الديمقراطية في الولايات المتحدة العلاقات الروسية الأوكرانية… صراع على صفيح ساخن
موقع العهد الإخباري-
د.علي مطر:
تنشأ الأزمات أو الصراعات والنزاعات التي تعصف بالعلاقات الدولية، عادةً، نتيجة تناقض المصالح الاستراتيجية للدول الأطراف في مستويات مختلفة، ومن ذلك ما يعتبره أحد الأطراف مسًّا مباشرةً بأمنه القومي. وتتحول الأزمة إلى أزمة دولية عندما تتشعب فيها الأطراف وتتنافر فيها المصالح، كما يحصل اليوم في الأزمة بين روسيا وأوكرانيا.
على الرغم من أن الحالة الأوكرانية – الروسية كانت سابقًا تشكل أزمة داخلية دائمًا، إلا أن لهذه الأزمة ارتداداتها على موسكو، ما يولّد دائمًا فرص اندلاع النزاع بين الطرفين، كما حصل إبان ما عرف بالثورة الأوكرانية، ومن ثم أحداث دونيتسك ودونباس أو ضم موسكو لشبه جزيرة القرم، خاصة أن موسكو تعتبر أوكرانيا حديقتها الخلفية، وبالتالي لن تقبل أن يكون هناك وجو للناتو أو لقواعد عسكرية أمريكية فيها.
العلاقات الثنائية
دائمًا ما كانت العلاقة بين روسيا وأوكرانيا علاقة متأرجحة. الدولة السوفياتية السابقة كانت مشاكسة في كثير من الأحيان، ومصدر قلق لموسكو في محطات عدة. بدأت العلاقات الحديثة بين الطرفين إبان الحرب العالمية الأولى. في العام 1920 وعلى إثر الأحداث التي حصلت بعد الثورة البلشفية والأحداث الأهلية في أوكرانيا، ومحاولات توحيد الأوكرانيين اجتاحت القوات الروسية السوفاتية أوكرانيا، وتحولت العلاقات بين الدولتين من الدولية إلى الداخلية ضمن الاتحاد السوفياتي الذي تأسس في العام 1922. بعد حل الاتحاد السوفياتي في العام 1991، مرّ طابع العلاقة بين أوكرانيا وروسيا بفترات من العلاقات الطيبة، والتوترات، والعداء الصريح من روسيا فيما بعد انهيار الاتحاد السوفياتي.
الأزمة الحالية بين الطرفين ليست نتيجة ما حصل فقط إبان الثورة الأوكرانية والأحداث التي تلتها من دخول للقوات الروسية إلى القرم، إنما الأزمة التي تعصف بالعلاقات بين الطرفين تعود لما بعد انتهاء الحرب الباردة وانهيار الاتحاد السوفياتي واستقلال أوكرانيا، عندها ظهرت أوكرانيا دولة سيدة للمرة الأولى في تاريخها السياسي، وهذا ما جلعها تنحو نحو التمرد على موسكو، خاصة بعد أن بدأت تظهر رؤيتان سياسيتان متناقضتان، إحداهما ترى أنه لا بد من التقارب مع روسيا لأنها شريان حياة الأوكرانيين، ولا يمكن الاستغناء عنها على المستوى الاقتصادي خاصةً، والأخرى تدعو إلى محاصرة الدور الروسي في كييف والتوجه نحو منظومة الناتو وفتح العلاقات مع الولايات المتحدة الأميركية.
لم يتمكن الأوكرانيون من بناء دولة مستقرة، تتغلب على الأزمات الاقتصادية المتراكمة، مما جعلها عرضة دائمًا للاهتزازات، كما أن الشعب الأوكراني بدأ يرفض التوجه الروسي منذ عام 2004، وأخذ يفضل التوجه الغربي ما راكم من أزماته، حيث حدثت احتجاجات شعبية إبان انتحابات 2004 وتسلم فيكتور يانكوفيتش سدة الرئاسة، وعرفت الأحداث يومها بـِ”الثورة البرتقالية” التي تركزت في ميدان الاستقلال وسط العاصمة كييف. ومن ثم دخل مستجد هام جداً في هذه المرحلة، وهو وجود الرئيس فلاديمير بوتين في الكرملين، والذي يطمح بطبيعة الحال لتعزيز مكانة روسيا الدولية والإقليمية ما يحتم توسع نفوذها في الدول القريبة منها.
أما ما راكم الأزمة مذاك، فهو الدعم الغربي والأميركي الواضح والعلني لـ”الثورة البرتقالية”، وإبعاد يانكوفيتش عن الوصول إلى السلطة، خاصةً في ظل توسع انضمام دول شرق أوروبا لمنظمة حلف شمال الأطلسي، ومن ثم دعم وصول يانكوفيتش، ذي التوجهات الغربية، إلى السلطة، وهذا ما لم يحصل.
البحث الأوكراني عن شريك اقتصادي أساسي، استغلته واشنطن لجعلها بؤرة تؤرق حلم بوتين، إلا أن ذلك لم يحصل بعد وصول يانكوفيتش إلى رئاسة الدولة، بانتخابات رئاسية في العام 2010، وتعليقه اتفاقية الشراكة مع الاتحاد الأوروبي، عام 2013، ومن ثم عقده اتفاقية شراكة اقتصادية مع روسيا، وبذلك توجه بشكل رئيسي نحو الخيار الروسي. بعد ذلك اندلعت احتجاجات منددة بخطوة يانكوفيتش، وقرر البرلمان الأوكراني عزل الرئيس، فهرب يانكوفيتش إلى روسيا، التي عدّت عزله محاولة انقلابية بدعمٍ غربي لإزاحته، وإبعاد موسكو عن كييف.
