الخيبة من هزائم إبن سلمان تملأ فضاء الشّمال اللبنانيّ
موقع قناة الميادين-
غسان سعود:
آخر أوراق القوة السعودية في الملف اللبناني يمكن أن تكون مؤذية جداً، إلا أن أذاها محصور.
في الطّريق إلى طرابلس، كانت بلدة القلمون أول ما يلفت الانتباه بأعلام السعودية واللافتات، إذا كان هناك أي سبب يستوجب التضامن أو التأييد، حتى لو كانت المناسبة مباراة كرة قدم أو إهانة “الذات الملكية” في آخر أصقاع العالم.
أما اليوم، فلا توجد في القلمون (التي استعادت تنوعها السياسي بعد طغيان تيار المستقبل الساحق لسنوات) ملامح تضامن. وفي متاجر “الأنتيكا” الكبيرة في البلدة، كما في المقاهي المطلة على الاعتداء الرهيب على الملك العام الذي يُسطره المنتجع المحسوب على الوزير السابق أشرف ريفي، لا تظهر أية مبالاة جدية بكل ما يعصف بالعلاقة السعودية – اللبنانية. وبُعيد بضعة حوارات، يمكن الركون إلى الخلاصة التالية:
سُلب أكثر من 5 ملايين لبنانيّ مقيم ومغترب جنى أعمارهم المودعة في المصارف، وخسر مئات آلاف الموظفين المتعاقبين في الإدارة العامة قيمة تعويضات نهاية الخدمة، وخسر الموظفون الحاليون رواتبهم التي باتت من دون أية قيمة تذكر، ثم أتت المملكة لتهدد بضعة آلاف من الموظفين لديها بالطرد لأسباب لا علاقة لهم بها من قريب أو بعيد.
يحسب كثيرون حساب هذا السلاح غير الإنساني وغير الأخلاقيّ حين يقاربون الأزمة المستجدة مع السعودية، بوصفها مصيبة إضافية يمكن أن تُضاف إلى مصائب العامين الماضيين الكثيرة، آخذين بالاعتبار أنَّ ما حصل مالياً في العامين الماضيين لم يوفر أحداً، وأكثر ما يمكن أن يصيب المستهدفين الجدد هو انضمامهم إلى الأكثرية المسحوقة.
هناك اليوم، وفق تقديرات مصرف لبنان، نحو 400 ألف عائلة لبنانية يصلها “fresh” دولار، سواء من الداخل أو الخارج، ونحو 400 ألف عائلة في المقابل لا يصلها أيّ “fresh”. هذا التوازن سمح للبنانيين بمواصلة حياتهم في الحد الأدنى. أما العقاب السعودي الجماعيّ للبنانيين، فهو يلحق ضرراً كبيراً، لكن محدوداً، بهذا التوازن، مع العلم أن العدوان المصرفيّ على اللبنانيين، كما انهيار عملتهم وإقفال أبواب المملكة في وجه منتجاتهم، لم يحقق الغاية السياسية المرجوة، كما حال طرد اللبنانيين من المملكة، بمعزل عن انتماءات هؤلاء السياسية، بعد كل حملات الترهيب والترغيب في الأعوام القليلة الماضية!
والواضح من سياق الأحاديث أنَّ آخر أوراق القوة السعودية في الملف اللبناني يمكن أن تكون مؤذية جداً، إلا أن أذاها محدود أو محصور، فيما كانت المصائب التي سبقتها شاملة للجميع من دون استثناء. ولا شكّ هنا في أن انهيار شركات سعد الحريري في السعودية، وطرده الموظفين قبل عدة سنوات، والترحيل الذي بدأ قبل أكثر من 10 سنوات لأبناء الطائفة الشيعية بتهمة الانتماء إلى حزب الله، ثم نزوح عدة شركات لبنانية كبيرة باتجاه قطر وسلطنة عُمان نتيجة شروط العمل السعودية المستجدة، إضافةً إلى تراجع تقديمات المملكة الاجتماعية والتربوية في لبنان بشكل متدرج منذ عدة سنوات، يحول على المستوى الشعبي دون ظهور حالات رعب اليوم من “انسحاب المملكة”.
