الدولة “المثال” والعقدة العربية
موقع العهد الإخباري-
أحمد فؤاد:
ما الذي فعلناه بأنفسنا، وبقضيتنا المركزية؟، ما الذي أوصلنا إلى هنا؟ وكيف وصلنا إلى هذا الحد العاجز حتى عن تقديم خطاب الدعم المعنوي للضحية؟ أو هل وصلنا بالفعل إلى الطريق الذي لم نعد فيه نرى الضحية أصلًا ونشعر بوجود هذا الدم الساخن كله يندفع إلى أفق الأحداث ويلونها، ويلون معها أيامنا ومستقبلنا بالأحمر القاني؟
الأزمة العربية هي أزمة هوية بامتياز، ولا أقل، وصورة الطفل الفلسطيني ريان سليمان، أحدث ضحايا آلة الصهاينة العسكرية، ليس إلا أحدث شاهد على أمة خاصمت نفسها فطحنتها ظروفها قبل أن يمارس بها العدو هذا البغاء العلني الشامل والكامل، أو كما تنبأ بها مظفر النواب قبل سنوات طويلة، “القدس عروس عروبتكم، فكيف أدخلتم كل زناة الليل إلى حجرتها، ثم تنافحتم شرفًا أن تسكت.. صونًا للعرض”.
يمكن تأصيل لحظة الأزمة العربية الحالية، بالعودة إلى العام 2001، وأحداث الحادي عشر من أيلول/ سبتمبر، إذ انطلقت بعدها “الحرب الصليبية” المعلنة على العالم الإسلامي، وفي القلب منه العالم العربي. وكما لاقت الحملة حلفاءً محليين، ممن ارتعدوا من خطاب جورج بوش الابن “من ليس معنا فهو ضدنا”، فقد استنسخ الأميركي في حربه الجديدة نفس سلاحه القديم في الحرب الباردة، الإعلام، وانطلقت فضائية الحرة الأميركية، ومن ورائها فضائيات عربية لا تفرق عنها سوى في اسم الممول أو جنسيته، وكلها تستهدف ضرب الوعي العربي، وصولًا لإنتاج شخصية “مسخ”، لا يعرف حقوقه ويقف عند واجباته، بل هو أقرب للمتلقي السلبي، عديم الانفعال والفهم والإدراك.
وساعدت وسائل التواصل الاجتماعي الجديدة على تعزيز تلك الشخصية الجديدة، فالكل يعيش في عالم منفصل من التفاهة والاستسهال، ويصدق ما لا يصدق من حكايات وأقوال، ويبحث دائمًا عن خلاصه الفردي، وخلاصة أحلامه وطموحاته هي الهرب إلى الجنة الأوروبية، ولو على مراكب الموت والغرق.
وبدلًا من خطاب تقليدي، عرفته البشرية منذ مراحلها الأولى، وكان يستخدم اللغة وبلاغتها ورنين مصطلحاتها، لإبراز الاتفاق بين جماعة سياسية ما، أو بين الدولة ومواطنينها، على جدول العمل الوطني، وأولوياته، ويطرح الأزمات بجانب الحلول، فيجني في المقابل هذا الدعم المطلق من الشعب أو المجتمع، في مواجهته لقوى أخرى أو دول طامعة مختلفة، أصبح الخطاب الأميركي يركز على صورة، قد تكون منتزعة من سياقها، وفي الغالب ستكون مثل “نصف الحقيقة”، لكنها بالألوان، استطاعت خلق خطاب من نوع جديد، خطاب من نوع مسرحي، يحتاج كاتب النصوص وصانع الصور، أكثر مما يحتاج السياسي أو الخطيب، وفي هذا الفضاء المؤمم أميركيًا، أصبحت الوجبة الأميركية السريعة أقرب إلى طريق العقل والوعي.
هكذا نجح إعلام يدار بالكامل من الخارج في تدمير الوطن في الوعي الجمعي، حتى بمعناه القطري الضيق، وصدر لنا صور الناجحين أصحاب الثروات، ممن تمكنوا من الخروج أولًا من بلادهم، ثم صاروا من النخبة الغنية في الغرب فجأة، مثل اللاعب المصري محمد صلاح، الذي يذكره البنك الدولي في كل تقرير عن التنمية في العالم العربي، وكأنه من الممكن أن نتحول جميعًا إلى لاعبي كرة، أو أن يكون هذا هو الحل الأوحد لما يزيد عن 100 مليون مصري.
