الحرب الإلكترونية في المواجهة بين روسيا والناتو في أوكرانيا
جريدة البناء اللبنانية-
د. منذر سليمان وجعفر الجعفري:
الحرب الدائرة في أوكرانيا هي تتويج للمرحلة الخامسة من الحروب؛ الحرب الهجينة، بحسب تعريف المؤسّسة العسكرية الأميركية، والتي تُسخّر فيها كلّ الوسائل الهجومية «التقليدية»، والوسائط الإلكترونية، أو الحرب الرقمية، كعامل محوري في «فن الحرب»، وتكتيكات جديدة»، بما فيها الاستثمار في مجموعات مسلّحة من قبل أطراف الصراع.
وباستطاعتنا القول إنّ «الجيل السادس» من الحروب، بحسب تصنيف الجنرال الروسي فلاديمير سليبتشينكو، هو ما يشهده العالم اليوم، لاعتماده على أحدث التقنيات العلمية التي توصّل إليها البشر.
حروب الجيل السادس لا تعتمد على الالتصاق المباشر مع الخصم، بل تدار عن بُعد، ويتوسّع قُطر دائرتها ليشمل كلّ أنواع الأسلحة المتاحة، «منها نظم التسليح البالغة الدقّة، والأسلحة النووية التكتيكية، والذكاء الاصطناعي، والأسلحة البيولوجية والكيميائية، والبُعدان الاقتصادي والمعلوماتي»، والطائرات المسيّرة، للسيطرة والتحكّم وتحقيق الأهداف بكلفة متدنية نسبياً.
وقد مهّدت أبرز وسائل الإعلام الأميركية لشنّ حرب إلكترونية، مشيرة إلى تقديم واشنطن كلّ أنواع الدعم التقني واللوجستي لأوكرانيا، وذلك على صدر صفحات الرأي، قائلة: «لماذا لم يسمع أحدٌ بالحرب السيبرانية السرّية في أوكرانيا؟»، التي تعرّضت لها منذ العام 2014، والتي أدّت إلى انقطاع التيار الكهربائي في مناطق واسعة، وبهجمات سيبرانية مدمّرة على مواقع حكومية أدّت إلى قطع اتصال بعضها مع بعض في جزيرة القرم، بحسب «صحيفة نيويورك تايمز» (18 آذار/ مارس 2022).
وتشير بعض التقارير الأميركية إلى تعرّض أوكرانيا لـ «أكثر من 150 هجمة إلكترونية منذ بدء الحرب» في 24 شباط/ فبراير الماضي، صنّفها قسم «نُظم التهديدات الأمنية» في شركة «مايكروسوفت» الأميركية بأنها «هجمات سيبرانية مدمّرة استهدفت البنى التحتية الإلكترونية في أوكرانيا، عبر برنامج «فوكس بليد» الضار لفصل اتصالات الأجهزة الأوكرانية عن شبكة الإنترنت ومسح بياناتها» (موقع «مايكروسوفت»، 28 شباط/ فبراير 2022).
في التفاصيل التقنية، وبحسب الشركة الأميركية أعلاه، إضافةً إلى «وكالة الأمن السيبراني وأمن البنى التحتية « CISA، وهي هيئة رسمية تابعة لوزارة الأمن الداخلي، تعرّضت أوكرانيا لـ «هجمات إلكترونية غير مبرّرة» لتدمير نظمها الكمبيوترية وإخراجها من الخدمة، أبرزها برنامج «ويسبر غيت – 1 و 2»، في 15 كانون الثاني/ يناير 2022، الذي أدّى إلى تعطيل 70 موقعاً إلكترونياً على الأقلّ، واختراق نحو 10 مواقع أخرى»، منها وزارات الخارجية والتربية والعلوم، بحسب بيانات جهاز الأمن الأوكراني.
والبرنامج الآخر هو برنامج «هيرمتك وايبر»، في 23 شباط/ فبراير 2022، والذي استهدف أجهزة تعمل بنظام «ويندوز» بهدف إخراجها عن الخدمة وتعطيل عمل نظم الكترونية في بعض دول البلطيق.
البرنامج الضار، «الدودة الإلكترونية»، والأقل كلفة، المعروف بـ»الحرمان من الخدمة»، هو الأكثر شيوعاً بين القراصنة عبر العالم، استُخدم ضدّ وزارة الدفاع الأوكرانية في الساعات الأولى لبدء الحرب، من خلال إغراق أجهزتها برسائل للمرور إلى شبكة الانترنت، ما منعها من التواصل الفعّال عبر موقعها الإلكتروني مع المستخدمين بشكل عام.
بالتزامن مع بدء «العملية الخاصة» الروسية، أنشأت أوكرانيا جهاز «الجيش السيبراني»، برئاسة النائب الأول لرئيس الوزراء ميخايلو فيدوروف، في 25 شباط/ فبراير 2022، الذي سارع إلى طلب المساعدة العلمية «من مختلف خبراء التقنية في العالم، لاختراق قائمة من 31 موقعاً إلكترونياً لمنظمات الأعمال والدولة الروسية» (تقرير لوكالة «رويترز» للأنباء، 27 شباط/ فبراير 2022).
