“الجهاد الإسلامي” و”الإخوان” بين الإمتداد والتجاوز
موقع قناة الميادين-
وليد القططي:
الاجتهادات التالية وغيرها قد تكون اقتربت من أحد أوجه الحقيقة، ولكنها لم تُصب قلبها، لعدم استنادها إلى دراسة التراث الفكري لمؤسّس “الجهاد” الشهيد فتحي الشقاقي.
تلتبس على كثير من الباحثين طبيعة العلاقة بين حركة الجهاد الإسلامي في فلسطين وحركة الإخوان المسلمين، ولا سيما في مرحلة تأسيس الجهاد الإسلامي، وهذا يُفسّر تعدد الاجتهادات في هذا المجال. ومن أهم هذه الاجتهادات أنَّ الجهاد الإسلامي: إخوانٌ متحمّسون لم يحتملوا إرجاء مقاومة المُحتل، أو حركة احتجاج تنظيمية قادها شباب انشقوا عن الإخوان، أو نتيجة لحوار فكري وسياسي حول الإسلام وفلسطين استقطب عدداً من شباب الإخوان وغيرهم، أو نتيجة لحراك تجديدي في الفكر والسياسة خرج من عباءة الإخوان، أو محاولةَ للإجابة عن أسئلة لم تجب عنها حركة الإخوان المسلمين محورها الإجابة عن السؤال الفلسطيني إسلامياً والسؤال الإسلامي فلسطينياً… هذه الاجتهادات وغيرها قد تكون اقتربت من أحد أوجه الحقيقة، ولكنها لم تُصب قلبها، لعدم استنادها إلى دراسة التراث الفكري لمؤسّس الجهاد الإسلامي، المفكر الشهيد فتحي الشقاقي.
التراث الفكري للشقاقي في مرحلة المخاض والنشأة للجهاد الإسلامي نهاية السبعينيات وبداية الثمانينيات من القرن العشرين يؤكد أنَّ العلاقة بين الجهاد والإخوان قد اتّخذت ثلاثة مسارات متوازية زمنياً (ليست متتالية)، ومتداخلة فكرياً (غير منفصلة)، وهي مسارات الامتداد والنقد والتجاوز؛ الامتداد الحركي والفكري، والنقد الفكري المرتبط بالوعي، والتجاوز الإبداعي الجامع بين الأصالة والتجديد.
وهذه المسارات خاصة بالعلاقة بين الجهاد والإخوان في مرحلة التأسيس، ولا تنسحب على العلاقة بين الجهاد وحركة المقاومة الإسلامية – حماس، التي ولدت من رحم الإخوان المسلمين كحركة إسلامية فلسطينية مقاومة تجاوزت في كثير من أفكارها ومفاهيمها الحركة الأم.
مسار الامتداد وضّحه المفكر الشهيد فتحي الشقاقي في دراسته “التاريخ لماذا؟”. فقد اعتبر حركة الجهاد امتداداً طبيعياً للحركة الإسلامية الحديثة في مواجهة التحدي الغربي الحديث، ويؤرخ لبداية الحركة الإسلامية منذ الحملة الفرنسية عام 1798 م، ويعتبرها حتى تأسيس حركة الإخوان المسلمين المرحلة الأولى، وأهم رموزها الإمام المُجدّد جمال الدين الأفغاني، مؤسّس تيار الجامعة الإسلامية المُنادي بالوحدة والتجديد.
أمّا المرحلة الثانية للحركة الإسلامية الحديثة فيؤرخ لها بنشأة الإخوان المسلمين عام 1928 م في مصر، وأهم رموزها الإمام الشهيد حسن البنّا، مؤسّس الحركة وتيار الإخوان المسلمين، وقسّمها إلى ثلاثة أجيال، أطلق على المرحلة التي تنحصر بين التأسيس واستشهاد البنّا (1928 – 1949م) اسم “جيل البعث”، فكتب عنها: “خلال عشرين عاماً استطاع الإمام أن يبعث هذه الأمة من تحت الرُكام، وأنْ يطوّر مفاهيم الحركة خلال هذه الفترة بتسارع ثوري متقدم، مُستلهماً القرآن والسُنّة وسيرة السلف الصالح”، واعتبر مشاركة الإخوان في حرب فلسطين “تتويجاً لوعي وفهم ذلك الجيل لطبيعة التحدّي الغربي الحديث الذي يتجسّد في فلسطين”.
