الحوار العربي – التركي
صحيفة الخليج الاماراتية ـ
عبد الحسين شعبان:
إذا كانت السياسة تفرّق في الكثير من الأحيان، لاسيّما بين ما هو ظرفي وآني وطارئ، وبين ما هو ثابت واستراتيجي وبعيد المدى، فإن التاريخ والجغرافيا والثقافة والدين تشكل ركائز أساسية للعلاقات بين البشر، وهو الأمر الذي ينطبق على العلاقات العربية – التركية، على نحو وثيق . وإذا ما أضفنا إلى هذه الركائز الاقتصاد وهو “التعبير المكثف عن السياسة” والتعليم باعتباره شرطاً لا غنى عنه للتطور والتنمية، فسنكون أمام مشهد مستقبلي شامل لا يعظّم الجوامع والقواسم المشتركة فحسب، بل يقلل من الفوارق والاختلافات، على حد التعبير الأثير للأمير الحسن بن طلال في الحوار العربي – التركي للعلوم الاجتماعية .
وإذا كانت المبادرة لهذا الحوار قد جاءت من مثقفين وأكاديميين ومنشغلين في البحث العلمي، فإن الأمر لا بدّ من أخذه على محمل الجد، خصوصاً عندما تعرض القضايا بشفافية ونقد وتبادل رأي، إزاء ما هو مبدئي ومصلحي، وإزاء ما هو مفيد ونافع، ويمكن أن يؤسس لقاعدة تفاهم ومشتركات ذات أبعاد إنسانية، ولعلّ هذا ما حصل في عمّان في إطار عمل رصين شارك فيه نحو 150 باحثاً وأكاديمياً نصفهم من العرب والنصف الآخر من الأتراك وقدّمت فيه نحو 80 ورقة عمل، وتم الخوض فيه في قضايا ذات اهتمام مشترك وأبعاد مستقبلية من دون نسيان الواقع الراهن، والعمل على الارتقاء به ليكون أساساً للتطور المستقبلي .
ولعلّ هذه ليست المرّة الأولى التي ينتظم فيها حوار المثقفين والأكاديميين العرب والأتراك، بل إنها المرة الرابعة، ولكن ما يميّز هذه المرّة عن سابقاتها، أنها حملت عنواناً مهماً ومثيراً وهو “الاقتصاد والتعليم والتنمية” وكانت الجهات المنظمة والتي دعت لهذا الحوار لجنة استشارية موسعة هي ثلاث: منتدى الفكر العربي (مقرّه عمان) ومعهد التفكير الاستراتيجي (مقره أنقرة) وجامعة البتراء (عمان) مؤكدة أن الهدف المباشر من هذا الحوار هو تقوية العلاقات الأكاديمية والعلمية بين العرب والأتراك لتكون إطاراً تنويرياً وإرشادياً للعلاقات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والثقافية .
لقد كان لانحلال الدولة العثمانية بعد نهاية الحرب العالمية الأولى 1914-1919 وقيام الجمهورية التركية لاحقاً وتحرر العديد من البلدان العربية من أنظمة الانتداب والتبعية المباشرة وغير المباشرة التي حكمتها، فرصة جديدة لإعادة تنظيم العلاقات العربية – التركية على أسس جديدة، بافتراض احترام القواعد القانونية ومبادئ السيادة وحق تقرير المصير والمصالح المشتركة والمنافع المتبادلة وبمراعاة الخصوصية الوطنية والقومية لكل بلد من البلدان، على الرغم من اتخاذ هذه العلاقات مسارات مختلفة، من جهة التحالفات السياسية والعسكرية والتوجهات الاقتصادية والأرضية الثقافية، لكنها ظلّت محكومة بعوامل التواصل الحضاري التي تفرضها علاقات الجيرة والدين والتاريخ والثقافة، وهي مشتركات لا يمكن استبدالها أو إلغاؤها، مع أن الفجوة كانت كبيرة في مجالات متعددة ومختلفة أخرى .
وإذا كان الاقتصاد عصب الحياة فإنه لا بدّ أن يصب في مصلحة التنمية، ولاسيّما في قطاع التعليم والتحوّل إلى الاقتصاد المعرفي والانتاجي وتأهيل القوى العاملة، وكذلك في إطار تجسير الفجوة بين التعليم ومخرجاته وحاجة المجتمع، وقد اغتنت تركيا والعالم العربي بتجارب متنوعة وجرّبت مسارات مختلفة، خصوصاً أن العالم توصّل في العقود الثلاثة الماضية وفي إطار البرنامج الانمائي التابع للأمم المتحدة، إلى أن هناك فوارق كبيرة بين النمو الاقتصادي والتنمية الشاملة ذات الأبعاد الاجتماعية، والتي عرفت في الأدبيات الاقتصادية الدولية “بالتنمية المستدامة” التي تشمل التنمية السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والقانونية والتربوية والتعليمية والصحية والنفسية والغذائية والبيئية وغيرها .
