التركة الأميركية الثقيلة في أفغانستان: دولة متهالكة
موقع العهد الإخباري-
د. علي دربج:
فجأة اختفت أفغانستان من صفحات وشاشات وسائل الاعلام العالمية، إذ لم يعد هناك ما يثير اهتمام هذه الأخيرة، بعدما انسحبت الولايات المتحدة من هناك. ليس مهمًّا ما حلّ بهذا البلد، أو كيف يتعرض شعبه للموت البطيء، ما دام الجندي الاميركي “الاستثنائي” قد عاد إلى وطنه بسلام ويعيش وسط أهله بأمان، والباقي تفاصيل.
ثقيلة كانت التركة الأميركية في هذا البلد، التي لم تورث أهله سوى الفقر والمأساة التي كبُرت أكثر، مع تولي حركة “طالبان” السلطة التي لطالما سعت اليها. وجد مواطنو أفغانستان أنفسهم أمام هيكل دولة تلفظ أنفاسها، وهم يصارعون القدر من أجل البقاء. لكن هل كان من المنتظر أن تُسلم أفغانستان كجنة غنّاء مثلًا؟ ومنذ متى تأتي الحروب بالخير للدول والشعوب؟
ما توجس منه الأفغان حصل. بعد ثلاثة أشهر من حكم “طالبان” انهار الاقتصاد الأفغاني تقريبًا، ما أغرق البلاد في واحدة من أسوأ الأزمات الإنسانية في العالم، فاختفت ملايين الدولارات من المساعدات التي كانت تدعم الحكومة السابقة، وجُمّدت أصول المليارات من الدولارات، وعزلت العقوبات الاقتصادية الحكومة الجديدة عن النظام المصرفي العالمي.
وما هي النتيجة؟ تواجه أفغانستان الآن نقصًا حادًا في السيولة أدى إلى شل البنوك والشركات، وقد نجم عن ذلك ارتفاع أسعار المواد الغذائية والوقود، وهذا بدوره تسبب بأزمة جوع مدمرة، دفعت بمنظمة الصحة العالمية الى التحذير أواخر الشهر الماضي، من احتمال معاناة حوالي 3.2 مليون طفل من سوء التغذية الحاد في أفغانستان بحلول نهاية العام، وأن مليونًا منهم معرضون لخطر الموت مع انخفاض درجات الحرارة.
في الواقع لم يُترك أي ركن من أركان أفغانستان كما هو. لنبدأ بالعاصمة، هناك تبيع العائلات اليائسة الأثاث على جوانب الطرق، أما في المدن الكبرى الأخرى فلا تملك المستشفيات العامة المال لشراء الإمدادات الطبية التي تتفاقم الحاجة إليها، أو لدفع رواتب الأطباء والممرضات، الذين ترك بعضهم مناصبهم، فيما العيادات الريفية تعج بالأطفال الضعفاء، الذين لا يستطيع آباؤهم تحمل نفقات الطعام. كل ذلك، ولّد هجرة كبيرة، تدفق معها المهاجرون الأفغان لأسباب اقتصادية إلى الحدود الإيرانية والباكستانية.
يقول الاقتصاديون إن حجم وسرعة الانهيار يمثلان واحدة من أكبر الصدمات الاقتصادية التي مرت بها أي دولة في التاريخ الحديث. في الشهر الماضي، حذر صندوق النقد الدولي من أن الاقتصاد في أفغانستان سينكمش بنسبة تصل إلى 30 بالمائة هذا العام.
لقد أمضى آلاف الموظفين الحكوميين، بمن فيهم الأطباء والمعلمون، أشهرًا دون أن يتقاضوا أجورهم، حيث توقف الاقتصاد في زمن الحرب، وترك الملايين أعمالهم.
كشف تحليل أجراه برنامج التنمية التابع للأمم المتحدة أنه بحلول منتصف العام المقبل يمكن أن يصل حوالي 97 بالمائة من السكان الأفغان الى مستوى تحت خط الفقر.