هذه الرؤية الإيجابية للإخوان المسلمين تحت قيادة مؤسّسها البنّا أكدّها الشقاقي في كتابه “الخميني… الحل الإسلامي والبديل”، عندما اعتبر الإمام الشهيد حسن البنّا والإمام الثائر آية الله الخميني أهم رجُلين مؤثرين في الأمة الإسلامية خلال القرن العشرين. واعتبر في موضعٍ آخر أنَّ نشأة الإخوان المسلمين كانت رداً على إلغاء الخلافة العثمانية قبلها بأربعة أعوام، وربط بين بداية الحقبة الإسرائيلية عندما أعلنت الحركة الصهيونية قيام دولة “إسرائيل” عام 1948 م، وغياب الإمام البنّا عن المشهد عام 1949م، والامتداد بالمفهوم الفكري واضح من خلال تأثر الشقاقي بفكر ثاني أهم رجل في الإخوان المسلمين بعد البنّا، وهو المفكّر سيد قطب، بعيداً عن التأويلات التكفيرية لجماعة “القطبيين”، وكانت دراسته المُلخصة لكتاب “معالم في الطريق” خير دليل على ذلك، فقد ركّز فيها على الشرط الذاتي للنهضة، وبناء الذات الإسلامية الثورية – الفردية والجماعية – واعتبر في مقدمة دراسته سيد قطب واحداً من ثلاثة مفكرين يشكلون مثلثاً خيّراً في الفكر الإسلامي الحديث، إلى جانب كل من الجزائري مالك بن نبي والإيراني علي شريعتي.
مسار الامتداد الذي يربط بين الجهاد والإخوان أحد أوجه الحقيقة، ووجهها الثاني هو مسار النقد، وقد عبّر الشقاقي عن ذلك في دراسة “التاريخ لماذا؟”، عندما سمّى الجيل الثاني للإخوان المسلمين بعد استشهاد البنّا “جيل التردد والمحنة”، فاعتبر أنَّ الحركة لم تستطع استيعاب وتجاوز محنة غياب مؤسّسها كتحدٍ داخلي، ولم تستطع استيعاب وتجاوز محنة قمع نظام ثورة يوليو الناصري كتحدٍ خارجي، ولم تستطع صياغة نظرية ثورية متكاملة لمواجهة التحدي الغربي وامتداداته السياسية والفكرية، وعجزت عن تقديم البديل أمام الحركات الليبرالية والاشتراكية والوطنية والقومية، وانتقدها لغياب الوعي المنهجي السياسي والتاريخي، ولعدم وضوح الرؤية للواقع السياسي، وعدم تجاوز المفاهيم التقليدية للتربية والوحدة والجهاد وغيرها، ولفوضى المفاهيم والمناهج في التعامل مع الأنظمة الحاكمة… وكان آخر هذه الانتقادات وأهمها حرف بوصلة الجهاد عن فلسطين – ساحة المعركة الأساسية مع المشروع الغربي – بالتماهي مع التيار الوهابي والدعوة إلى الجهاد في أفغانستان في مقال بعنوان “اللهم انصرنا في أفغانستان وارزقنا الشهادة في فلسطين”.
فلسطين كانت هي العنوان الأكثر بروزاً لمسار النقد الذي تركز في أربعة عناوين فرعية هي: الغياب والهامشية والضبابية وانحراف البوصلة. فقد رأى مؤسّسو “الجهاد” أنَّ فلسطين غابت عن اهتمامات الحركة الإسلامية التقليدية ومحورها الإخوان المسلمين على امتداد أربعة عقود تقريباً، ما بين النكبة الأولى والانتفاضة الأولى، وأنَّ الحركة الإسلامية التقليدية قد اعتبرت فلسطين قضية هامشية فرعية، مثلها مثل قضايا المسلمين الأخرى في الفيلبين وكشمير وغيرهما، التي ستتولى الدولة الإسلامية مهمة تحريرها. والضبابية تجسّدت في عدم وضوح الرؤية في العلاقة الطردية بين مشروع تحرير فلسطين ومشروع تحرير الأمة ونهضتها، وأنه من دون حسم الصراع على فلسطين لصالح الأمة ستُجهض كل محاولات الأمة للنهضة والوحدة والاستقلال. وانحراف بوصلة الجهاد عن فلسطين إلى كل البلاد ما عدا فلسطين، كنتيجة لعدم إدراك خصوصية الجهاد في فلسطين إسلامياً وتاريخياً وواقعياً، وعدم تجاوز الرؤية التقليدية باعتبارها أرض وقف إسلامي يجب شرعاً تحريرها.
