الخطوة السعودية مدروسة باتقان امريكي وفي الوقت المطلوب: اسقاط كل الاعداء دفعة واحدة
موقع إنباء الإخباري ـ
د . لينة بلاغي*:
طرحت الكثير من علامات الاستفهام حول اسباب وتوقيت الخطوة التي قامت بها المملكة السعودية بالنسبة لاعدام الشيخ الشيعي نمر باقر النمر ، وفيما لم تصدر تعليقات عن المجموعات المؤيدة للنظام تدلل على فهم حقيقي وواضح لهذه الخطوة ، شهدنا تصريحات من المقلب الاخير تصفها بالخطا الكبير الذي من شانه ان يضع المنطقة امام تحديات خطيرة. وبغض النظر عن جملة من التفاصيل ، كيف يمكن ان نضع هذه الخطوة الخطيرة في اطارها السياسي دوليا واقليميا ؟
بالعودة الى ما قبل احداث 11 ايلول الامريكية عام 2001، وفي قراءة لمذكرات رئيس جهاز الاستخبارات الامريكية في حينه جورج تنت لمرحلة عنونها بانها ” اسفرت عن كثير من المناقشات السياسية وغير السياسية والقليل من المعرفة ” ، هذه الاحجية عند تنت تجد توضيحا لها في فكر المنظر الاستراتيجي ومستشار الظل للادارة الامريكية الحالية حيث نلمح بوضوح خيوط اللعبة الكبرى التي حيكت للمنطقة ، نختصرها بان الادارة الامريكية التي انفردت بالسيطرة على منطقة الشرق الوسط لاول مرة في تاريخها ( برجنسكي في كتابه الفوضى ) كانت ترتقب ردود افعال اسلامية غاضبة من القاعدة بعد خذلان الجانب الامريكي لها عقب انهيار الاتحاد السوفياتي تزامنت مع تطورات القضية الفلسطينية التي تعتبر قلب الشرق الاوسط النابض سياسيا وايديولوجيا والتي وصفها تنت بالقول : من الصعب المبالغة في تقدير اهمية السلام في الشرق الاوسط . فهذه القضية تتجاوز الاهتمامات الانسانية في وقف العنف والمعاناة . بل انها اكثر اهمية من الرغبة في القضاء على السبب الاساسي لجانب كبير من الارهاب العالمي الذي يزعج العالم . فافضل الامال واسوا المخاوف في العالم مستثمرة في هذه الرقعة الصغيرة نسبيا على الارض .
بعد انهيار الاتحاد السوفياتي ايضا ، وكاحد تبعاته ، وجدت الادارة الامريكية نفسها ايضا امام معضلة جديدة تتعلق بالاجتماع السياسي . فالشعب الامريكي ونتيجة لظاهرة العولمة والمفاهيم الليبرالية والاستراخاء على مجمل المستويات او “حضارة اللامبالاة الاخلاقية ..بابعادها الاشباعية المادية والفورية ” كما وصفها برجنسكي في كتابه الفوضى في اواخر التسعينيات ، وجدت نفسها امام نظريات واراء تحث على الاهتمام بالشان الامريكي الداخلي الوعدم الدخول في صراعات مع الخارج ، وهو ما يتعارض مع سياسات امريكا ومصالح امنها القومي المرتكز على المحافظة على القيادة الدولية ، في ظل صعود لاعبين دوليين واقليميين ما من شانه ان يؤثر استراتيجيا على هذا الدور .
في مواجهة لهذا الاسترخاء العام الذي اثر بشكل واضح في ذات الهوية الامريكية ( على غرار مقولة ابن خلدون ضعف العصبية القبلية ) كان لا بد من الدفع باتجاه تحريك مقولات ونظريات على غرار نهاية التاريخ بتفوق الحضارة الغربية والامريكية برمزيتها لفوكوياما ، وصراع الحضارات لهانتغتون والذي يركز على ان الحروب القادمة هي حروب الحضارات تحديدا المسيحية والاسلامية ، وشبيهاتها من افكار ليبرالية ترتكز على ضرورة دمقرطة الدول لكون هذه الحالة هي الحصانة الوحيدة للحفاظ على امن الدول الغربية الليبرالية الديموقراطية ، وبالعموم لقد مهدت هذه الافكار والنظريات لتدعيم الهوية الامريكية من خلال شن ما يعرف اليوم بالحرب على الارهاب الاسلامي .
مبدع ام سجين عالم الابداع :
في راي بريجنسكي ان الانسان امام خيارين ، ” اما ان يكون مبدعا ” والمقصود هنا في قيادة العالم على مختلف المستويات ، ” او ان يكون سجين الابداع ” ،وذلك طبعا ضمن عملية اعادة توزيع القوة العالمية .
