الجليد ضيَّع أوكرانيا.. هكذا تفادت روسيا «مستنقعات» الأرض والسياسة
صحيفة المنار الفلسطينية:
في فجر يوم 24 فبراير (شباط) 2022، ونحو الساعة 4:40 بتوقيت كييف، بدأت روسيا عمليتها العسكرية في أوكرانيا، وذلك بإطلاق وابل من صواريخ كروز والمدفعية وأسلحة أخرى، والتي أصابت مواقع بالقرب من مطار كييف الرئيسي، وعدة مدن وموانئ رئيسية في البلاد.
وبعد وقت قصير من بداية الهجوم، ظهر الرئيس الروسي فلاديمير بوتين على شاشة التلفزيون للإعلان عن «عملية عسكرية خاصة»، مبررًا إياها بأن توسع الناتو باتجاه الشرق يشكل تهديدًا لروسيا لا يقل خطورة عن هجوم ألمانيا النازية على الاتحاد السوفيتي إبان الحرب العالمية الثانية.
وقعت الحرب بعد أسابيع من المباحثات والتهديدات المتبادلة، بلا أي آفاق للتوصل إلى تسوية أو تهدئة مقبولة للأطراف المعنية، في ظل تمسُّك بوتين بمطالبه وأهدافه المعلنة، والتي تعني ضمنًا خضوع أوكرانيا للسيطرة الروسية، بعيدًا عن الغرب تمامًا.
إذ لم يُبدِ بوتين أي تهاون أو تنازل حول مطالبه، أو حتى في الضمانات التي طلبها، والتي رأى الغرب فيها تنازلًا لا يمكن قبوله، وذلك لأنها تعني إخضاع أوكرانيا رسميًّا للنفوذ الروسي، إذ أصدرت وزارة الخارجية الروسية، في التاسع من فبراير 2022،«قائمة شروط» من أجل تهدئة التوترات حول أوكرانيا، فطالبت بالآتي:
وقف عمليات تسليم الأسلحة الغربية إلى أوكرانيا.
سحب المستشارين والمدربين العسكريين الغربيين كافة من أوكرانيا.
إنهاء جميع التدريبات العسكرية المشتركة بين القوات المسلحة الأوكرانية ودول الناتو.
إخراج جميع شحنات الأسلحة الأجنبية، التي جرى تسليمها سابقًا إلى كييف، من الأراضي الأوكرانية.
وبدا وكأن بوتين لا يرغب في التهدئة، وأنه ماضٍ إلى الحرب لا محالة، ولكن وفقًا لجدول زمني وضعه سلفًا، وحدَّد من خلاله كل خطواته وفق تحقق الظروف الموضوعية، بينما استمر الغرب (أوروبا بالتحديد) في تصور أن بوتين يحاول التصعيد إلى حافة الهاوية، لحصد المزيد من المكاسب ليس أكثر.
وبدأ الهجوم بعد أقل من 72 ساعة من اعتراف بوتين باستقلال منطقتي دونيتسك ولوهانسك عن أوكرانيا، أي إنه لم ينتظر طويلًا لتفحُّص ردود أفعال الغرب، ولم يكتفِ بهذه الخطوة كما تصوَّر الغرب، وإنما جرت الأمور كما خُطِّط لها.
الهجوم قبل الربيع.. الروس يقاتلون بكفاءة في الطقس البارد
في 25 يناير (كانون الثاني) 2022، تحدث جيمس شير، الزميل المشارك في برنامج روسيا وأوراسيا في «Chatham House»، عن الأزمة الأوكرانية، أمام لجنة الدفاع بمجلس العموم البريطاني، وذكر أن شهر فبراير سيكون حرجًا وحاسمًا في مصير الأزمة، وذكر أن «الوقت والطقس هو كل شيء» فإذا تمكَّن الغرب من إبقاء الدبلوماسيين الروس يتحدثون لمدة خمسة أو ستة أسابيع مقبلة، فقد يهدأ التهديد الروسي بشَنِّ هجومٍ على أوكرانيا.