واللافت جداً للانتباه في ما سبق هو ربط الناس المباشر والسّريع اليوم بين الأزمة الدبلوماسية المستجدّة مع المملكة ومصالح اللبنانيين العاملين فيها، كأنَّ المملكة العربية السعودية لم تعد تعني بالنسبة إلى اللبنانيين سوى هذا الجانب التوظيفي، فلا يوجد مشروع إقليمي أو سياسي أو اقتصادي أو مرجعية، إنما مجموعة وظائف وموظفين يُخشى عليهم، مع العلم أن هناك نقاشاً قانونياً في موضوع الترحيل نفسه، في ظل الاتفاقيات الدولية واستنفار بعض الجمعيات وبعض الإعلام الأميركي لتسليط الضوء على انتهاكات حقوق الإنسان في السعودية.
ومن القلمون إلى قلب طرابلس، تمر الطريق بثلاث مستديرات كانت اللافتات تتكدس حولها على نحو مضحك، فيما تختفي اليوم كل هذه المظاهر. وفي أحاديث الناس في المدينة، يطغى انقطاع بعض أصناف الدواء والمواد الغذائية والكهرباء طبعاً على انقطاع العلاقات اللبنانية – السعودية، مع تأكيد العارفين أن من كانوا يسارعون إلى التضامن والتأييد كانوا في الغالب 3 أصناف: الأول عفويّ، كان متحمساً للانتصارات الموعودة، قبل أن تأتي النتائج الميدانية العكسية لتحبطه بالكامل مع خسارة ولي العهد السعودي محمد بن سلمان جميع المعارك في جميع الجبهات، فانكفأ هؤلاء بعيداً عن السياسة وخيباتها وعن الصور واللافتات.
الصنف الثاني تحركه وتموله الأجهزة الأمنية والبلديات وتيار المستقبل، وقد جفت جميع مخصصات هؤلاء.
أما الثالث، فهو يضم رجال أعمال ومغتربين وأصحاب مكاتب السفر وبعض السياسيين الذين كانوا يفترضون أن هذه اللافتات يمكن أن تفيدهم في مصالحهم، قبل أن يتيقّنوا أن الجانب السعودي لم يعد يقيم أي وزن لما هو أقل من الكمائن، وهو يتصرف مع كل مظاهر التضامن غير الدموية بوصفها ضحكاً عليه واستهزاء به، لأنها لا تقدم أو تؤخّر بأي شيء.
ومن طرابلس إلى عكار، مروراً بقضاء المنية، لا تكاد السعودية تذكر في مواقع التواصل الاجتماعي، حتى يسارع الذباب الإلكترونيّ اللبنانيّ، ثم السعوديّ، إلى الحديث عن أفضال السعودية، فيما لا يمكن الوقوع في هذه المناطق على مشروع إنمائي سعودي واحد: لا “أوتوسترادات” أو صروح تعليمية ودينية واستشفائية تشبه تلك التي مولتها الهيئات الإيرانية، أو مشاريع بيئية أو سياحية أو زراعية تشبه تلك التي تمولها السفارات الألمانية والفرنسية والأميركية، ولا شبكة صرف صحيّ واحدة، أو شبكة ري، أو مشروع زراعيّ، أو مزرعة، أو مدينة صناعية، أو مصنع، أو مرفأ، أو شبكة مواصلات، أو سدّ، أو مشروع سياحيّ، أو صرح تعليمي، أو مشروع استشفائي، أو مدينة جامعية، أو مشروع سكنيّ، أو فوج كشافة، أو جمعية كبيرة. لا توجد لوحة تذكارية واحدة تخلّد وضع السعوديين حجر الزاوية لمشروع إنمائي أو إنتاجي واحد، رغم كل “تربيح الجميل” في مواقع التواصل الاجتماعي بفضل المملكة على اللبنانيين.