مسارا الامتداد والنقد للعلاقة بين “الجهاد” و”الإخوان” اكتملا بمسار التجاوز، ليكتمل وجه الحقيقة التي عبّر عنها الشقاقي بمفهوم “الحل الإسلامي”. ولقد كان لدراسة المفكر الإسلامي توفيق الطيب “ما بعد النكبتين” دورٌ في انطلاق مسار التجاوز؛ فقد رأى توفيق الطيب في هزيمة النكبتين (1948 م – 1967 م)، أبعد من مُجرد هزيمة عسكرية لأنظمة حاكمة وجيوشها، فقد رأى فيها هزيمة لفكر ما بين النكبتين المرتبط بالاستعمار تحت عناوين: الليبرالية والاشتراكية والثورية والوطنية والقومية… وأنَّ البديل من هذا الفكر المهزوم هو الإسلام كدين وحضارة كشرط لاستمرار وجود الأمة في وجه التحدي الغربي الحديث، فتبنّى الشقاقي الفكرة وأعاد نشر الدراسة تحت عنوان “الحل الإسلامي ما بعد النكبتين”، لتكون فكرة الحل الإسلامي في عنوان كتاب آخر للشقاقي نهاية السبعينيات، مهّد لانطلاقة الجهاد الإسلامي في مطلع الثمانينيات، وهو “الخميني.. الحل الإسلامي والبديل”، مُعتبراً الحل الإسلامي هو الأصيل للأمة، بينما الحلول الأخرى هي البديلة، مُستنداً إلى تجربة الثورة الإسلامية بقيادة الإمام الثائر آية الله الخميني في إمكان نجاح الحل الإسلامي.
الحل الإسلامي كتعبير عن مسار التجاوز سيقوده “جيل الوعي والثورة” كما سمّاه الشقاقي، فكتب مُعبّراً عن مسارات الامتداد والنقد والتجاوز: “… وهكذا سيتجاوز جيل الوعي والثورة مرحلة التردد والمحنة، وسيتقدم بعملية البعث إلى نهايتها المنطقية، مُستلهماً في المنطقة العربية بالذات تجربة الإمام الشهيد حسن البنّا، ويقدم أطروحة الوعي والثورة والشهادة”.
وأطروحة التجاوز التي تحدّث عنها الشقاقي لم تقتصر على استلهام تجربة الإخوان المسلمين الحركية والفكرية فقط، بل استلهمت تجارب سابقة ولاحقة أُخرى، كتجربة تيار الجامعة الإسلامية التنويري، وتجربة حركة الشهيد عزالدين القسام التي تجمع بين الإيمان والوعي والثورة، وتجربة الجماعة الإسلامية في باكستان بفكر مؤسّسها أبي الأعلى المودودي، وتجربة الثورة الإسلامية في إيران ودورها في أسلمة الصراع حول فلسطين… وفكرياً كان التجاوز واضحاً في هضم الشقاقي وإخوانه لكتابات معظم مفكري الحركة الإسلامية وغيرها، ومن ثم إبداع منظومة فكرية ونظرية ثورية محورها الإسلام وفلسطين والجهاد، كانت الأساس الذي أُقيمت عليه حركة الجهاد الإسلامي في فلسطين كتجاوز إبداعي لحالة السكون في الساحتين الإسلامية والفلسطينية.