ما هي الصورة على أرض الواقع؟
لسنوات، كان العمال المياومون يجتمعون في مزار شريف للحصول على فرصة عمل كحفر الآبار أو ريّ حقول القطن والحبوب، أو القيام بأعمال البناء في جميع أنحاء المدينة. حينها كان الأجر متواضعًا – بضعة دولارات في اليوم – لكنه كان كافيًا لتأمين الغذاء ودفع فواتير صغيرة أخرى. لكنهم في هذه الأيام ينتظرون حتى غروب الشمس على أمل الحصول على يوم عمل واحد في الأسبوع، ولا يستطيع معظمهم حتى شراء الخبز لتناول الغداء. والكلام دائمًا لمنظمات الإغاثة الدولية. حول هذه الأزمة، نقل صحافي باكستاني عن أحد المواطنين الأفغان قوله: “ذات يوم كان لدينا عمل ثم فجأة فقدناه، كان الأمر مفاجئًا للغاية، ولم يكن لدي الوقت للتخطيط أو توفير المال أو أي شيء”.
ماذا عن منافذ الحدود التي تشكل رئة أفغانستان؟
لطالما اعتمدت أفغانستان على واردات المواد الغذائية الأساسية والوقود والسلع المصنعة، والتي كانت تُعد شريان الحياة الذي انقطع بعد أن أغلقت الدول المجاورة حدودها خلال حملة “طالبان” العسكرية الصيف الفائت، فسببت الاضطرابات التجارية منذ ذلك الحين نقص السلع الأساسية كالأدوية، بينما أدى انهيار الخدمات المالية إلى خنق التجار الذين يعتمدون على الدولار الأمريكي والقروض المصرفية للواردات.
انطلاقًا من آب الماضي، خفضت الشركات وارداتها إلى النصف، إذ لم يعد بإمكان الناس تحمل تكلفة السلع الأساسية. في الوقت ذاته، ارتفعت تكلفة ممارسة الأعمال التجارية، إذ يطالب ضباط الجمارك والمرور الذين لم يتقاضوا رواتبهم منذ أشهر بالمزيد من الرشاوى.
لكن أين المجتمع الدولي من كل هذا؟
بداية، من المفيد تعريف القارئ أنه حتى قبل استيلاء “طالبان” على السلطة، كان الاقتصاد الأفغاني الهش يعاني من تباطؤ النمو والفساد والفقر المدقع والجفاف الشديد. ففي ظل الحكومة السابقة، شكلت المساعدات الخارجية حوالي 45 بالمائة من الناتج المحلي الإجمالي للدولة، كما موّلت (أي المساعدات) 75 بالمائة من ميزانية الحكومة، بما في ذلك الخدمات الصحية والتعليمية.
لكن بعد أن استولت “طالبان” على السلطة، جمدت إدارة بايدن احتياطيات البلاد من العملات الأجنبية البالغة 9.5 مليار دولار وتوقفت عن إرسال شحنات الدولارات الأمريكية التي يعتمد عليها البنك المركزي الأفغاني.
والآن إليكم الإجابة:
مع اقتراب أفغانستان من حافة الهاوية، ما زال المجتمع الدولي يتلكأ عن اتخاذ خطوات انقاذية فعالة، ويُرجع السبب الى معضلة “طالبان” التي تجعل – وفق رأيه – أي اجراء للمجتمع الدولي محفوفًا بالمخاطر سياسيًا وقانونيًا.
في الأسابيع الأخيرة، تعهدت الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي بتقديم 1.29 مليار دولار إضافية، لمساعدة أفغانستان واللاجئين الأفغان في الدول المجاورة. لكن خبراء اقتصاديين ومنظمات الإغاثة، يحذرون من أنه لا يمكن للمساعدات أن تفعل الكثير لدرء كارثة إنسانية إذا استمر الاقتصاد في الانهيار.
وفي هذا الاطار قال عبد الله الدردري الممثل المقيم لبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي في أفغانستان لصحيفة “نيويورك تايمز”: “لا يمكن إدارة أي أزمة إنسانية من خلال الدعم الإنساني فقط”. ورأى انه “اذا فقدنا هذه الانظمة (اي انظمة الدولة) في الاشهر القليلة المقبلة فلن يكون من السهل اعادة بنائها لتلبية الحاجات الأساسية للبلاد. إننا نشهد تدهورًا سريعًا إلى حد اللاعودة”.
هنا يطرح السؤال المركزي: أين “طالبان” من هذه الأزمة؟
“طالبان”، لتجنب الانهيار الكامل للعملة حددت “الحركة” السحوبات المصرفية بـ 200 دولار أولاً ثم 400 دولار في الأسبوع. وناشدت الصين وباكستان وقطر وتركيا لملء فجوة ميزانيتها، والتي تبلغ مليارات الدولارات. لكنها لقيت آذانًا صاغية، إذ انه حتى الآن، إذ لم يقدم أي منها الدعم المالي الذي قدمه المانحون الغربيون للحكومة السابقة.