أما المال السعودي، فقد ذهب بغالبيته المطلقة إلى مجموعة سياسيين فاسدين فاشلين أخذوا من المملكة مليارات الدولارات من دون تقديم أي مردود سياسي يُذكر، ومجموعة تكفيريين وهابيين موتورين تراجع تأثيرهم وحركتهم مع انهزام المشروع التكفيريّ في سوريا، مع العلم أن السيطرة السعودية الكبيرة على الإعلام تمنع إجراء أيّ تقييم عقلاني لأداء السعودية في لبنان في العقدين الماضيين، إذ يتبيّن أن المملكة دعمت الحريرية السياسية لعقدين، واضعة كل علاقات المملكة بتصرفها، قبل أن تموّل وتدعم استعداء اللبنانيين لسوريا في العام 2005 بكلِّ ما ترتب عليه من خسائر اقتصادية، ثم موّلت ودعمت محاولة أحد الأفرقاء اللبنانيين الاستفراد بالسلطة واستبعاد مكونين طائفيين وسياسيين، قبل أن تدعم وتموّل التعبئة والتحريض المذهبيين لأكثر من 10 سنوات متتالية، بالتزامن مع دعم “الثورة” السورية بكل ما فيها من تكفيريين، بموازاة الاستثمار المتواصل بالقوات اللبنانية والإعلام، أملاً بحصول أكثر من مجرد فتنة مسيحية – شيعية، مع العلم أن المملكة لم تهضم أبداً انتخاب الزعيم المسيحيّ الأقوى رئيساً للجمهورية، رغم حرصه على أن تكون السعودية وجهته الخارجية الأولى بعد انتخابه رئيساً.
في طريق العودة من الشمال الهادئ جداً خلافاً لعادته، يشعر من يعرف المنطقة والناس جيداً أنَّ هناك جمراً تحت الرماد ينتظر أمر العمليات السعوديّ والريالات. المملكة التي حاولت الهروب من مأرب إلى بيروت، لن تتحمَّل أن تتواصل الحياة هنا بعد انقطاع العلاقات الدبلوماسية والاقتصادية كأنَّ شيئاً لم يحصل، مع العلم أن وزارة الخارجية اللبنانية لم تصدر، كما تقتضي الأصول، بياناً يفنّد المزاعم السعودية، ويجيب عن كل نقطة أوردها المسؤولون الرسميون السعوديون، ويوضح للسعودية مثلاً أن لبنان لم يوقع اتفاقية الرياض الخاصة بالتعاون القضائي بين البلدين حتى تطالبه بتنفيذها، في وقت تؤكد المعلومات أن سلاحي الضغط السعوديين (المتمثلين بمنع التحويلات المالية للمغتربين أو اتخاذ إجراءات ضد العمال اللبنانيين في المملكة) يتعارضان مع الاتفاقيات الدولية، ويعرّضان المملكة في حال الإقدام عليهما لحملات عنيفة مستجدة من مجموعات الضغط الخاصة بحقوق الإنسان حول العالم، والتي تسبب إرباكاً هائلاً للسعودية في الخارج منذ مقتل جمال خاشقجي، وهو ما لا يبقي أمام المملكة الكثير من الخيارات لمحاولة الانتقام من الهزائم التي ألحقها بها حزب الله في المنطقة.
وتشير المعلومات في هذا السّياق إلى أنَّ التمايز بين الأميركيّ والسعوديّ في بند إسقاط الحكومة، لا يعني أبداً عدم الرضا الأميركي الواسع عن كلّ ما من شأنه إضعاف الحكومة أكثر لانتزاع المزيد من التنازلات السيادية ومحاولة استنزاف حزب الله، ولن تكون الولايات المتحدة مستاءة، سواء من قطع الطرقات أو من نصب الكمائن أو من فتح جبهات قديمة – جديدة.
شعبياً، ثبت عدم بروز رد فعل عفوي على قطع المملكة لعلاقاتها الدبلوماسية والاقتصادية مع لبنان. اقتصادياً أيضاً، يبدو الضرر محدوداً مقارنة بالأضرار غير المحدودة التي لحقت بالاقتصاد اللبناني في الأعوام القليلة الماضية، وهو ما لا يبقي أمام السعودية غير النوافذ الأمنية، لكن في حال تقدمها خطوة واحدة إلى الأمام لن يكون بوسعها الحديث أكثر عن نفسها بوصفها مملكة الخير التي لم تقدم للبنانيين سوى المنّ والسلوى، إذ سيُربط أيّ تفجير أمني يمكن أن يحصل بها مباشرة، لينزع القناع عن وجهها الحقيقيّ، فيما سيصلها الردّ من ساحات كثيرة جواً وبراً وبحراً، والبادئ أظلم.