ومن وجهة نظر العديد من المنظرين الاستراتيجيين ان على المستوى الاقتصادي او السياسي فان العالم يمر بازمة موارد ولاسيما في مجال الموارد الحيوية بالمقارنة مع الارتفاع الهائل باعداد السكان من جهة والاستهلاك المتعاظم لهذه الموارد ولاسيما في الدول الصناعية وذات التكنولوجيا المتطورة ، تترافق مع سياسات المدرسة الواقعية في السياسات الدولية التي تعتبر ان الانسان يحمل في ذاته جينات الطمع والشر ، من هنا لا بد وان تتحرك مقولات كالامن القومي ، والحروب الاستباقية ، وتبرير استنزاف الشعوب في سبيل تامين السيطرة على مقدرات عالم الغد والتي من شانها ان تحول المسيطر الى مبدع وبقية التابعين الى سجناء ، او بالمفهوم المتعارف عليه اليوم ، التربع على عرش زعامة العالم وقيادته عبر اليات وفرها عصر العولمة .
لكن اين يقع اعدام الشيخ نمر باقر النمر من هذه المعادلة الدولية ؟
لقد كان للادراة الامريكية وحروبها الاستباقية تحت مسمى الارهاب تاثيراتها المباشرة على العالم اجمع ، فبعد ضرب افغانستان ، والعراق ، وما سببه احتلال العراق من انكشاف على مستوى المخطاطات الامريكية للمنطقة وتبعاته المستقبلية ، والحديث المتواصل عن دمقرطة المنطقة ، وصولا الى اغتيال الرئيس رفيق الحريري الذي شكل اول اشارة لشرارة الشرق الاوسط الجديد ، والانقسامات الحادة التي طالت المواقف في الساحة اللبنانية ، والتي شكلت عينات او نماذج عن الشرخ الذي طال العلاقات فيما بين اللاعبين الدوليين والاقليميين واسفرت عن تموضوعات اكثر وضوحا وحدة في المواقف عموما ، جاءت حرب تموز 2006 ونتائجها لتغير موازين اللعب عموما ، حرب اسهمت في رفع رصيد حزب الله اللبناني وما يعرف بجبهة الممانعة للاستفراد الامريكي، من بيروت حتى موسكو ، وعلى عكس ما كان مؤملا امريكا من ان القضاء على حزب الله سيسهم في قطع اهم ذراع ايرانية قادرة على الوصول الى الكيان الصهيوني ، القاعدة العسكرية الامريكية في الشرق الاوسط والامتداد الطبيعي للعالم الغربي حضاريا فيه ، على خلاف باقي دول الشرق الاوسط وتحديدا الاسلامية والعربية منها ، جاءت نتيجة الحرب لتعزز المخاوف من المشهد الجديد ، حزب الله وخطه في المقدمة ، دعم راي عام عربي واسلامي وشبه دولي منقطع النظير ، وتقدم ايراني وسوري في مقابل تراجع عربي فاضح .
لم يكن خافيا على المتابع ما يتعرض له المواطن العربي والمسلم عموما من اخفاقات طالت كافة جوانب حياته ، وساهمت تسارع وتيرة التواصل والنقلة النوعية في عالم الاتصالات الى جانب الاعلام المدروس في مضاعفة حدة هذه الاحاسيس الغاضبة والكامنة على المستوى الفردي والجماعي ، فانطلقت اولى شرارات ما سمي ب” الربيع العربي ” ، ولكن ما بين حرب 2006 ونتائجها وشرارات الربيع في تونس ، كان القوة الاعلامية الناعمة تعمل على ضرب اهم مقومات حرب 2006 ، الا وهو الراي العام المؤيد والمعجب في العالم العربي والاسلامي وحتى الدولي بالحركات المقاومة لاسرائيل ، فبدا اللعب على بوق الطائفية ، وقد شكل لبنان ومعطياته السياسية ، ساحة مباشرة وخصبة لهذا الصراع .
من تونس وصولا الى ليبيا ومصر كانت لعبة الدومنو تسير بسلاسة ، القرار الامريكي يقضي بعدم التدخل المباشر وهو ما فسره البعض بالانسحاب الامريكي او الارباك الامريكي ، لكنه لم يكن سوى اطلاق الشرارة الاولى للفوضى المنظمة ، لكن المتابع لتاريخ المنطقة وجغرافيتها وترابطها ثقافيا وحضاريا ودينيا كان يدرك ان شرارة الساحل الجنوبي للمتوسط لم تكن اكثر من شرق اوسط جديد باساليب جديدة اكثر تعقيدا وحيوية ، وصولا الى سوريا ، هنا حدث ارباك في منظومة الفوضى ودخلت عناصر جديدة في منظومة الصراع ، اهمها معركة القصير ونتائجها ، فكان ان تم مخاطبة منظومة ما يعرف بالممانعة بخلق وابتكار كيان شديد التطرف لمواجهتها وتفتيت سوريا التي تعتبر الطريق الايراني الروسي الحيوي الى الساحل الشرقي للمتوسط وما تمثله من موقع متقدم في معادلات الصراع الدولي ، بالاستفادة من تجربة القاعدة في مواجهة الاتحاد السوفياتي في افغانستان ، تحت مسمى الدوله الاسلامية داعش ، وتسميتها التي تخاطب وتدغدغ المشاعر الاسلامية التواقه الى استعادة امجاد بعد الكثير من الاخفاقات القومية والملكية التي تلبست طويلا لبوسا اسلاميا .