المفارقة أن “طالبان” لجأت الى الولايات المتحدة واستغاثت بها، ومارست نوعًا من الضغط على واشنطن، حيث وضعتها أمام خيار، إما فك الحصار المالي المضروب على البلاد، أو المخاطرة بحدوث مجاعة، وبالتالي انفجار أزمة مهاجرين كبيرة حيث سيتوجه الأفغان نحو أوروبا بحثًا عن عمل. وفي هذا السياق، قال أحمد والي حكمال المتحدث باسم وزارة المالية في حكومة طالبان، في مقابلة صحافية: “شعبنا يعاني فالأزمة الإنسانية التي نعيشها الآن هي نتيجة لتلك الأصول المجمدة”.
وكيف تتعاطى أميركا مع الأزمة؟ فلنقرأ سويًا:
كالعادة، تعمل واشنطن على ذرّ الرماد في العيون؛ فإدارة بايدن أصدرت في أواخر أيلول الماضي، إعفاء من العقوبات للمنظمات الإنسانية لتسهيل تدفق المساعدات، وهي تدرس تعديلات إضافية، وفقًا لمسؤولين إنسانيين مشاركين في تلك المفاوضات. لكن هذه الإعفاءات لا تنطبق على رواتب الموظفين مثل المعلمين في المدارس التي تديرها الحكومة، والأطباء في المستشفيات الحكومية، علاوة على ذلك، فإن قرار عدم إدراجهم يهدد بانهيار الخدمات العامة، والمزيد من هجرة المهنيين المتعلمين من البلاد، كما يقول العاملون في المجال الإنساني.
تكمن المشكلة في ان نطاق الإعفاءات محدود بطرق أخرى. قطعت العديد من البنوك الأجنبية التي تعتمد عليها منظمات الإغاثة في تحويل الأموال إلى أفغانستان، العلاقات مع البنوك الأفغانية خوفًا من التعارض مع العقوبات. زد على ذلك ان أزمة السيولة تقيّد، بحزم، المبالغ التي يمكن للمنظمات سحبها لدفع رواتب البائعين أو عمال الإغاثة.
وتعليقًا على هذا الأمر، قال جون سيفتون، مدير المناصرة في آسيا في منظمة “هيومن رايتس ووتش” إن “القيود الاقتصادية وسياسة العقوبات الحالية إذا تم الحفاظ عليها ولم يتم تعديلها، ستلحق الضرر بالشعب الأفغاني – من خلال الحرمان والمجاعة – أكثر من وحشية طالبان وسوء الإدارة”.
ليس هذا فحسب، فثمة مؤشرات انسانية مقلقة بدأت ملامحها بالبروز في أفغانستان، إذ تظهر المستشفيات في جميع أنحاء البلاد علامات على أزمة جوع يمكن أن تطغى على نظام الرعاية الصحيّة الهش.
تروي موظفة في إحدى المنظمات الانسانية العاملة في افغانستان المعاناة الشديدة بالقول: “في جناح سوء التغذية بمستشفى في جنوب أفغانستان، جلست مواطنة افغانية مع حفيدها البالغ من العمر عامًا واحدًا، وكان فمه مفتوحًا ولكن جسمه أضعف من أن يتمكن من البكاء”. لأسابيع، عاد والد الطفل إلى المنزل خالي الوفاض من متجره نظرًا لندرة العمل، فلجأت العائلة إلى تناول الخبز والشاي في كل وجبة. وقالت الجدة: “كنت أطلب من هذا المستشفى أن يتيح لي العمل وإلا، بعد أسبوع، أو شهر، سينتهي به الأمر بالمرض والعودة إلى هنا”.
وبناء على ذلك كله، من الملاحظ أن هناك قاسمًا مشتركًا بين أفغانستان ولبنان، وهو الانهيار المتسارع، فضلًا عن ذلك فإن كلا السلطتين في كابول وبيروت، لا تجيد سوى التسول ورهن البلاد للاجنبي، والانكى أن مسؤولي البلدين يجدون المال للتسكع في الخارج، طلبًا لاسترضاء دولة هنا ومشيخة هناك، فيما شعباهما متروكان لمصيرهما، يتوسلان أحيانًا لتحصيل ثمن حبة دواء بات من الصعوبة في مكان تأمينه.