هذه الإنجازات مختصراً في حدود الجانب التقني. لقد كان رهاناً سياسياً واجتماعياً وثقافياً؛ رهان نهاية التاريخ وانتصار مشروع العولمة. هذا الفضاء سيكون حامل الرسالة الأميركية إلى العالم. هو المحطة التي سيعيش فيها الكوكب بثقافة المهاجرين الذين تحدّوا البحر، وبثقافة القوة، حيث الموسيقى الصاخبة، والسينما العنيفة والمرعبة، وفوضى العلاقات الاجتماعية، والاضطراب الجنسي. إنها ببساطة خطّة تحويل مواطني العالم جميعاً إلى نسخة من مواطن نيويورك.
من اللباس، إلى كيفية قضاء عطلة نهاية الأسبوع، إلى معنى النجاح والتعبير عن الذات والفردانية، اعتقدت الولايات المتحدة أنّ البنية التحتية للإنترنت، مترافقة مع غيرها من أدوات العولمة، سوف تمكّنها من إنتاج النسخ المتماثلة للبشر، على شاكلة ما رواه هكسلي في “عالم جديد شجاع”، وهو ما يتناقض تماماً مع دعايتها عن التفرّد الشخصي.
ظهر فشل المشروع في صورة توزيع النطاقات، فلم تكن تسميات “.Jo” أو “.lb” أو “.cn” مجرد تقسيمات تنظيمية في عالم الويب، وإنما تقسيمات تعبر عن عدم إمكانية دمج العالم بهذه السهولة. في كلّ نطاق، كانت تتفاعل اهتمامات مختلفة، ورغبات متباينة، وأنواع مختلفة من الدردشات والمنشورات. إنها التجربة التي مرت بها سلسلتا “ماكدونالدز” و”كنتاكي”، عندما اصطدمتا بثقافات الشعوب المختلفة، واضطرّتا إلى إجراء تغيير في مكوّنات وجباتهما، حتى تتمكّنا من البيع خارج حدود الذائقة الأميركية التي عرفتاها، واضطرتا كذلك إلى تغيير موسيقاهما وفعالياتهما، لتتمكّنا من استقطاب الزبائن.
لم ينجح مشروع العولمة الأميركي في الإنترنت، لأنّه ببساطة فشل خارجها، فما قصده الأميركي من هذا المشروع هو فرض قيمة محددة يختارها بنفسه لتكون عالمية (القوة، الفردانية، السوق، إلخ)، بيد أنَّ القيم العالمية لا تنمو بهذه الطريقة، وإنما تعمل بمنطق الانتخاب الطبيعي للأفكار، إذ تُنتقى ضمنياً القيم الأكثر جاذبية من مختلف الثقافات والحضارات، لتصبح قيماً عامة (العلاقات الاجتماعية في الشرق، اليوغا في الهند، العمل المنظم في الصين، حقوق العمال في أوروبا، إلخ)، من دون أن نقلّل من تداعيات مشروع العولمة الأميركي، الّذي تمكّن من تحقيق “نجاحات” كثيرة لمصلحته، إلا أنّه في المحصلة فشل، لا لشيء، إلا لأنه لم يتمكّن من إنتاج نسخ صافية من نظامه، وأقصى ما وصل إليه هو النسخ المشوّهة التي بقيت تحمل بذور بيئتها الخاصّة معها.
وليس هناك دليل على ذلك أكثر من عضويات الأمم المتحدة التي انطلقت بـ51 عضواً، وها هي الآن تضم 193 عضواً، مع ازدياد عدد الدول وتفكيكها على شاكلة نطاقات الإنترنت، كما أنّ الاقتتال الداخلي في العالم ازداد، وردود الفعل العنيفة على محاولة جرف الهوية أيضاً تضاعفت.
لقد فشل مشروع العولمة الليبرالي بسبب الثغرة القومية أو الدينية أو الموروث الثقافي (الهوية الخاصة) الكامن في حياة الشعوب التي لا يمكن تفكيكها ببساطة، على الرغم من إمكانيّة بناء جسور التفاعل والحوار في ما بينها.