في ظل المعادلات الدولية والاقليمية المتغيرة اعتبرت السعودية ان اي تقدم في موقع ايران في الساحة الاسلامية ،والشرق اوسطية يعادل تراجعا سعوديا في المعادلة عينها ، وهو ما يفسر في العلاقات الدولية بلعبة حاصلها او نتائجها صفر ، وكان التحسس السعودي قد اشتد عقب الاحتلال الامريكي للعراق ونتائجه التي ساهمت بدعم الدور الايراني فيه ، ساهم في تاجيجه بضع تصريحات ايرانية كان الهدف منها الداخل الايراني اكثر مما استهدفت الخارج اقليميا ودوليا ، ولعله قارب الاحساس الاسرائيلي في حينه ، لجهة انحسار التهديد العراقي ذو الصبغة العربية والاسلامية والسنية تحديدا ، ضمن معادلة الصراع على الادوار في النظام الدولي المرتقب .
خلال هذه الحقبة ، تركيا التي كان قد تراجع دورها النابع من موقعها الاستراتيجي في الحرب الباردة في التسعينات ، بدات تدخل من بوابة فلسطين والاسلام الى معادلة المنطقة ، ليس حبا بالمنطقة وانما بحثا عن دور يعيدها الى الواجهة لدى الدول الاوروبية والمعسكر الغربي عموما كلاعب مهم في معادلة اقليمية مهمة ، تضمن امنها القومي في النظام الدولي المرتقب ، وقد تمكنت الى حد ما من محاولة لعب دور البديل السني في العالم السني في مواجهة ما سمي ” بالتمدد الشيعي” او ” الهلال الشيعي” فكان التقرب من نظام بشار الاسد والدخول على خط ما عرف برعاية مفاوضات غير مباشرة اسرائيلية – سورية ، ثم استكملت الدور بسفينة مرمرة والمواقف الحادة التي اطلقتها باتجاه اسرائيل في الوقت عينه الذي اعلنت موافقتها على وضع جزء من منظومة الدرع الصاروخي الامريكي على اراضيها ، كان الموقف من القضية الفلسطينية تكتيكي والثاني استراتيجي ولكن هذا ما لم يقراءه العرب والمسلمين في حينه متناسين ايضا كونها عضو في حلف شمالي الاطلسي ” الناتو ” لقد لعبت تركيا دور سجين الابداع الغربي طواعية .
في تقديم لكتابه ” رؤية استراتيجية ” اكد برجنسكي على مجموعة معطيات لعل اللافت فيها هو التاكيد على الدور التركي وان تركيا ربما تكون اهم دولة في الناتو ، وانها حاجة اوروبية وغربية عموما لاقرار نوع من “التوازن والتعادل” في الصراع المرغوب امريكيا في منطقة الشرق الاوسط ولجر روسيا مستقبلا الى حظيرة التحالف الغربي من بوابة اسيا الوسطى .
من الموقف التركي يجب فهم الموقف السعودي ، فالسعودية التي استشعرت تراجعا في دورها الاقليمي ، مطلع القرن الواحد والعشرين وصب جام غضب الراي العام الدولي عليها بعد 11 سبتمبر ، وكانت في قلب التغيرات التي كان من المفترض ان تطال المنطقة ابان مشروع بوش الابن لدمقرطة المنطقة ولا زالت جزءا من المخططات الامريكية التقسيمية لمستقبل المنطقة ، صبت جام غضبها على الدور الايراني دون الالتفات الى ان المنافس الحقيقي والاستراتيجي والايديولوجي لدورها في المنطقة انما هو اللاعب التركي .
اينما امطرت فخراجك الي :
في توصياته الاخيرة في كتابه الفوضى ، يؤكد برجنسكي ان ” الصراع واللاستقرار سيظلان محور الهلال الاسلامي وحقيقته المستمرة .. وهذا القول ينطبق ايضا على دول ما بعد الاتحاد السوفياتي الواقعة في اسيا الوسطى .. وان استمرار الفرقة العربية التي ينبغي ان يبقي عليها الغرب بدافع الحفاظ على مصالحه وسيطرته على منابع النفط العربية ستساهم ايضا في عدم استقرار المنطقة .”
