«الراديكالية» الإيرانية مرحب بها في الكرملين
صحيفة الوطن السورية-
عبدالمنعم علي عيسى:
قد تكون كل الظروف المحيطة بالزيارة التي قام بها الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي إلى روسيا يومي 19 و20 من شهر كانون الثاني الجاري، حافزاً للقول بأن تلك الزيارة حدثت لتحديد «مفترق» الطرق الذي كان يقف عليه الطرفان، فعملية الوقوف عند ذلك المفترق قد طالت، وفي الأمر ما يدعو إليه، ما دام اتخاذ الخيار حول أي مسلك سوف يسلكه الطرفان معاً له الكثير من المحاذير، كما له الكثير من الموجبات، فيما الموازنة بين الاثنين كانت تبدو عملية معقدة لها حساباتها المتشعبة، ومن المؤكد أن قمة موسكو بين الرئيسين الإيراني والروسي الأخيرة كانت قد سجلت ترجيحاً لحالة الموجبات على المحاذير، ومن ثم قرار الرمي بكل هذي الأخيرة جانباً لمصلحة استحضار الأولى التي بدت طاغية حتى من خلال العبارات العلنية التي تبادلها الطرفان، الأمر الذي دفع بصحيفة الـ«نيويورك تايمز» للقول: إن «الكرملين كان مسرحاً جيوسياسياً إبان لقاء رئيسي ببوتين في لحظة حرجة لواشنطن وخصومها».
لم تكن الحميمية الشخصية هي التي دفعت بالرئيس بوتين ليخاطب ضيفه قائلاً: «لا يمكن أن تحل مؤثرات الفيديو، أو المكالمات الهاتفية، محل الاتصال الشخصي»، ولا الطموحات الفردية هي التي دفعت بالضيف لكي يذكر في سياق رده على المضيف بأنه «حان الوقت لتحدي قوة الأميركيين» قبيل أن يزيد: إن ذلك يستدعي «زيادة التآزر بين بلدينا»، كان دافع الأول هو التأكيد على حميمية التلاقيات الكبرى، فيما دافع الثاني كان شارة للتعبير عن طموحات قوى باتت تعيش حالاً من التململ، والحال، كما يبدو، شارف في مساره على بلورة مسعى يهدف إلى دك «الصنم الأميركي» الذي أثبت في كثير من المواقع أنه ضار أكثر مما هو نافع حتى لأقرب المقربين منه، ولربما كانت محطة «أوكوس» في أيلول 2021 هنا كافية لإلصاق تلك التهمة به، كما أثبت أنه، عند مصالحه، مستعد لأن يرمي بالكل من قارب نجاته الذي يدعي قيادته، ولربما أيضاً كانت محطة أفغانستان في آب 2021 هنا كافية لتأكيد تلك النزعة لديه، وكلا الإثنين، التهمة الثابتة والنزعة البارزة، يقودان طبيعياً إلى التساؤل: فماذا ننتظر إذاً؟
لربما كانت عبارة الرئيس الإيراني، التي جاءت في سياق العبارات العلنية سابقة الذكر، تختصر جملة التلاقيات التي قادت لكل هذا الترحاب الذي حظي به «الراديكاليون» الإيرانيون في الكرملين، فرئيسي، الذي قرأ ولا شك عمق القلق الروسي الطاغي بُعيد أزمتي أوكرانيا وكازخستان اللتين اندلعتا بوجه موسكو في غضون شهرين لا يزيدان، ذهب إلى تذكير «القيصر» بأن «طهران تقاوم أميركا منذ 40 عاماً»، والجدير ذكره في هذا السياق أن نوعاً كهذا من الخطاب لم يكن مرغوباً فيه سابقاً في الكرملين، ولا كانت آذان الساسة الروس تستسيغ تلك النغمة على مدى العقدين الفائتين، لكن مخاطر التمدد الغربي نحو «غرف نومهم» فرضت عليهم، كما يبدو، ليس استساغتها فحسب، بل إحساسهم بالطرب حين سماعها، ومن المؤكد الآن أن موسكو ترى في وصول إبراهيم رئيسي إلى سدة السلطة في طهران فرصة سانحة للتقارب أكثر بفعل النزعة التي يتبناها مع التيار الذي يمثله، ويذهب فيها نحو وجوب عدم الانصياع للإملاءات الأميركية، وأن بمقدور القوى المناهضة للسطوة الأميركية أن تستجمع الكثير من أوراق القوة في سياق مواجهة هذي الأخيرة، واختصاراً يمكن الجزم بأن موسكو وصلت اليوم إلى قناعة مفادها أن رفع وتيرة التعاون العسكري الروسي مع خصوم أميركا أمر من شأنه أن يشكل إحدى نقاط القوة والنفوذ الروسيين في مواجهة السطوة الأميركية، حيث ستفرض عملية الوصول إلى تلك القناعة، التي تكشفت في خلال النتائج التي آلت إليها زيارة رئيسي، تغييباً لسياسة تجنب «الاستفزاز» التي كانت تدخل في عمق السياسات الروسية.
لم تشهد الزيارة التوقيع على اتفاقات علنية، لكن وزير الخارجية الإيراني حسين أمير عبد اللهيان قال إن الرئيسين «اتفقا على إطار اتفاق طويل الأمد» وإن «وثيقة» بهذا الخصوص سلمت إلى الرئيس بوتين، قبيل أن يؤكد أن العلاقة بين البلدين قد «دخلت مساراً جديداً، ديناميكياً وسريع الخطا»، أما قناة «روسيا اليوم» فقالت في تقرير لها في 19 كانون الثاني الجاري إن «الجانب الإيراني سلم إلى روسيا مشروعاً للتعاون الإستراتيجي لمدة 20 عاماً»، والمشروع صيغ على شاكلة الاتفاق الاقتصادي والأمني الشامل الذي جرى توقيعه بين إيران والصين في شهر أيلول من العام المنصرم، وللأمر اعتباراته المهمة فتشابه التوافقات يشير هنا إلى محاولة وضعها في سياقات متناغمة تصل بمراميها إلى تشكيل جبهة واسعة قادرة على مواجهة التحديات.
بالتأكيد كان الملف النووي الإيراني هو أكثر المنغصات التي اعترضت مسار محادثات رئيسي بالغة الأهمية في الكرملين، ومن الراجح أن بوتين طلب إلى ضيفه العمل على تسريع مفاوضات فيينا لإنضاج اتفاق مع الغرب يجنب إيران مخاطر العقوبات، ويجنبها أيضاً احتمال تعرضها لضربات عسكرية تستهدف ذلك البرنامج، الأمر الذي لا تريده موسكو بالتأكيد، لكنها لا تريد أيضاً أن ترى إيران قوة نووية حيث للأمر حمولاته التي لا تستطيع التركيبة الإيرانية تحملها راهناً وفق الرؤية الروسية، والطلب المرجح سابق الذكر كان ناجماً عن تفضيل موسكو لخيار المحافظة على القوة الإيرانية على خيار الاستثمار الروسي في المفاوضات الإيرانية مع الغرب في إطار المواجهة الروسية مع هذا الأخير في ملفي أوكرانيا وكازخستان.