التحولات الدولية المتسارعة واللهاث المصري
موقع إنباء الإخباري ـ
ناصر الحسيني:
تتسارع الأحداث الإقليمية والدولية ومصر لا تزال تحاول التقاط أنفاسها جراء التحولات الكبيرة التي تشهدها المنطقة منذ أكثر من خمس سنوات. ومنذ ثورة 25 يناير 2011 التي رَمَت إلى تأمين المطالب الإجتماعية والحقوق السياسية للشعب المصري وحراك النظام ينفعل إيجاباً للتطورات الداخلية والخارجية دون خطّة مسبقة أو رؤية لاستثمار هذه التحولات لصالح توطيد سلطته.
لقد استجاب الجيش المصري لمطالب الشعب عام 2011 ونحّى القيادة السياسية جانباً واعتلى السلطة مباشرة، وبعد وصول عبد الفتاح السيسي إلى رأس هرمية النظام قادماً من المؤسسة العسكرية برتبة مشير (1)، حاول أن يسقط على دوره أسلوب الزعيم الكبير جمال عبد الناصر فداعب أحلام الناس بالعدالة الإجتماعية وتحسين الوضع المعيشي وروّج بأنّ مصر ستستعيض عن علاقتها بالولايات المتحدة بالتوجه إلى روسيا، مع خلق مناخ يشي بأنّ أمريكا عدوة لمصر وتعترض طريق الثورة الشعبية…
اليوم وبعد استكمال خريطة الطريق التي أقرها النظام الجديد واستكمل آخر إجراءاتها بانتخاب مجلس الشعب، وبعد اطمئنان القاهرة باعتراف الإتحاد الأوروبي واعتراف الولايات المتحدة المتأخر، بشرعية النظام وسلطاته، وإفراج الأخيرة عن بعض المساعدات العسكرية والمالية عقب تشكيك دائم انتهجته واشنطن على خلفية الإطاحة بنظام الإخوان المسلمين والرئيس المنتخب محمد مرسي، تقف القاهرة أمام مستجدات متتابعة في إقليمها أهمها الأزمات السورية والعراقية واليمنية وخطر تقسيم وتفتيت الدول بشكل رئيس، وهموم الشأن الداخلي المُهَدِّدة للنظام، وأخرى تتصل بتأزّم علاقاتها مع غير دولة مثل تركيا وقطر بشكل علني والسعودية بشكل خفي وإن لم تصل هذه “الخلافات” مع الرياض إلى حد العداوة والمواجهة في البيئة الدولية…
إنّ تسارع الأداء الأمني والعسكري السعودي في المنطقة يفرض على القيادة المصرية أعباء إضافية من الحمل الزائد أصلاً على أكتافها، فالقاهرة “الجديدة” بعد نظامي مبارك والإخوان ترى أنّ مكانتها في العالم العربي والإسلامي بحاجة إلى ترميم، وهي تنتهج سلوكاً يجنبها الدخول في أحلافٍ تستدعي استعمال القوة في حل النزاعات، وهي أصلاً تنشد الهدوء والإنصراف إلى معالجة الجروح التي أصابتها إثر ثورة 25 يناير 2011 وبعدها ثورة يونيو 2013 “التصحيحية” التي اقتلعت نسيجاً وطنياً أمسك بالسلطة بعد اشتياق لـ 80 سنة خلت تمثّل بالإخوان المسلمين…
لذا تحاول القاهرة بدبلوماسيتها النَّشِطة التواصل مع الأسرة الدولية لرعاية حلول سلمية بعيداً عن الأداء السعودي: فهي ترعى مفاوضات أطراف سورية معارضة على أرضها وتعتبر “الحفاظ على كيان الدولة السورية خط أحمر وكل شيء آخر يرتضيه الشعب السوري ويتوافق عليه هو شأن داخلي” (2) ، وتدعم بكل قوة القيادة العراقية في محاربة تنظيم داعش على أرض العراق، وتنظّم حواراً بين وفدي حماس والسلطة الفلسطينية لمتابعة المصالحة، وتسعى أيضاً لدى اللبنانيين إلى حل مشكلة انتخاب رئيس الجمهورية، وتمضي إلى الأمام مع الإندفاعة السعودية في اليمن مسايرة لكن لا تلبث أن تبتعد عن لهيب الحرب الدائرة مكتفية بمراقبة الممر المفضي إلى قناة السويس وتنفيذ حصار بحري وبعض الضربات من سفنها الحربية، وتتمايز عن الرياض في معالجة الشأن الليبي حيث ترفض التدخل الأجنبي في حسم مصير البلاد وتدعم تشكيل حكومة بأيدي ليبية مع دعمها الثوار الميدانيين والجيش الليبي بوجه التنظيمات المتطرفة، وبالمقارنة نجد هذه المواقف المصرية متمايزة في المعالجة السياسية عن المعالجة السعودية السياسية في كل قضية ذكرت أعلاه..