هكذا وبعد 22 عامًا بالضبط من جريمة الطفل محمد الدرة، وما استثارته حينها في الأمة العربية من معاني الفداء، وأعادت ربطهم بالقضية الأم لكل قضاياهم، جاءت صورة الطفل الذي “مات ومتغداش”، في قصة كان لها أن تثير أضعاف ما أثارته صورة الدرة، وهي تحفل بكل معاني التجبر والفجر الصهيوني، وقلة الحيلة لطفل بعمر 7 سنوات، لم يتحمل قلبه الصغير كل هذه الوحشية فتوقف.. ومات.
هذه الأعوام كانت كافية للأميركي، ولأتباعه المحليين، لخلق مناخ جديد بالكامل، يحقق الأهداف الأميركية جملة واحدة، وهي تفتيت قلب العالم العربي، ونفي فكرة الوطن الواحد لكل مواطن عربي، والارتضاء بالدون، أي الدولة القطرية الضيقة، والتي سرعان ما عاث فيها خدم الأميركي فسادًا، رغم التسميات الأجنبية والعناوين البراقة، سواء للإصلاح السياسي غير الموجود، أو للتنمية الاقتصادية الغائبة، وكان الكل يحمل النموذج الاقتصادي الغربي الناجح كعنوان ودليل هداية، لنصل إلى طريق متعثر على كل الأصعدة، ونهايته المحتومة ـ الموت – تقترب من رقاب الجميع بلا استثناء.
في هذا السياق كان مفهومًا أن تتصدر صورة مهسا أميني الاهتمام على مواقع التواصل الاجتماعي، بعد غزوها الشاشات والفضائيات، وأصبحت الصورة المشكوك فيها هي الحقيقة الوحيدة المعروضة، وبالتالي المفروضة على أجندة التفاعل اليومي والاهتمام، وإلا صرت غريبًا في مجتمع قام واستمر على صوت واحد وموجة واحدة.
هل يمكن لأحد من المجادلين بصورة أميني الدفع بفشل إيران مثلًا مع الحصار الغربي المستمر عليها منذ عقود طويلة؟ أو هل هو على استعداد لترك موقعه ـ الذي يظنه مهما – في الفضاء الوحيد الذي لا يجعل للفعل الإنساني تكلفة! أم أن الترند قد حول الجميع إلى متلقٍّ، بينما يظن نفسه صانع الحدث وأحد أبطاله.
بنظرة وحيدة على وضع الدول العربية حاليًا، وعلى وضع إيران، يمكن فهم الاهتمام الأميركي بدمغ هذه الدولة الإسلامية الكبيرة بكل نقيصة ممكنة، من غياب الديمقراطية على النمط الغربي، إلى فرض الملبس على النساء، وصولًا إلى تدخلاتها بطول الإقليم وعرضه.
هذه الدولة الإقليمية الكبرى، والتي تتمتع بوجود حضاري يعود لعشرات القرون، في مساحتها الجغرافية الحالية، لم تفعل أكثر من كونها امتلكت قيادة جديدة، بعد ثورة نبيلة، أدركت مصادر قوتها، وأممت مواردها الذاتية لصالح شعبها، غير عابئة في هذا كله بأميركا ولا بالكيان.
ولم يكن غريبًا على خيارات إيران أن تذهب مباشرة إلى تأييد الدب الروسي في صراعه مع الغرب، مع الوضع في الاعتبار إنه كان يمكنها المراوغة على موقفها والحصول على رفع كامل وشامل للعقوبات الغربية عليها، فيما لو أبدت بعض الرغبة أو فضلت الحياد.
إيران، الدولة المثال، تقف الآن وحدها في المنطقة ضد الأميركي، وكان يجب أن يصيبها بعض ما أصاب روسيا من تأليب وحرب إعلامية، ومؤامرات تدار من عواصم بعيدة وقريبة، وقبل أن يكون الأميركي صاحب مصلحة في وقف هذا المشروع الملهم، فإن حلفاءه المحليين، من الفشلة والضباع، مصممون على عدم تقبل دولة تخالف مذهبهم في الذل والتبعية، ثم تنجح وتقدم لشعوبهم الدليل العملي والتنفيذي على قدرة تغيير الواقع، مهما بلغت بشاعته، ومهما بلغ من تسلط الأيادي الأميركية على أعناقهم.