لم يكن مسار التجاوز سهلاً مُيسّراً، فقد تطلب خوض معركة على جبهتين: مع الأنظمة الحاكمة المرتبطة بالاستعمار سياسياً، والبدائل العلمانية المرتبطة بالاستعمار فكرياً، ومع “الأجنحة المتخلّفة في الحركة الإسلامية نفسها، التي عجزت عن فهم نفسها، وفهم الآخرين، وفهم العصر، والعلاقات القائمة… التي تركّز على جانب من الإسلام وتُهمل الجانب الآخر” كما وصفها الشقاقي، مُعتبراً مسار التجاوز “تعبيراً عن رؤية حضارية داخل الحركة الإسلامية”، وكذلك “قوة تجديد داخل الفكر الإسلامي… وفهماً متميزاً حول العلاقة بين الإسلام وفلسطين”. واكتسبت هذه الأوصاف مصداقية في العديد من الرؤى الفكرية المتقدمة التي تناولت قضايا إشكالية في الفكر الإسلامي، كمواضيع: الديمقراطية والشورى، والوحدة والتعدد، والتربية والجهاد، والقومية والعروبة، والوطنية والمواطنة، والتراث والتجديد… ولكن يبقى التجاوز الإبداعي الأهم حل الإشكالية بين الحركة الإسلامية وفلسطين.
عندما انتقدت “الجهاد الإسلامي” غياب فلسطين عن اهتمامات الحركة الإسلامية التقليدية كمصطلح يُشير فيه الشقاقي إلى حركة الإخوان المسلمين بالتحديد، كان التجاوز هو حضور فلسطين في قلب اهتمامات الحركة الإسلامية، وحل إشكالية وجود وطنيين من دون إسلام، ووجود إسلاميين من دون فلسطين، وجمع بين الإسلام كمنطلق وفلسطين كهدف والجهاد كوسيلة. وعندما انتقدت حركة الجهاد الإسلامي اعتبار فلسطين قضية هامشية فرعية للحركة الإسلامية التقليدية، كان التجاوز في تبنّي شعار الجهاد المركزي: فلسطين هي القضية المركزية للحركة الإسلامية والأمة الإسلامية، بناءً على رؤية منهجية ترى في الكيان الصهيوني مركز المشروع الاستعماري الغربي ورأس حربته، وفي فلسطين مركز المشروع الإسلامي المعاصر ورأس حربته لتحرير فلسطين والأمة. وعندما انتقدت حركة الجهاد الإسلامي ضبابية رؤية الحركة الإسلامية التقليدية للعلاقة بين مشروعي تحرير فلسطين ونهضة الأمة، كان التجاوز في تأكيد الارتباط الطردي بين المشروعين، وفي تأكيد الارتباط العكسي بين الظاهرة الإسرائيلية والظاهرة الإسلامية صعوداً وهبوطاً كمشروعين متناقضين للغرب والأمة. وعندما انتقدت حركة الجهاد الإسلامي انحراف بوصلة الجهاد للحركة الإسلامية التقليدية عن فلسطين، كان التجاوز في تصويب بوصلة الجهاد نحو فلسطين كأولوية للحركة الإسلامية، وأنَّ إبقاء جذوة الجهاد مشتعلة في فلسطين حتى تحريرها هو طريق خلاص الشعب والأمة.
مسارات الامتداد والنقد والتجاوز كمحددات لطبيعة العلاقة بين حركة الجهاد الإسلامي في فلسطين وحركة الإخوان المسلمين في مرحلة مخاض ونشأة الجهاد الإسلامي، هي مسارات مُتحركة لا نهاية لها في الجماعات البشرية على اختلاف أحجامها وأشكالها، فليست لها مرحلة معينة يمكن اعتبارها منتهى التقدم وغاية التطور، بحسب نظرية “نهاية التاريخ والإنسان الأخير” للفيلسوف الأميركي فرانسيس فوكوياما، إلّا إذا أُصيبت أمةٌ بداءِ الجمود والتحجّر، وضُرب شعبٌ بمرض العجز والتقليد، ورُزئت جماعة بمصيبة الخور والوهن… فحينذاك تفقد الأمم والشعوب والجماعات رسالتها وحيويتها، وتموت روحها وهمّتها، وتندثر حضارتها وإنجازاتها. ولتجنّب هذا المصير المأساوي لا مناص من ديمومة مسارات الامتداد والنقد والتجاوز حتى يرث الله الأرض ومن عليها.