ولعلّ الحوار العربي- التركي، لاسيّما بشقه الأكاديمي يمكن أن يسهم في الكشف عن حقول للتعاون (بين العرب والأتراك) ويساعد على الوصول إلى تفاهمات جديدة لتجاوز تجارب الماضي وآثاره وسوء الفهم عن طريق النقد والتصويب وتفهّم الدوافع والأسباب والبناء على ما هو إيجابي ومشترك والتفاعل الحضاري بما يخدم التنمية والمصالح المشتركة، الأمر الذي يخلق حالة من التواصل المستمر، لما فيه خير شعوب المنطقة .
وإذا كان المؤتمر يستهدف رأب الفجوة الفكرية والأكاديمية، كما جاء في الكتاب التعريفي الذي تضمن خلاصات الدراسات والأبحاث، فإنه بلا أدنى شك سيطرق أبواباً كانت موصدة في ظل سياسات الانغلاق والتباعد السابقة، وذلك من خلال اللقاءات المباشرة بين الأكاديميين والمفكرين العرب والأتراك، إضافة إلى نظرائهم الدوليين المهتمين بالشؤون العربية- التركية . وقد عبّرت عن ذلك الطموح الكلمات التي قيلت في افتتاح المؤتمر من الجانبين التركي والعربي، في أن يكون هذا الجهد إطاراً مؤسسياً منظماً يضمن الاستمرارية والفاعلية للحوار والتواصل بين جميع الأطراف، وهو خطوة ضرورية لتأسيس جماعة علمية معنية بالعلوم الاجتماعية وتهتم بجميع قضايا الشرق الأوسط وتقدّم رؤى جديدة وفق منهجية ومنظورات بديلة للقضايا الدولية، لتقديم معرفة عميقة لصانعي القرار وتبادل الخبرات وإزالة سوء الفهم والصورة النمطية كل عن الآخر ودعم التعاون والمشروعات والأبحاث المشتركة ودعم الباحثين الشباب .
جدير بالذكر أن المؤتمر الأول للحوار الأكاديمي العربي- التركي بدأ في أنقرة عام 2010 عشية ما سمّي بالربيع العربي، وكان المؤتمر الثاني انعقد في القاهرة عام 2012 بعد المتغيرات التي شهدتها المنطقة، بما فيها من آمال واحباطات بسبب اندلاع موجات العنف والإرهاب، وقد انعقد المؤتمر الثالث في اسطنبول في العام 2013 للتوقف عند دراسة خصائص الدولة وقضايا العدالة والشباب، والمؤتمر الرابع في عمّان ،2014 حيث تم تكريسه لقضايا الاقتصاد والتعليم والتنمية، وتكتسب العلاقة بين الاقتصاد والتعليم أهمية استثنائية في بلداننا ومنطقتنا حيث تزداد معدّلات البطالة والفقر، ولا يزال العالم العربي على الرغم من كل ما بذله في الماضي من وسائل لمكافحة الأمية، يعاني من الأمية الأبجدية، ناهيكم عن معاناته الأمية التي تتعلق باستخدام وسائل الاتصال الحديثة وما له علاقة بالعلم والتكنولوجيا .
وقد كانت التكنولوجيا والبحث العلمي والتنمية المستدامة إحدى المحاور المهمة التي جذبت نقاشاً “قديماً – جديداً” وهو ما كان طرح في الخمسينات والستينات، إزاء أي نظام اجتماعي يتم اختياره، في إطار الصراع الآيديولوجي والحرب الباردة، ومواقف دول عدم الانحياز، ومفاده هل هناك علاقة بين التكنولوجيا والأيديولوجيا؟ وهل التكنولوجيا بريئة؟ وهل بالإمكان فصل التكنولوجيا عن حقوق الإنسان؟
إن الحوار العربي- التركي يصبّ في سياق حوار الحضارات وتواصل الثقافات، بما يتطلب من تبادل للخبرات والتجارب ومعرفة كل طرف للآخر على المستوى الخاص والعام، والاتفاق على برامج عملية قابلة للتطبيق وبجهد تشاركي في إطار استراتيجيات واضحة، ولا شك في أن أي جهد في هذا المجال، سيلتقي مع جهد عريض وواسع يستهدف مجابهة التحدّيات، خصوصاً قضايا التعصب والتطرف الديني والمذهبي والإثني وإشكاليات ومشكلات الإرهاب والإرهاب الدولي واستشراء العنف، الأمر الذي يتطلّب لغة الحوار بدلاً من الاحتراب على المستوى الداخلي أو في العلاقات بين بلدان المنطقة وعلى النطاق العالمي، بما فيها العلاقات العربية – التركية، فيما يتعلق بالتدخل بالشؤون الداخلية وقضايا الحدود، إضافة إلى القضايا ذات البعد الاستراتيجي وهي الطاقة والمياه والتكنولوجيا والبيئة، وهي وقواسم مشتركة لا بدّ من التعاون الدائم بشأنها لما يعود بالخير على شعوب المنطقة جميعاً .