الثامن من آذار.. نقطة البداية في طريق الثورة المستمرة
صحيفة البعث السورية-
د. معن منيف سليمان:
يعدّ يوم الثامن من آذار عام 1963 مفصلاً تاريخياً في المسيرة النضالية لحزب البعث العربي الاشتراكي، بل وتاريخ القطر العربي السوري الحديث، يوم ثار فيه الشعب العربي في سورية وانتصر على قوى الرجعية والانفصال، وانطلق في خطا ثابتة باتجاه بناء مجتمع جديد تتحقق فيه تطلعات الجماهير في التحرّر وتحقيق الأهداف القومية.
فقبل قرابة عام ونصف من ذلك التاريخ، في يوم 28 أيلول عام 1961، كانت حلّت نكسة الانفصال، وفكّت عرى الوحدة بين القطرين الشقيقين سورية ومصر، فسارع البعثيون لعقد اجتماعات متفرقة بهدف إعادة تنظيم الحزب في سورية الذي كان قد حلّ نفسه من أجل الوحدة، وبناءً على ذلك عقد الحزب مؤتمره القومي الخامس في حمص، في أيار عام 1962، واتخذ عدّة مقرّرات مهمة كان أبرزها إعلان موقفه من الانفصال الذي عدّه أكبر مؤامرة قام بها المستعمر ضد أمتنا العربية بهدف تجزئة بلدانها.
وهكذا أعاد مناضلو الحزب تنظيمهم، وناضلوا من أجل الوحدة، وركزوا على توضيح فكرهم ورؤيتهم لتجاوز واقع الانفصال، منطلقين من مبدأ أن الجماهير هي صاحبة المصلحة الحقيقية في الوحدة، وأن هذه الجماهير تحتاج إلى ثورة من أجل تحقيق الأهداف المرجوة، وأن دور الحزب يجب أن يكون طليعياً في قيادة الثورة. واستطاع مناضلو الحزب، بمساعدة الجماهير الرافضة لمؤامرة الانفصال، أن ينتصروا على القوى الاستعمارية الرجعية، وأن يفجروا ثورة عارمة في صبيحة يوم الثامن من آذار 1963، دكّت معاقل الرجعية الانفصالية التي تحكمت قرابة عام ونصف بمقدرات سورية.
لقد تحوّل ميزان القوى في القطر العربي السوري الذي كان يسيطر عليه الاستعمار وعملاؤه الرجعيون، لمصلحة الشعب، ولا شك أن هذا التغيير الجذريّ الذي حدث كان لحزبنا فيه الدور الأساسي، حيث تمكن بقوة المبادئ والأهداف التي طرحها، والنضال الباسل الذي خاضه في سبيلها، أن يرسخ جذوره ويوسّع قاعدته في قلب الحركة الشعبية، وأن يتحول إلى قوة سياسية فاعلة ومؤثرة على الساحة العربية، وأن يكون له حضور فعلي وملموس في تطور الأحداث، وكانت ثورة آذار بقيادته هي الحدث الأبرز الذي حققه في تلك المرحلة، وتمكن من الوصول إلى قيادة الدولة والمجتمع في سورية، فأصبح مطالباً بتطبيق المبادئ والشعارات والأهداف التي كان يرفعها وينادي بها ويسعى إلى تحقيقها، ويحولها إلى برامج وخطط عمل.
وبناءً على ذلك شرعت ثورة آذار بإجراء تحولات عميقة وواسعة شملت جميع الميادين، وكان ذلك أهم منجزات الثورة. فقد صدرت في المجال الزراعي عدة تشريعات حول الإصلاح الزراعي والعلاقات الزراعية تناولت موضوع الملكية الزراعية، وحماية حقوق الفلاحين، وقد أدّت هذه الإجراءات إلى إحداث تغييرات عميقة في الريف، وضرب مواقع الإقطاع، وتحقيق مكاسب كبيرة للفلاحين.