وأشار جيمس شير إلى أن أوكرانيا ستكون مُغطاة بالثلوج في فبراير، ولكن مع حلول الربيع، سيذوب الثلج، وستنكشف الأرض المُوحِلة والمستنقعات على طول الحدود بين روسيا وأوكرانيا، وهذا سيجعل من الصعب على القوات والدبابات والمعدات العسكرية الروسية الوصول إلى أوكرانيا، لذلك، فإن انتهاء فبراير دون وقوع عمليات عسكرية روسية، يعني تراجع التهديدات الروسية بنسبة كبيرة.
ولكن النقطة الفارقة الأخرى التي ذكرها شير في كلمته، هي أن هناك فترة زمنية في فبراير قد لا تشهد أي تحركات روسية، وهي الفترة من بين الرابع إلى العشرين من الشهر، التي تستضيف فيها الصين دورة الألعاب الأولمبية الشتوية، ويُعتقد أن بوتين لن يرغب في الإساءة إلى الرئيس الصيني بخطف الأضواء عن الألعاب، وخاصةً وأن بوتين كان ينوي حضور حفل الافتتاح.(حضر الرئيس الروسي بالفعل).
الجيش الروسي
لذلك ليس من المُستغرب أن نجد أن كل تحركات بوتين بدأت بعد انتهاء دورة الألعاب؛ إذ اعترف باستقلال منطقتي دونيتسك ولوهانسك يوم 21 فبراير (شباط)، وبدأ عمليته العسكرية يوم 24 من الشهر نفسه، وهو ما يشير بقوة إلى درجة التنسيق العالية بين روسيا والصين فيما يتعلق بالأزمة الأوكرانية، وصولًا إلى قرار الهجوم، وذلك بغض النظر عن وجهة النظر العلنية التي تتبناها بكين.
وصحيح أن تقدم التكنولوجيا العسكرية وتطوُّر الضربات والقدرات الجوية في عصرنا الحالي، قلَّلت من مكانة الجغرافيا والطقس في الحروب والعمليات العسكرية، ولكن يبدو أن الجغرافيا في أوكرانيا ما زالت تحتفظ بمكانة عسكرية مهمة.
إذ ذكر كيريل ميخائيلوف، المحلل في «فريق استخبارات الصراع»، وهي منظمة تحقيق روسية مستقلة تنتج أبحاثًا عن الجيش الروسي أنه «من غير الملائم للغاية تنفيذ عمليات هجومية في الربيع.. لأن ذوبان الجليد يحوِّل الوديان إلى جداول، والجداول إلى أنهار، فإذا نُفذت عملية [عسكرية]، فيجب تنفيذها إما في يناير أو فبراير».
وذلك في إشارة إلى «مستنقعات بينسك»، والتي تمتد إلى شمال أوكرانيا، بمساحة تقرب من 100 ألف ميل مربع من الأراضي الرطبة، فخلال فصل الشتاء تتجمد هذه المستنقعات مما يحوِّل الأراضي الموحلة إلى أراضٍ مُسطحة، فتتوفر تضاريس أكثر استقرارًا للمركبات العسكرية الثقيلة التي يمكن أن تصبح عالقة طويلًا في الوحل، وكذلك يؤكد سيث جي جونز، نائب رئيس «مركز الدراسات الإستراتيجية والدولية» (CSIS) أهمية منطقة «بينسك» لأي عملية عسكرية روسية تجاه أوكرانيا.
والمثير أيضًا أن الجيش الروسي مُدرَّب على أداء المهام العسكرية بكفاءة في مثل هذا الطقس القارس، والذي يؤثر عادة في الاتصالات وقدرة الطائرات على شن الغارات والطلعات الجوية، وهو ما أكَّده مايكل كوفمان، الخبير في الشئون العسكرية الروسية في مركز الأبحاث (CNA) مع الإشارة إلى أن الجيش الروسي يتدرب في جميع أنواع الطقس؛ إذ تمتد دورات تدريبه على مدار السنة، لذلك لدى قادته الميدانيين إلمام كبير بظروف الأرض المتغيرة.
