التحالفات الشرقية في الميزان الإستراتيجي
موقع قناة الميادين-
محمد سيف الدين:
في الوقت الذي تعيد الولايات المتحدة الأميركية صياغة تحالفاتها الاستراتيجية، بما يتلاءم مع تحوّلها الاستراتيجي نحو مواجهة الصين، تقوم الأخيرة، ومعها القوى الشرقية الأخرى، ببناء نموذج آخر من التحالفات.
في إطار البحث عن دور متلائم مع التحولات الكبرى، شهدت الأسابيع الأخيرة أحداثاً مهمة، أبرزها إفشال واشنطن ولندن صفقةَ الغواصات الفرنسية مع أستراليا، واستبدال صفقة أخرى بها، ثمّ تأسيس تحالف AUKUS، الذي أُضيف إلى التحالفات الأخرى التي تصوغها واشنطن في فضاء الهندو ـ باسيفيك.
في المقابل، تسعى القوى الشرقية، ولاسيما روسيا والصين، إلى تعزيز شراكاتها الاقتصادية والسياسية والأمنية، من أجل مواجهة التحديات الكبيرة المُحْدِقة. وهي تدرك، من دون شكّ، أنها مقبلة على مرحلة شديدة الخطورة، سيكون خلالها الشرق ساحةً الصراع الاستراتيجي على قمة العالم. فما هي الشراكات والأطر التي يتجهَّز فيها الشرق لتلك المواجهة؟
منظمة شنغهاي للتعاون
تأسَّست منظمة شنغهاي للتعاون في 15 حزيران/يونيو 2001، لتضمّ ستَّ دول آسيوية، هي الصين، روسيا، قرغيزستان، أوزبكستان، طاجيكستان وكازاخستان، ثم انضمت إليها كل من الهند وباكستان في عام 2017، وإيران قبل أسابيع قليلة. وهي رابطة متعددة الأطراف، تهدف إلى “ضمان الأمن والمحافظة على الاستقرار، عبر الأنحاء الشاسعة لأوروبا وآسيا، وتوحيد الجهود للتصدي للتحديات والتهديدات الناشئة، وتعزيز التجارة، فضلاً عن التعاون، ثقافياً وإنسانياً”.
ومنذ التأسيس، كان للمنظمة هدفٌ كبير يتعدّى ضمان الأمن وتعزيز التعاون ليصل إلى “بناء عالمٍ متعدّد المراكز”، وهو هدف منسجمٌ مع أهداف الدول الأعضاء التي تعلن ذلك في أدبياتها كدولٍ مستقلة، قبل أن تجمع جهودها في إطار المنظمة.
وينشط عمل منظمة شنغهاي في إطار القانون الدولي، بحيث يتعاون أعضاؤها في الأهداف المتسقة والمبادئ الدولية، من دون أن تغفل المنظمة حاجاتها ومصالحها. وحقّقت نجاحات ملموسة، ولاسيما فيما يخص تطوير العلاقات البينية بين الدول الأعضاء، وتثبيت حضور المنظمة في المحافل الدولية، كمنظمةٍ إقليمية مساهمة في تحقيق المبادئ التي قامت عليها المنظمات الدولية التي تهدف إلى تحقيق الأمن والسِّلْم الدوليَّين، وفي طليعتها الأمم المتحدة.
وفي حين أن المنظمة لم تتحوّل، في كيانها المستقل، إلى أحد مراكز القرار الدولي، فإن روسيا والصين، الدولتين العضوين فيها، حققتا حضوراً دولياً لا يمكن تجاوزه أو إهماله عند ذكر أي قضية دولية، ولاسيما في العقدين الأخيرين، واللذين يشكلان عمر المنظمة.