وأمّمت الثورة عشرات المؤسّسات الصناعية التي أدّت إلى تكوين قطاع عام كبير في المجال الصناعي، وتحقيق مكاسب جمّة للطبقة العاملة. واتخذت إجراءات في مجال التجارة الخارجية بجعل استيراد عدد من السلع الصناعية الاستهلاكية بيد الدولة، بالإضافة إلى سيطرة الدولة على تصدير عدد من السلع الإستراتيجية، وخاصة القطن والحبوب.
وجرى تأميم الشركات الأجنبية العاملة في مجال المنتجات النفطية، وفي استثمار النفط وطنياً، وتأميم شركات توزيع المحروقات في القطر، هذا بالإضافة إلى تأميم الكهرباء وإنشاء المؤسسة العامة للكهرباء التي ضمّت جميع شركات توليد الطاقة الكهربائية في القطر.
ووضعت الخطط الخمسية، وتركز اهتمامها على المشروعات الحيوية كاستثمار النفط وطنياً، ومدّ سكك الحديد، وإنشاء معمل السماد الآزوتي، وبناء سد الفرات، ومعمل السكر، ومطار دمشق الدولي، وغيرها من المشاريع التي تمّ استكمالها بعد قيام الحركة التصحيحية عام 1970. وإحداث مؤسّسات ووزارات جديدة، مثل المجلس الأعلى للتخطيط، وهيئة تخطيط الدولة، وتنظيم المنشآت الصناعية للقطاع العام، وإحداث اتحادات نوعية، وإحداث وزارة النفط والكهرباء.
وتمّ على الصعيد المصرفي والنقدي دمج المصارف المؤمّمة في خمس مجموعات مصرفية، وإعادة تنظيمها على أساس التخصّص المصرفي، وإحداث المصرف العقاري ومصرف التسليف الشعبي والمؤسسة العامة لصندوق توفير البريد.
كما اتخذت إجراءات مهمّة في مجال إعداد الكوادر اللازمة داخلياً وخارجياً، وفي مجال تطوير التعليم والثقافة، ونشر الفكر القومي.
لقد انطلقت الثورة بقيادة الحزب من أساس مبدئي وثابت هو الإيمان بوحدة الأمة العربية، وحقها في التحرّر والتقدم وبناء المجتمع العربي الاشتراكي الموحد، وعدّت الجماهير العربية هي صاحبة المصلحة الحقيقية في تحقيق هذه الأهداف، وأن لها الحق في النضال في جميع الميادين في سبيل ذلك. كما وقفت الثورة إلى جانب نضال الشعب العربي في فلسطين، ودعمته، وعدّت منظمة التحرير الفلسطينية هي التجسيد السياسي للشخصية الفلسطينية، والممثل الشرعي والوحيد للشعب العربي الفلسطيني، وقد أخذ هذا الدعم أبعاده الحقيقية بعد الحركة التصحيحية التي فجّرها وقادها القائد المؤسّس حافظ الأسد الذي اعتبر أن فلسطين لسورية مثلما سورية لسورية.
وحرصت الثورة على انتهاج سياسة خارجية مستقلة في ضوء المصالح الوطنية والقومية، تتمحور حول دعم القضايا الدولية العادلة، والنضال ضد الاستعمار والامبريالية والصهيونية والعنصرية، والوقوف إلى جانب الشعوب في نضالها التحرري ودعم جهود السلام والأمن الدوليين.
وهكذا نقلت ثورة الثامن من آذار سورية إلى مرحلة جديدة، تمّ التأسيس منها لبناء مجتمع العدل والكفاية، ولبناء وحدة وطنية راسخة ذات مضمون ديمقراطي. وما زالت الثورة تتابع مسيرتها المظفرة من خلال نهج التطوير والتحديث بقيادة السيد الرئيس بشار الأسد، تلك القيادة الشجاعة والمبدئية التي يلتفّ حولها الشعب التفافاً وطنياً، ما دفع قوى الاستعمار والرجعية إلى الإمعان في تآمرهم وتخريبهم، ولهذا فإن يوم الثامن من آذار ما هو إلا نقطة البداية في الطريق الطويلة للثورة المستمرة، ولن تنتهي ما دامت إرادة الحياة الحرة مستمرة في آمال شعبنا وأمتنا.