وهناك من يعتقد أن بوتين كان ينوي الهجوم على أوكرانيا في يناير 2021، لكن تأخر فصل الشتاء وارتفاع درجة الحرارة، منعت تجمد المستنقعات في ذلك الشهر، وهو ما دفع بوتين إلى تأجيل خططه العسكرية، إذ يعتقد فريق الأرصاد الجوية بالبيت الأبيض أن التغييرات في ظروف الأرض أدت إلى توقف خطط روسيا للتقدم في يناير، وكان الرئيس الأمريكي، جو بايدن، أكَّد المعنى نفسه، خلال مؤتمر صحفي عقده في 19 يناير 2022، حين قال:
«سيضطر بوتين إلى الانتظار قليلًا حتى تتجمد الأرض حتى يتمكَّن من العبور».
كما يحمل تاريخ بدء العمليات العسكرية الروسية دلالة أخرى، من ناحية انطلاقها بعد قليل من الذكرى السنوية لما تُسمى بـ«الثورة الأوكرانية» أو «ثورة الميدان الأوروبي»، والتي وقعت في الفترة من 18 إلى 23 فبراير 2014، وانتهت إلى طرد الرئيس الأوكراني، فيكتور يانوكوفيتش، الموالي لموسكو، وهي الشرارة التي فجَّرت الوضع منذ ذلك التاريخ وإلى هذه اللحظة.
يسير نائمًا.. هكذا خذل الغرب أوكرانيا
كان هذا هو عنوان تحليل نشره المُنظِّر الأمريكي، ستيفن والت، في «Foreign Policy»، في 23 فبراير 2022، أي قبل الغزو بساعات، يتحدث عن الفجوة العميقة بين الإرادة الروسية في التعامل مع الملف الأوكراني، وبين الفعل الغربي المتواضع في الملف ذاته.
فقد أوضحت روسيا أنها مستعدة لاستخدام القوة لتحقيق هدفها الأساسي، وهو منع أوكرانيا من الانضمام إلى الناتو، ليس فقط الآن ولكن في أي وقت في المستقبل المنظور، وفي المقابل لم يُعبِّر الغرب، وفي القلب منه الولايات المتحدة الأمريكية، عن عزمه لاستخدام القوة العسكرية لثني روسيا عن رغباتها.
فقد أشار بايدن بوضوح إلى أن واشنطن لن ترسل قواتها للقتال من أجل أوكرانيا، ولا تقترح أي دولة أوروبية كذلك إرسال قوات إلى أوكرانيا، بل أرسلت واشنطن رسالة معاكسة عن طريق سحب أفراد الجيش الأمريكي ونقل دبلوماسييها من مناطق التوتر، أي أن ما تعده روسيا مصلحة حيوية (ومن ثم يستحق القتال من أجله) هو أقل أهمية بالنسبة للغرب (ومن ثم لا يستحق القتال من أجله).
ومع ذلك، وعلى الرغم من هذه الفجوة الهائلة بين الموقف الروسي والغربي، فإن الموقف التفاوضي للولايات المتحدة (ومن ثم موقف الناتو ككل) لم يتزحزح على الإطلاق بشأن القضية المركزية للنزاع؛ إذ لا يزال الناتو يصر على أن أوكرانيا لها الحق في الانضمام إلى الحلف عندما تفي بمعايير العضوية، على الرغم من أن لا أحد يتوقع انضمام أوكرانيا في أي وقت قريب، إلا أن الناتو لم يتزحزح عن هذا المبدأ الذي جرَّ عدوانًا روسيًّا على أوكرانيا.
وعلى الرغم من أن الولايات المتحدة لا ترغب في تقديم تنازلات لموسكو تحت تهديد السلاح فإنها في الوقت نفسه غير مستعدة لحمل السلاح في مواجهة موسكو «من أجل أوكرانيا»، وبموازاة ذلك لم يكن هناك سبب وجيه للاعتقاد بأن بوتين سيرضى بالتنازلات الطفيفة التي قدَّمها الناتو بشأن إعادة توزيع رادارات الدفاع الصاروخي بعيدًا عن حدوده أو التوقف عن عمليات نشر الأسلحة الأخرى.