في المقلب السعودي حاولت الرياض دفع القاهرة إلى التصالح مع تركيا لتمتين الحلف الذي تسعى لهندسة أركانه إلى جانب قطر، ومن بين هذه الأركان أيضاً الدعامة الإسرائيلية، لكنّ المصالحة التي رعتها السعودية اصطدمت بعقدة الموقف التركي من الإخوان المسلمين ومأساة إقصائهم عن قصر الإتحادية وعدم تجاوب الطرف التركي مع الإشتراطات المصرية لتحسين مناخ الإلتقاء.
أيضاً دفعت الرياض باتجاه حلف إسلامي ضمّت إليه اسم مصر والتي كان رد فعلها فاتراً تجاهه مرفقاً بتساؤلات عن مصير القوة العربية المشتركة وإكتمال إجراءاتها المالية والعسكرية والتنفيذية وآلية اتخاذ القرار، وهو حلف مستوحى من المخيال الأمريكي بجيش قوامه 100 ألف مقاتل من دول المنطقة السنية، إضافة إلى جنود أمريكيين لقتال “داعش”، وكان عضوا مجلس الشيوخ الأمريكي جون ماكين وليندسي جراهام، دَعَوا أواخر العام 2015 إلى حشد هذه القوة مُسْنِدَين المهمة إلى مصر (3) …
هذا التمايز في الإستجابات السياسية بين الرياض والقاهرة، بدا في أجلى صوره حين استقبلت الأخيرة وفداً من حزب الله للتعزية بالكاتب الصحفي الكبير محمد حسنين هيكل والتقى الوفد مسؤولين مصريين، بعد قرار سيادي بمنع حزب الله من زيارة مصر بسبب نشاطاته على الأراضي المصرية دعما للقضية الفلسطينية، وعبّر هذا الموقف عن عدم ارتهان أو ارتعاب مصري من مخافة تأثير هذا الموقف على المساعدات النفطية والمالية السعودية للقاهرة، وجارى الموقف المصري الرياض بقرارها اعتبار حزب الله منظمة ارهابية، لأنّ القاهرة تريد انتخاب وزير خارجيتها السابق أحمد أبو الغيط خلفاً لنبيل العربي على رأس الجامعة العربية، بحسب ما سرّبت مصادر دبلوماسية مصرية في وزارة الخارجية إلى الصحافة اللبنانية أنّ موقف القاهرة لن يتأثر بقرار اعتبار حزب الله حزبا ارهابياً وستظل قنوات التواصل مفتوحة(4).
من مجمل القرائن ، تتأكّد أكبر هواجس الرياض من أنّ القاهرة ماضية في تحدّي الإرادة الملكية والإستمرار في لعب دور الشقيقة الكبرى في العالم العربي والتصدي للقيادة وإفهام الرياض أنّها شريكة في إدارة الإقليم وقضايا المنطقة ومحكومة للتشاور ما بين عواصم القرار ومن بينها القاهرة، وأنها قادرة على انتهاج مسلك خاص بها إن كان مع حزب الله أو مع غيره من الدول كتركيا وقطر وروسيا والصين، فقرار القاهرة استقبال وفد حزب الله أتى في وقت صبّت السعودية جام غضبها على لبنان بسبب تطاوله على السعودية ونقضه الإجماع العربي ورهن الإرادة اللبنانية لسياساته ـ بحسب ادّعائها ـ ومواجهته لها في الميدان السوري وإفشاله خططها الرامية إلى إسقاط الرئيس بشار الأسد، الأمر الذي ترى فيه القاهرة خطراً على وحدة سوريا الجغرافية والسيادية إذا ما انهارت المؤسسات الأمنية والإدارية وغير بعيد عن ذلك ما طرحه الأتراك من خطط لاقتطاع شريط حدودي من الأراضي السورية الشمالية. كما تراقب الدوائر المصرية أحدث الخطط السعودية في هذا المجال حيث تقترح التوغل بـ “التحالف الإسلامي” إلى الرقة معقل داعش وعدم التوقف للصلاة إلا في الموصل في العراق، بجهود المتطوعين من “مجاهدي التحالف الإسلامي” الذين “سيقضون على داعش” كما صرّح الكاتب السعودي جمال خاشقجي في الصحيفة السعودية “الحياة”(5). وهذا طبعاً ما لا ترضاه القاهرة ولا تستسيغ دخول قوات خارجية إلى العراق وسوريا أو ليبيا لفرض حلٍّ سياسي بقوة النار، خوفاً من أن يتطور الوضع في سيناء وتكوّن سابقة في محاربة الإرهاب باستجلاب جيوش أجنبية على غرار سيناريو قد جرى تطبيقه .