وتقول المنظمة، في أدبياتها، إنها “لا تنوي تشكيل أيّ تحالفات، أو توجيه أعمالها ضد أيّ كيان يتمتع بالسيادة. وإنها تلتزم، على نحو نشط ومتَّسق، الحوارَ والتبادل والتعاون، وترتكز على الالتزام الصارم فيما يتعلّق بالأغراض والمبادئ الواردة في ميثاق الأمم المتحدة، مثل المساواة وسيادة الدول، وعدم قبول التدخُّل في شؤونها الداخلية، واحترام الوحدة الإقليمية، والحرص على سلامة الحدود، وعدم الاعتداء، وتسوية النزاعات عبر الوسائل السلمية، وعدم استخدام القوة أو التهديد باستخدامها، فضلاً عن غيرها من قواعد القانون الدولي المعترَف بها عالمياً، والتي تهدف إلى المحافظة على السلم والأمن، وإقامة شراكات بين الدول، وحماية السيادة الوطنية، واحترام الحق في تقرير المصير، والسير إلى الأمام من أجل تحقيق التنمية، سياسياً واجتماعياً واقتصادياً وثقافياً”.
وهذا ما يظهر فعلياً من البحث في العلاقات القائمة بين دولها، والنتائج التي وصلت إليها هذه الدول مجتمعةً، والتي صاغت معاً المنظمة كهيكلٍ يهدف إلى تكوين “الشراكات” أكثر مما يهتم ببناء تحالفات موجَّهة ضد الآخرين.
إن منطق الشراكات سوف يميز هذه الجهود الجماعية من التحالفات الأمنية التي تبزغ اليوم في الفضاء الهندو ـ باسيفيك.
دخول إيران.. معنى آخر لـ”شنغهاي”
بقي الحضور الدولي لمنظمة شنغهاي خافتاً على مدى السنوات العشرين من تأسيسها. لكن، حملت معها السنة الحالية، وتحديداً الشهر الفائت، تطوراً لافتاً مع الموافقة على تحوّل صفة المراقب، التي كانت تحوزها إيران، إلى عضوية كاملة، وتالياً بدء الإجراءات العملية لدخولها المنظمة.
وطهران، التي دأبت في السنتين الماضيتين على تعزيز اتجاهها الشرقي، تجلب معها إلى المنظمة زخماً مغايراً يميّز سياستها الخارجية الشديدة التحفزّ، والتي بدورها تحمل فرصاً وآفاقاً جديدة لدول المنظمة، وتضعها في الوقت نفسه أمام تحدّيات جديدة أكثر جرأة في التطلع إلى حضور أكثر قوة.
مع وجود ستّ دول أخرى إلى جانب روسيا والصين، يضع قبولُ العضوية إيرانَ في مرتبة متقدمة في المنظمة بعد الصين وروسيا، وإلى جانب الهند وباكستان، كقوى إقليمية فاعلة، بحيث يعبّر عن إضافة نوعية وكمية، من ناحية القدرات ومعانيها، وطرائق توظيفها وتحديد أهدافها البعيدة.
لقد أحدثت عضوية إيران ردود فعلٍ مرحِّبةً في المنظمة. وفي المقابل، شهد الداخل الإيراني حالة إجماع على تثمين الخطوة التي تسمح للبلاد بدخول فضاءٍ متطوّر ومُتَنامٍ. والأهم من ذلك أنه فضاءٌ صديق، يحاول تجميع قدراته في عالمٍ لطالما سيطرت عليه القوى الغربية. إنها، باختصار، صورة من معالم العالم الجديد، الذي يتكوّن في الشرق، بينما تحاول الولايات المتحدة تجميع تحالفاتٍ أمنية لمحاصرة هذه الشراكات المتّسعة.
في الجانب الإيراني أيضاً، تفتح الشراكة الجديدة مع دول “شنغهاي” فرصاً لطهران في أن تخرج من دائرة التطويق، المزدوجة بالأزمات والعقوبات، والتي تحاول واشنطن محاصرتها بها. إنه باب آخر إلى العالم الجديد. فالعضوية الدائمة ستتيح للجمهورية الإسلامية التواصل مع أسواق تضم كتلة بشرية هائلة يصل تعدادها إلى 65 في المئة من إجمالي سكان العالم.