وعندما شهدت أوكرانيا سلسلة انقطاع في خدمات شبكة الإنترنت، «تبرّع» رئيس شركتي «تيسلا» و «ستار لينك»، الأميركي إيلون ماسك، بتقديم نظام «ستار لينك» للأقمار الاصطناعية لتوفير خدمات الإنترنت لأوكرانيا، ما أتاح لها الفرصة لديمومة تواصلها مع الأقمار الاصطناعية، واستخدامها الاتصالات العسكرية بين الوحدات المختلفة، وتوجيه طائرات «الدرونز» لإلقاء ذخائر مضادة للدبابات.
الثابت أنّ تسخير الولايات المتحدة ودول حلف الناتو وسائلها الإعلامية الهائلة في خدمة كييف ساهم في الحدّ من إلحاق الضرر بالسردية الأوكرانية، بل استطاعت بمجموعها نشر مقاطع فيديو وصور من ميادين الاشتباك تظهر تدمير عدد من المعدات المدرعة والطائرات الروسية، وأتبعتها بمقاطع لأسرى من الجنود الروس. الأمر الذي «أوحى» لمواطني الغرب والعالم بأنّ أوكرانيا تكسب الحرب بسبب الدعم الهائل والمتواصل للمعدات والإمكانيات الغربية ضدّ روسيا. الشائع هو أنّ «الحقيقة هي الضحية الأولى للحروب»، ونهاياتها تتقرّر على الأرض وليس عبر الفضاء الإلكتروني.
المؤسسة العسكرية وفروعها الأمنية الأميركية تدرك حقائق تاريخ الحروب البشرية، وبأنّ مصيرها يتحقق على أيدي «القوات البرية»، بصنوفها المتنوّعة، وخصوصاً بعد تجاربها المؤلمة في حروبها المتواصلة في فيتنام والعراق وأفغانستان.
أما عزوفها عن خوض حرب مباشرة مع روسيا، كما كان «معسكر الحرب» يتوقع، فله ما يبرّره في المرحلة الحالية من تباين القدرات التقنية والعسكرية مع خصم يملك أسلحة نووية قادرة على الوصول إلى الشواطئ الأميركية بسرعة فائقة، بحسب تقديرات البنتاغون وسلاح الغواصات.
العقيدة العسكرية الأميركية لا تزال تولي القوات البرية أولوية في حسم المعارك، كما جاء في أحدث تحديث للأدبيات العسكرية الصادرة عن قوات الجيش، الموكل إليها التقدم والاحتفاظ بالأراضي، عبر نشر القوات البرية بأسلحة مناسبة تدعمها «المقاتلات والسفن والصواريخ الباليستية». أما الأسلحة النووية التكتيكية، فهي غير قادرة على السيطرة على الأرض.
وأوضح البنتاغون مؤخراً أنّ «من الضروري بمكان لقادة سلاح المشاة دراسة تجارب من سبقوهم، للتوقف على ما استنبطوه من تعديلات وما نجم عنها من إدارتهم لفوضى الخارج والانفعالات الداخلية للحرب» (منشورات وإرشادات «بينينغ» للقوات البرية، 18 كانون الأول/ ديسمبر 2018).
وجهة الصراع الدائر حالياً بين روسيا والولايات المتحدة مرشحة إلى التصعيد بكلّ المقاييس، وإلى مزيد من التعقيد، مع دخول أدوات الحرب الإلكترونية بقوة كعنصر اساسي من عناصر المواجهة والحسم.
الحرب السيبرانية بدأت منذ العام 2020، بحسب المصادر الأميركية، عندما استطاعت روسيا اختراق موقع وزارة الخزانة الأميركية وعدة جهات رسمية وتجارية كبرى، وأشارت أيضاً إلى توقف مطار «هيثرو» في لندن عن الحركة بسبب الاختراق الإلكتروني في 26 شباط/ فبراير 2022، الأمر الذي ينبئ بتوسّع ساحة الحرب الأوكرانية، وفق المعطيات الراهنة، وخصوصاً إذا استثنينا العامل الاقتصادي الضاغط بشدة على صنّاع القرار في أوروبا، والذي لا يبشّر إلا بتفاقم الأزمة الداخلية، وعنوانها ارتفاع حادّ في اسعار المواد الغذائية والاستهلاكية.
تبدو مفاعيل الحرب الإلكترونية محدودة الأثر الفعّال حتى اللحظة في وجهة الصراع الدائر حالياً في أوكرانيا، ولكن قد تبرز في المرحلة المقبلة تطبيقات لم نشهدها بعد، وعلى نطاق أبعد من المساحة الجغرافية للنزاع الروسي الأوكراني، لتطال أطرافاً داعمة للمعسكر الأوكراني.