إنّ إفشال القاهرة لسياسات الرياض وتحالفاتها العسكرية واستهدافاتها السياسية ـ وقد عبّر غير كاتب سعودي عن ذلك(6) ـ القاضية بمواجهة حزب الله وإيران في اليمن وسوريا والعراق، وإفشال مساعيها في تكوين حلف يضم مصر وتركيا إلى جنبها، وتخلّي الراعي الأمريكي عن بعض “واجباته” تجاه المنطقة وسيره بالإتفاق النووي مع إيران، حدا بالدبلوماسية السعودية إلى تظهير دور اللاعب مكتوم الهوية في أزمات المنطقة: إسرائيل، وما كشفته الصحافة الغربية من تنسيق واتصالات بين الدول الخليجية والسعودية وإسرائيل قليل من كثير، وأحدثه علاقات مباشرة وزيارات متبادلة، ولا يخفى في هذا المجال التنسيق الجاري في الميدان السوري بين الجماعات المسلحة التي تدين بالولاء للسعودية والإستخبارات الإسرائيلية لضرب المحطات العسكرية السورية للرصد الإلكتروني أو مخازن السلاح النوعي والنقاط المهمة.
لقد قرأ الصهاينة هذه التحولات في سلوك القيادة السياسية السعودية والفتور في التقارب السعودي المصري، فعمدوا إلى سلسلة خطوات تصالحة وهجومية في نفس الوقت: رفعوا مستوى الإتصال بتركيا وتفاوضوا في سويسرا لإنهاء مفاعيل أزمة سفينة مرمرة وإعادة سفراء البلدين إلى تل ابيب وأنقرة بعد وساطة الرئيس الأمريكي باراك أوباما(7)، زيارات سرية للسعودية لحقتها زيارة سعودية لتل أبيب ـ يرجح أنه قام بها وزير الخارجية عادل الجبير ـ صرّح بها الإعلام الإسرائيلي(8)، كما دشن الصهاينة حملة إعلامية أثاروا فيها قضية التطبيع مع مصر وضرورة انتقال العلاقات من الشكل الرسمي إلى المستوى الشعبي، وقد شارك فيها الرئيس الإسرائيلي رؤوبين ريفلين حيث استقبل في مقر رؤساء إسرائيل السفير المصري الجديد حازم خيرت (مضى على تعيينه سفيراً أكثر من سبعة أشهر) وبعث “رسالة صداقة للرئيس المصري، ولجميع المصريين. وقال بالعربية مصر هي “أم الدنيا”، ومن قبل ذلك وجّهت الإذاعة الإسرائيلية رسالة إلى الرئيس السيسي تناشده تقليل حدّة مقاطعة الإتصال مع الإسرائيليين ومنح الأجيال من الطرفين تراثاً من التحدي والتجدد اللذان سيولدان إبداعا إنسانيا، لا الإتصالات البعيدة عن العين بين جنرالات ودبلوماسيين، وفي السياق نفسه شكى السفير الإسرائيلي في القاهرة إبقاء التعاون بين البلدين من الناحية الأمنية فقط .