ان عدم الاستقرار في الحزام الممتد من شرق اسيا وصولا الى وسطها مرورا بدول الخليج الفارسي ، وصولا الى شمال ووسط افريقيا تحديدا مصر وقناتها ونيجيريا ومالي ، هو حاجة امريكية شريطة اولا عدم التدخل المباشر الذي من شانه ان يورط امريكا في مستنقعات هذه المناطق ، ثانيا لعب دور الموازن والمؤثر عبر اوروبا وحلف الناتو عموما ، وثالثا ، عدم الوصول بهذه التواترات الى حالة حرب كبرى من شانها تدمير الجميع .
امريكا البعيدة نسبيا بجغرافيتها عن تبعات هذا الحزام الناري ، تعتقد ان اكثر المتضررين المباشرين لهذه الفوضى وفقعات التوتر هم الدول التي رشحت للعب دور منافس في النظام الدولي المرتقب ، كالصين ، وروسيا ، والعالم الاسلامي الذي ينطوي بعلم اهله او بجهلهم على مقومات اقتصادية وديموغرافية وجغرافية اذا ما استخدمت بصورها الفضلى من شانها ان ترفعه الى مصافي القوى الاقليمية على اقل تقدير ، وطبعا اوروبا التي يدفعها هذا الحزام وتاثيراته المباشرة الى المزيد من الارتماء في الحضن الامريكي لصيانة امنها .
انطلاقا من هذا التوجه الامريكي السادي ، تعتقد الادارة الامريكية ان اشعال فتيل الحرب السنية- الشيعية في الهلال الاسلامي كما يسميه برجنسكي هو مصلحة امريكية تخدم اهدافها الاستراتيجية ، لكن الدخول الروسي على خط الازمة السورية ، لمحاربة تنظيم الدولة ” داعش ” وليد الادارة الامريكية غير الشرعي ، عرى مساعيها غير المباشرة لتفتيت المنطقة على خلفية صراع دموي سني – شيعي ، في هذه المرحلة شهدنا نوع من التظاهرة الدولية لمواجهة ارهاب داعش تحديدا بعد تحييد فئات اخرى وصفت بالمعارضة المعتدلة ، وتعويمها في السعودية ، تظاهرة دولية لمواجهة ارهاب وصف بالسني السلفي ولاسيما بعد تفجيرات باريس ، وجاء مقتل زهران علوش قائد جيش الاسلام المحسوب مباشرة على السعودية ، في غارة روسية ، لتاجيج مختلف المخاوف السعودية من خسارة الحرب في سوريا في ظل استنزاف كبير في اليمن ، لقد شعر السعودي بلحظة التخلي الامريكي من جهة وبتقدم للعدو الذي افترضته لتدعيم فرص استمرار حكمه ، اذ انه وجد في ايران عامل انعاش للهوية السعودية في العالم الاسلامي واعادة الاعتبار لها “كام للقرى” في عالم قائم على القوة فكان الارتماء في الحضن التركي حربة الناتو وامريكا لتفتيت المنطقة .
من هنا جاء قرار اعدام الشيخ النمر في محاولة سعودية جديدة لتدعيم هويتها الاسلامية وتعويم دورها الاقليمي وحرف الانظار باتجاه ” ارهاب شيعي ” من خلال اشعال حرب سنية – شيعية ، وجدت في بعض الردود الايرانية والشيعية المستندة الى رؤية دينية ، قاصدة او غير قاصدة ، سندا لهذه الدعوة .وقد يصدق الاعتقاد الامريكي حاليا : امطري حيثما شئتي فخراجك الي .
يبقى بضع اسئلة ضمن المنظومة المفتوحة على كافة الاحتمالات :
هل ستتمكن ايران وامتدادها الشيعي من استيعاب وامتصاص الهدف السعودي من وراء الاعدام وبالتالي ممارسة سياسة ضبط النفس بانتظار التشظي السعودي ؟
وهل وضعت روسيا في اعتبراتها استراتيجية واضحة ودقيقة وفق ما تقتضيه الحرب الجديدة انطلاقا من الشرق الاوسط والتي عبرت عنها وثيقة بوتين الاستراتيجية عشية انطلاق السنة الجديدة حول كون الولايات المتحدة وحلف الناتو يشكلان خطرا على الامن القومي الروسي ؟ والى اي حد يمكن التحرك قدما في المعادلة الدولية شديدة التعقيد ؟ وهل من امكانية للوقوف في موقف المهاجم بدلا من موقف الدفاع عن النفس دائما ؟ وما تبعات هذا الموقف على روسيا والعالم ؟؟
*أستاذة الجغرافيا السياسية والجيوبوليتك