الجدار العازل بين العقدة الأمنية والعقيدة اليهودية
موقع الخنادق-
نسيب شمس:
أطلق الكيان المؤقت في أيار 2021 مصطلح “مثُومير هحُومُوت” أي “حامي الاسوار” على عمليته العسكرية ضد غزة، ويعود ذلك إلى الشخصية اليهودية – الإسرائيلية التي لا تستطيع أن تعيش خارج الأسوار؛ الأسوار التي أصبحت جزءاً لا يتجزأ من ثقافة هذه الشخصية الانعزالية وتاريخها المُتكبر الاستعلائي. والتي تبلورت بشكل عصري متجدد في خضوع المجتمع الإسرائيلي لهيمنة عقلية الجدار.
لقد أدت عقلية الجدار في الكيان المؤقت إلى حالة الهوس الأمني، وإثر هذا الهوس الأمني الجداري، تحول مجتمع الكيان المؤقت من جديد على أرض فلسطين إلى ما يُشبه غيتواً كبيراً بجدرانه الحجرية وبواباته الضخمة، بل بعبارة أخرى أدت الى تحول الكيان المؤقت إلى سجن كبير، بما يمثل هيمنة مطلقة لعقلية الجدار وحياة الغيتو على الشخصية اليهودية.
لقد اعترف العقيد يهودا فاخ قائد اللواء الإسرائيلي 769 في مقالة نشرها في المجلة الإسرائيلية “بِين هَقْكافِيم” العسكرية في سنة 2020 فيقول: ” إن تشييد الجدران والتحصين المتواصل هو في الواقع نوع من الحصار الذاتي الذي له من دون شك آثار بعيدة المدى تتجاوز التأثيرات العسكرية والأمنية، إذ يُعدّ التحصين منذ القدم نقطة ضعف كثير ما يتم اللجوء إليها بدافع الخوف”.
بناءً لما تقدم يمكن طرح السؤال الآتي: هل عقلية الجدار عقدة أمنية مرتبطة بتوجهات سياسية وأحداث تاريخية وممارسات عنصرية، أم أنها عقيدة دينية متجذرة داخل الوعي اليهودي؟
سنحاول الخوص في الجذور الدينية لعقلية الجدار.
بداية لإدراك الأبعاد الحقيقية لعقلية الجدار يجب الرجوع الى التشريعات اليهودية التي وضعت أسس العزلة ورسختها في وعي اليهود عبر التاريخ.
تأسست الانعزالية اليهودية على فكرة اختيار الرب لبني إسرائيل، فهم يُعدّون “أنفسهم عنصراً مميزاً وشعباً مختاراً”.كما أن أكثر مصدر غذَى في اليهود أنهم شعب مختار هو “التلمود” الذي نفث في اليهود الاحتقار التام للشعوب التي تؤمن بديانات أخرى”.
ومن الجدير بالذكر أن كثيراً من التشريعات اليهودية لم يعد مستمداً من التوراة مباشرة، وإنما من أحكام التلمود الذي يتضمن تفاسير وعادات وطقوساً يهودية وشرائع وقوانين لا حصر لها تشكل كل نواحي الحياة اليومية، إذ إنه بمثابة سياج من القوانين وضعها الحاخامات حول التوراة، ومن ثم اعتُبرت الشريعة الشفوية المدونة في التلمود على قدم المساواة في الأهمية مع الشريعة المدونة في التوراة.
ومن الطبيعي أن تؤثر تشريعات العزلة اليهودية وقوانينها سلباً في اليهود، وتجعل طبّاعهم مقيتة، مثل: الحقد والكراهية، والانطوائية والتشاؤم والكآبة والشك، والعدوانية واللامبالاة، وغيرها من الصفات السلبية التي أثّرت في تعاملات اليهود من الآخرين، واحتفظت بها طقوس احتفالات اليهود الدينية. مثل: “طقوس عيد الفصح التي تحولت إلى مجالس للدعاء على الأمم الأخرى، ويوم التاسع من آب/ أغسطس اليهودي الذي هو فرصة أيضاً لإيقاد نار الكراهية للبشر جميعاً وصبّ اللعنات عليهم”. حتى باتت هذه الأمراض وغيرها من أعراض العزلة والتقوقع سوراً حصيناً يحيط باليهود، الاستعلائية تعزلهم في داخلها حتى قبل أن تظهر حصون خيبر وأسوار الغيتو والجدران العازلة، وأصبح الجدار في ظل عقيدة العزلة مفهوماً معنوياً راسخاً في أعماق الوعي اليهودي، وأيديولوجيا حياتية لا يمكن التخلص منها، لأنها نابعة من إيمانهم العميق بفكرة الاختيار (شعب الله المختار). وأضحت تشكيلات الجدار اليهودي على مر التاريخ تجسيداً واقعياً لطابع اليهود الانعزالي، وتطبيقاً مادياً لتشريعاتهم التي سنّها الحاخامات.
نعم عقدة الجدار العازل نتاج عقيدة منغلقة على الذات سنّها الحاخامات، تنظر باستعلاء إلى الأخرين، بكل حقد وكراهية تحولت الى نفس شريرة تنحو نحو العدوانية الشرسة التي أدت الى قيام كيان عدواني منبوذ معزول…لكن في نهاية الأمر والأهم أنه كيان مؤقت وإلى زوال قريب…