وحتى سلاح العقوبات الاقتصادية الذي يلوح به الغرب منذ نوفمبر (تشرين الثاني) 2021، وجرى تبنيه بالفعل في أعقاب الاعتراف الروسي بدونيتسك ولوهانسك، بدا أن بوتين مستعد له؛ إذ قال في مؤتمر صحفي له مع الرئيس البيلاروسي، ألكسندر لوكاشينكو، في 18 فبراير 2022:
«سيجري فرض العقوبات في أي حال من الأحوال، سواء كانت هناك اليوم ذريعة ما متعلقة بالتطورات في أوكرانيا أم لا، سيتم العثور على ذريعة، لأن الهدف يتمثل في شيء آخر، إنه يكمن في إبطاء تطور روسيا وبيلاروسيا».
وتحدث بوتين عن إجراءات مالية سوف تتخذها حكومته، بالتعاون مع بيلاروسيا، لتخفيف آثار تلك العقوبات، ولا يمكن إهمال الدعم الاقتصادي الذي سيناله من الصين، بعيدًا عن أنظار الاقتصاد العالمي، وبجانب ذلك، يشير الخبير الاقتصادي الروسي سيرجي جورييف، إلى أن بوتين قد تعلَّم الدرس من تجربة جورباتشوف، وأسَّس اقتصادًا قادرًا على مواجهة الغرب؛ إذ تبنَّى سياسات اقتصادية كلية أكثر تحفظًا، وحاول السيطرة على التضخم، وتكديس احتياطات كبيرة، ووضع موازنة متوازنة لا تحمل الكثير من الديون الخارجية.
مما سبق نستنج أن بوتين لم يحشد قواته على الحدود الأوكرانية منذ نوفمبر (تشرين الثاني) 2021، رغم أنه لم يكن ليقوم بأي تحرك عسكري قبل فبراير 2022، إلا ليختبر عزم الغرب والولايات المتحدة هذه المرة على مواجهته.
ومن خلال حلقات طويلة من المفاوضات والنقاشات، المصحوبة بتصعيد روسي مستمر، تأكد أن الغرب ما زال يُقلِّل من شأن القوة الروسية، أو أنه غير مستعد بأي حال من الأحوال على حمل السلاح من أجل أوكرانيا، وهو الأمر الذي تكرَّر في أكثر من مناسبة تاريخية مشابهة: في جورجيا عام 2008، وفي القرم عام 2014، وفي سوريا عام 2015.
وربما تحمل الحالة السورية دلالات خاصة، ففي صيف 2015، إبان التدخل الروسي في دمشق، قال الرئيس الامريكي الأسبق باراك أوباما إن سوريا ستصبح «مستنقعًا» لروسيا، وأنها قد تكون «فيتنام الروسية» أو «أفغانستان بوتين».
لم ينتهِ الأمر بسوريا إلى أن تصبح مستنقعًا لبوتين، ولكن نجحت موسكو في تغيير مسار الحرب، وأنقذت الرئيس السوري بشار الأسد من الهزيمة الوشيكة، ثم ترجمت قوتها العسكرية إلى نفوذ دبلوماسي، وصارت أحد المتحكمين في المستقبل السياسي للبلاد، بل تمكَّنت أيضًا من حصد نفوذ إقليمي واسع، امتد إلى إسرائيل وليبيا.
مرة أخرى توقع الغرب خلال الأسابيع الأخيرة، أن أي تدخل عسكري روسي في أوكرانيا سيكون له عواقب وخيمة، إذ ذكر وزير الدولة البريطاني لشئون أوروبا، جيمس كليفرلي، أن أوكرانيا ستكون «مستنقعًا لروسيا» وأشارت التحليلات إلى أن الحرب ستُعرِّض الاقتصاد الروسي إلى الخطر، وستقوِّض دعم النخبة الروسية لبوتين، وربما تجعل قوات الناتو أقرب من أي وقتٍ مضى إلى من حدود روسيا، لكن كل هذه التوقعات التي يعرفها بوتين جيدًا لم تُثنِه عن المضي قُدمًا نحو الحرب، ولكن يبدو أنها أثنت الغرب عن اتخاذ خطوات جادة للحيلولة دون اندلاعها.