أمّا بالنسبة إلى دول “شنغهاي” الأخرى، فضمُّ إيران يُعتبر فرصةً لها في اللَّعِب في ملعب تجد صعوبات كبيرة فيه، باستثناء روسيا الحاضرة بقوة في سوريا. ويضع انخراط طهران الكامل في عمل المنظمة، الأخيرةَ في موقف الفعّالية في القضايا السياسية التي تقع ضمن مساحة التأثير الإيراني، بينما يُعتبر، بالنسبة إلى طهران، انتصاراً من ناحيتين أساسيتين: الأولى خارجية مرتبطة بحرب العقوبات والحصار التي تلاحقها، والثانية داخلية متعلقة بتردُّد بعض أعضاء منظمة شنغهاي (طاجيكستان مثلاً)، طوال سنوات، في الموافقة على قبولها، في عضويةٍ كاملة. واليوم، بعد تذليل كل العقبات القديمة، لقي انضمام إيران ترحيباً واسعاً من قادة دول المنظمة.
وفي عمق المعنى السياسي لانضمام إيران، تبرز ملاحظات متعدِّدة، أهمها تعزيز خيار الاتجاه شرقاً الذي اتخذته الأخيرة، والترابط السياسي بينها وبين القوى الشرقية، وخصوصاً روسيا والصين اللتين تساندان الموقف الإيراني في مواجهة العقوبات الأميركية، وهو ما تؤكده تصريحات المسؤولين الروس والصينيين بشأن مفاوضات العودة إلى الاتفاق النووي، وتأكيد الدولتين أن طهران لا تقوم بأعمال خرق للقوانين الدولية في أثناء ممارستها أعمالها كدولةٍ مستقلة تسعى للاستفادة من الطاقة النووية للأغراض السلمية.
أمّا الملاحظة الأخرى والمهمة، في هذا السياق، فهي تتعلق بالسياسة الخارجية الإيرانية نفسها، والتي يُتوقَّع أن تزيد في اهتماماتها بالفضاء الآسيوي، بعد أن صبّت كثيراً من جهود سياستها الخارجية في السنوات السابقة في قضايا الشرق الأوسط، تحت عنوان عريض مرتبط بالدفاع عن القضية الفلسطينية، لتزيد الاهتمامات الجديدة في تحديات الخارجية الإيرانية وفرصها، في لحظة شديدة الحساسية في النظام الدولي.
الآن، تنتظر إيران أن تساهم عضويتها في صياغة موقف موحَّد من دول المنظمة للرد الجماعي على العقوبات والإجراءات التي تستهدفها، وهو موقف طبيعي من دولٍ أصبحت تجمعها وطهرانَ حزمةُ مصالح اقتصادية وأمنية وسياسية، في إطار إقليمي واحد.
كان تعليق الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي لافتاً بعد إعلان دخول بلاده “شنغهاي”، حين قال إن “العالم دخل حقبة جديدة. الهيمنة والأحادية إلى زوال. النظام العالمي بدأ شيئا فشيئاً يتَّجه نحو التعددية وإعادة توزيع القوى نحو الدول المستقلة”. وهي، بدقّة، الأهداف والعناوين نفسها التي على أساسها بُنِيت منظمة شنغهاي.
منظمة بريكس
إلى جانب “شنغهاي”، تأسست في عام 2008 منظمة بريك BRIC، لتضم كلاً من البرازيل وروسيا والهند والصين، في إطار تعاوني، في المستويات الاقتصادية والتنموية، ثم انضمت جنوب أفريقيا إلى المجموعة في عام 2009، ليصبح اسمها “بريكس” BRICS.
وعلى الرغم من أن المجموعة ليست حلفاً شرقياً بالمعنى الجغرافي، فإن الثقل الاستراتيجي فيها هو للقوى الشرقية (روسيا، الصين والهند)، الأمر الذي يجعلها أساساً في حساب التأثير الاستراتيجي لها ضمن الكفّة الشرقية في ميزان المقارنة.
منذ التأسيس، لقيت المجموعة صدى كبيراً في الميادين الاقتصادية الدولية، نظراً إلى ضمها بعض أقوى الاقتصادات الناشئة في العالم، وقوى صاعدة على المستويين الاقتصادي والسياسي. فإلى جانب الهند والصين، القوتين الاقتصاديتين والبشريتين العظيمتين، تمثّل كل من روسيا وجنوب أفريقيا والبرازيل قوى شديدة الأهمية، إقليمياً وعالمياً، وهي أهميةٌ لا تنفكّ تتصاعد، ارتباطاً بالتحولات التي يشهدها العالم اليوم.