من جانب آخر، تزامنت الحملة الاسرائيلية للتطبيع مع “بروفة” استقبال النائب المصري توفيق عكاشه السفير الإسرائيلي في القاهرة حاييم كوهين في منزله بعلم السلطات المصرية وإذنها وتحديداً الإستخبارات المصرية، وذلك من أجل قياس حجم الرد الشعبي على موضوع التطبيع بعد عقود من توقيع اتفاقية كامب ديفيد، وتحقيق هدف التخلص من النائب عكاشه الذي هاجم الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي في غير مناسبة، ومجاراة السعودية في حفلة العلاقات العامة مع إسرائيل، وتلميع صورة النظام المهتزة بشدة نتيجة سوء الأوضاع المعيشية والحقوقية للمواطنين، وتغوّل وزارة الداخلية في ملاحقتها للصحافيين والسياسيين والشباب بحجة قمع الإخوان المسلمين والتيارات التكفيرية.
في الخلاصة، إنّ التقاط الأنفاس عند النظام المصري لن يقل بل سيتصاعد تدريجياً لهاثه، خاصّة مع نشوب أزمات جديدة اقتصادية وتدهور سعر صرف الجنيه المصري أمام الدولار الأمريكي ـ اعتبره مسؤولون مصريون فعلا مقصودا ومضاربات “تخريبية” ممتدة إلى منطقة الخليج خاصّة(9)ـ وفقدان سيولة الدولار من السوق، الامر الذي يشي بأنّ السعودية في ظل أزمتها المالية، تضغط على القاهرة لتقبض ثمن مساعداتها لها، إذعاناً سياسياً بشكل مباشر.
والسؤال المطروح أخيراً، هل النظام المصري مهدّد بالسقوط “اغتيالا” على أيدي العسكر عقب ثورة مستعادة على الأوضاع الإجتماعية تعيد خلط الأوراق؟ ثورة تكون انتقامية لعدم تحقق مطالبه الإجتماعية والسياسية بالرغم من أنّ ثقافة تداول السلطة عند الشعب المصري غير متوفرة عند شريحة كبيرة من المواطنين.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
هوامش:
1 ـ أرفع الرتب العسكرية المصرية وتستخدم أيضاً فى السودان والأردن واليمن وعمان والبحرين (ويكيبيديا)، وقد ورد في الموسوعة العسكرية، أن رتبة المشير لا تمنح في بلاد الانجليز إلا لمن يحقق انتصاراً عسكرياً كبيراً عندئذ يتوج رسمياً، ويصبح ال فيلد مارشال، لذلك فتعريف رتبة المشير في الأوساط العسكرية هو القائد الذي قاد معركة و حولها من الهزيمة إلى النصر التام (منتدى الجيش العربي على الإنترنت).
2 ـ تصريح للناطق باسم الخارجية المصرية تعليقاً على اتفاق وقف النار في سوريا والطرح الروسي بإقامة نظام فيديرالي فيها، جريدة السفير بتاريخ 03/03/2016
3 ـ قناة الجزيرة مباشر، “ماكين يطالب مصر بالمشاركة في حشد 100 ألف جندي ضد تنظيم الدولة” بتاريخ 30/11/2015
4 ـ جريدة الأخبار “خرق عربي لإجماع آل سعود” بتاريخ 4/3/2016
5 ـ جريدة الحياة، جمال خاشقجي: “جيش المجاهدين الذي سيقضي على داعش” بتاريخ 5/3/2016
6 ـ أنظر مقالة الكاتب السعودي جريدة الحياة عبدالله ناصر العتيبي بعنوان: “ستة أسئلة لمصر وجواب واحد” 1/3/2016 أو غيره مِن مَن انتقد الأداء السياسي المصري مثل جمال خاشقجي، وجرى الرد المصري على الكتابات السعودية في حينه وأحدثها للكاتب المصري مكرم محمد أحمد بعنوان: “أسئلة سعودية صعبة وإجابات مصرية واضحة!” في جريدة الوطن بتاريخ 5/3/2016
7 ـ وكالة رويترز بالعربية : “مسؤول إسرائيلي: اتفاق مبدئي مع تركيا لتطبيع العلاقات” 17/12/2015
8 ـ منه القناة العاشرة الإسرائيلية وموقع المنار الفلسطيني المستقل نقلا عن مصدر غربي، وعشرات الصحف العبرية والعربية.
9 ـ أنظر جريدة المصري اليوم بتاريخ 7/3/2016 بعنوان :” «الدولار» يحاصر الـ«عشرة جنيه» شعبة الصرافة: سوق العملة تتعرض لمضاربات تخريبية”