تمثلت ردة الفعل الروسية في إرسال الرئيس بوتين قواته العسكرية إلى شبه جزيرة القرم. وفي 16 آذار/ مارس العام 2014، استولت القوات الروسية على شبه جزيرة القرم، والتي تتمتع بحكمٍ ذاتي من الدولة الأوكرانية، فضُمّ القرم إلى موسكو باستفتاء أجرته روسيا في شبه الجزيرة. عدا عن ذلك، دعمت روسيا حركات انفصال في شرقي أوكرانيا وجنوبيها، لتقاتل وتحاول الانفصال عن الحكومة المركزية في كييف. ومنذ آذار/ مارس 2014 وحتى تاريخه تمُر العلاقات الروسية الأوكرانية بتوترات دائمة.
أزمات مستمرة
تصاعدت حدة الأزمة ـ الصراع في الاونة الأخيرة، منذ نيسان من العام الحالي، فعقب إجراء أوكرانيا مناوراتٍ عسكرية في محيط مدينة خاركيف قرب الحدود مع روسيا، زادت التهديدات بين الطرفين، وتفاعلت مع بدء التهديدات من قبل حلف شمال الأطلسي والولايات المتحدة الأمريكية. وما زاد الوضع سوءًا هو استخدام البحر الأسود وأوكرانيا كقواعد عسكرية أميركية وفق ما يقول الروس.
ودون أدنى شك، يعد البحر الأسود أحد أكثر أسباب الصراع حالياً، ومنه قد تأتي شرارة الحرب، لأن الناتو يعمل إلى جانب الأسطول الأميركي بداخله، وهو ما تعتبره روسيا تهديداً خاصةً أنها لا تسيطر حالياً على كامل المشهد فيه، حيث يشكّل البحر الأسود منطقة استراتيجية هامّة وحساسة، تتداخل فيها المصالح الجيوسياسية لعدد كبير من الدول المطلة عليه، مثل رومانيا وبلغاريا وتركيا (الدول الأعضاء في حلف شمال الأطلسي)، إضافة إلى أوكرانيا وجورجيا اللتين تجريان مفاوضات للانضمام إلى “الناتو”.
وتكمن أهمية البحر الأسود بالنسبة لروسيا في كونه طريقًا مائيًا يصل روسيا (عبر مضيق البوسفور) بالبحر الأبيض المتوسط الذي يتوسط ثلاث قارات، هي أوروبا وآسيا وأفريقيا، وهو ممر تجاري عالمي، تسعى روسيا في تسهيل وصولها إليها لتحقيق مكاسب اقتصادية وعسكرية، والبحر الأسود يصل روسيا بالدول الشرقية من أوروبا مثل رومانيا وبلغاريا.
وفي مقلب آخر، تتخوف موسكو من دخول حلف شمال الأطلسي إلى كييف، ما يؤدي إلى تحولها لبؤرة عسكرية مهددة لأمن روسيا القومي، وأن حصول كييف على أسلحة متطورة يهدد أمن روسيا وهذا ما عبر عنه بوتين صراحة، فأوكرانيا تطالب الولايات المتحدة بدعم عسكري نوعي، وأسلحة فتاكة، وكذلك اشترت من تركيا طائرات “بيرقدار” المسيرة.
لكن على الرغم من ذلك، تقول دراسة قامت بها مؤسسة “راند الأميركية” منذ 2016، وهي عبارة عن محاكاة سيناريو للحرب، أنه على النحو القائم حاليـاً، لا يمكن للناتو أن ينجح في الدفاع عن أراضي أكثر دولة عرضة للخطر في مواجهة أي غزو روسي، وخلال محاكاة شارك فيها خبراء عسكريون وغيرهم ظهر أن أطول وقت تحتاجه القوات الروسية لبلوغ مشارف العاصمة الإستونية “تالين” و/أو العاصمة اللاتفية “ريجا” هــو 60 ساعة. وهنا نشير إلى أن أي حديث عن اندلاع حرب روسية أوكرانية لا ينفك عما تقدم.
وبحسب بعض التقديرات فإن موسكو في حال قامت بغزو أوكرانيا فلن تصمد كييف لأكثر من أسبوع، فضلاً عن أن قيام الأخيرة بخطأ ما، سيعطي الرئيس الروسي الحجة للقيام بضم أوكرانيا، خاصةً أنه من المستبعد أن يقوم الناتو بأي إجراء عسكري ضد موسكو، لأسباب عدة منها منع حصول حرب كبرى وكذلك قطع إمدادات الغاز عن أوروبا، فضلاً عن أن دخول دول منفردة بوجه روسيا لن يحسم المسألة بل سوف يزيد الوضع تعقيداً. بالإضافة إلى ذلك وعلى الرغم من توتر العلاقات الأميركية الروسية على خلفية الأزمة الأوكرانية إلا أن واشنطن تهدد لكنها لن تدخل في مواجهة عسكرية مباشرة مع موسكو.