الحرب الباردة الجديدة
صحيفة الوطن السورية-
تحسين الحلبي:
يستخلص من مختلف التعريفات التي وضعها عدد من المحللين المختصين بالاستراتيجيات العالمية أن «الحرب الباردة» هي إستراتيجية تستخدمها قوة كبرى كبديل لأخطار وتوازنات استخدام أسلحة التدمير الشامل التي قد تدمر طرفي الصراع أثناء التنافس على المصالح والنفوذ بينهما، وهي لهذا السبب تظهر على شكل شن حرب استنزاف سياسية واقتصادية وإعلامية شاملة وحرب وكلاء يشنها طرف ضد آخر لتفتيت قدراته وفرض الشروط عليه.
في القرن الماضي انتهت الحرب الباردة التي شنها معسكر الولايات المتحدة على المعسكر السوفييتي بعد أن استغرقت أربعة عقود وأدت إلى تفكيك المعسكر السوفييتي وإضعاف قدراته على منافسة قدرات المعسكر الغربي في الساحة العالمية وهكذا تحولت الولايات المتحدة في التسعينيات من القرن العشرين إلى القوة الكبرى الوحيدة في الساحة العالمية.
خلال العقد الماضي للقرن الحادي والعشرين تمكنت، كما يرى الجميع، روسيا الاتحادية من استعادة قدرات أكثر تطوراً في المجال العسكري والاقتصادي وتعاظمت مكانتها في الساحة العالمية كقوة كبرى، كما تمكنت الصين من تحقيق قدرة اقتصادية وسياسية متعاظمة فرضت وزنها كقوة كبرى إلى جانب روسيا وأميركا، معززة بقوة عسكرية متزايدة، وفرضت هذه التطورات وتآكل القدرة الأميركية بالمقارنة مع تعاظم قدرات الصين وروسيا العسكرية والاقتصادية مخاوف أميركية على خسارة جزء من مصالحها الواسعة وقوتها التاريخية المهيمنة إلى حد بدأ فيه معظم المحللين المختصين بالشؤون الاستراتيجية الدولية يؤكدون وجود حرب باردة يفرض سياساتها المعسكر الأميركي الغربي من جهة، ضد المعسكر الصيني الروسي من الجهة الأخرى هذه المرة.
في المجلة الإلكترونية «ريسبونسيبيل ستيتكرافت» الأميركية السياسية يحذر دانيال لاريسون المختص بعلم السياسة والتاريخ وهو رئيس تحرير مجلة «ذي أميركان كونسيرفاتيف» في 22 تشرين الأول الجاري من «النتائج التي ستولدها حرب باردة أصبحت حتمية بين المعسكرين الأميركي والروسي»، ويكشف أن واشنطن بدأت تعد متطلبات هذه الحرب الباردة وتعمل على حشد كل مستلزماتها الداخلية والخارجية بهدف احتواء الصين وضرب نفوذها في آسيا بشكل عام وفي شرقها بشكل خاص، ويتوقع لاريسون أن تطول فترة هذه الحرب الباردة لعقود يتزايد في بدايتها المتشددون داخل الحزبين الديمقراطي والجمهوري ضد الصين. ويحذر من أن واشنطن لن تعتمد في سياستها الخارجية في أثناء ذلك فقط على زيادة التوتر والعداء ضد الصين بل ستلجأ إلى تصعيد في سباق التسلح وسياسة حافة هاوية المجابهة العسكرية المباشرة بينها وبين الصين وتوظيف الوكلاء لشن الحروب وحمايتهم وستعمل على قلب أنظمة الحكم التي تقف إلى جانب الصين.
أما على الساحة الداخلية الأميركية فيتوقع لاريسون أن تقوم الإدارة الأميركية «بتقليص الحريات باسم حماية الأمن القومي وباستثارة الشعور القومي بأشكال متشددة في التحريض على الصين وروسيا».
لا أحد يشك أن مثل هذه الحرب الباردة الأميركية الغربية ستولد في الشرق الأوسط نشاطات سياسية تهدف إلى تشكيل كتلة سياسية إقليمية وعالمية تتجمع فيها دول من مختلف القارات لمواجهة ما يمكن أن ينشأ عن السياسة الأميركية الإمبريالية من نتائج كارثية على بقية دول العالم من هذه الحرب، على غرار ما جرى في بداية الحرب الباردة في منتصف القرن العشرين حين تشكل معسكر «عدم الانحياز» في الخمسينيات منه، وساهم في تأسيسه عدد من الدول العربية المناهضة للهيمنة الغربية في ذلك القرن الماضي، وشكل هذا المعسكر إطار حماية للدول التي تنتمي له وترفض الخضوع للسياسات والشعارات التي استخدمتها الولايات المتحدة في تلك الحرب.
ليس من المبالغة التأكيد أن محور المقاومة الإقليمي في المنطقة، سيشكل أول قاعدة سياسية إقليمية للقوى التي ستتصدى لمضاعفات الحرب الباردة الأميركية المقبلة، علماً أن الصين وروسيا شكلتا إطارين عالميين للدول التي ترغب في التعاون الاقتصادي والسياسي معهما لكي يتشكل من كل منهما جبهة عالمية للسلام والتعاون، وهما دول «البريك» ودول «منظمة شانغهاي للتعاون» التي انضمت إليها إيران، وهذان الإطاران مدعوان إلى زيادة عدد أعضاء الدول فيهما، كما أن المطلوب من قادة كل هذه الدول الأعضاء في هاتين المنظمتين العالميتين تشكيل مجموعات خمس أو عشر كبريات من بين الدول الكبرى أو الإقليمية من الأعضاء المنتمين لهما، لموازاة ما يسمى إطار الدول «السبع الكبرى» الذي تقوده الولايات المتحدة مع فرنسا وبريطانيا أو العشرين الكبار.
لا بد في النهاية لكل الدول التي تناضل وتسعى للمحافظة على استقلالها وسيادتها ووحدة أراضيها ومصالح شعوبها الاستعداد لكل الاحتمالات التي ستولدها السياسات الإمبريالية الأميركية عليها وعلى دول العالم ومستقبل السلم العالمي، ما دامت الحرب الباردة بدأت تدق أبواب المرحلة المقبلة.