وبعد تباطؤ المزاج التفاؤلي الذي رافق السنوات الأخيرة من انطلاقتها، يُلحَظ اليوم من مواقف قادة الدول الأعضاء في “بريكس” اتجاهٌ إلى إعادة تزخيم دورها، وتنشيط الخطوات العملية الساعية لتفعيل حضورها، ولاسيما بعد تأسيس مصرف خاص بالمجموعة، وسعي دولها للخروج من الهيمنة الغربية على الاقتصاد الدولي، نقدياً ومالياً، وخصوصاً أن المجموعة تُعتبر صاحبة أسرع نمو اقتصادي في العالم، بحيث تساهم دولها في نحو 22% من إجمالي الناتج العالمي، وتحتل قرابة 26% من مساحة الأراضي في العالم.
إن نجاح “بريكس” و”شنغهاي” في تطوير أدوار جديدة لهما في فضاء النظام الاقتصادي الدولي، ثم النظام السياسي العالمي، سيخلق، من دون شكّ، ظروفاً حاسمة في تغيير هذين النظامين في اتجاه جعلهما متعدِّدَي مراكز القوة.
منظمة معاهدة الأمن الجماعي
إلى جانب المجموعتين السابقتين، واللَّتين يغلب عليها الطابع الاقتصادي، فإن الفضاء الأوراسي لا يزال متضمناً تحالفاً عسكرياً يحافظ على أهميته بالنسبة إلى الدول الأعضاء فيه، ولاسيما بالنسبة إلى روسيا التي تقوده تحت عنوان “منظمة معاهدة الأمن الجماعي”.
والمنظمة هي عبارةٌ عن تحالف عسكري وتحالف سياسي بين مجموعة من جمهوريات الاتحاد السوفياتي السابق، بحيث تضمّ، بالإضافة إلى روسيا، ست دول أخرى. ولطالما حاولت موسكو الإبقاء على علاقاتها الوطيدة بالدول السوفياتية السابقة، ولاسيما أن تلك الدول تتعرّض، منذ انهيار الاتحاد السوفياتي، لضغوط استراتيجية غربية متنوعة، تشمل إجراءات الترغيب والترهيب، من أجل فصلها عن موسكو وإلحاقها بالمنظمات الغربية بصورة تدريجية، وعلى رأسها حلف شمال الأطلسي (“الناتو”)، والاتحاد الأوروبي، وبرامج الشراكة الغربية الأخرى.
تأسست المنظمة في 7 تشرين الأول/ أكتوبر 2002، على أساس معاهدة الأمن الجماعي الموقَّعة في 17 أيار/مايو 1992، وهي تضمّ كلاً من روسيا وروسيا البيضاء وكازاخستان وطاجيكستان وأوزبكستان وقرغيزستان وأرمينيا. وانسحبت من المنظمة كل من جورجيا وأذربيجان.
يقع مقر المنظمة في العاصمة الروسية موسكو، ولها أمانة عامة دائمة، في حين تتناوب الدول الأعضاء على رئاسة المجموعة، وتستمر الفترة الرئاسية عاماً واحداً.
تنشط المنظمة في سبيل تحقيق أهداف سياسية وعسكرية، تتعلّق بضمان الأمن الجماعي، والدفاع عن سيادة أراضي الدول الأعضاء واستقلالها ووحدتها، بالإضافة إلى التعاون العسكري، والمحافظة على الأمن والسلم في المنطقة، ومحاربة الإرهاب والجريمة المنظَّمة، ومنع انتشار أسلحة الدمار الشامل. وينصّ ميثاق المنظمة على امتناع الدول الأعضاء عن استخدام القوة أو التهديد بها، فيما بينها، وعلى الامتناع عن الانضمام إلى أحلاف عسكرية أخرى، وعلى أن الاعتداء على أيّ عضو في المجموعة يُعتبر اعتداءً على سائر الأعضاء.
وبعيداً من مقارنة هذه المجموعة بـ”حلف وارسو” المنحلّ، فإن إشارة لافتة لا بدّ من أخذها في الحسبان، في هذا السياق، تتمثل بترشُّح إيران لعضوية المنظمة. وفي حال انضمامها، في عضويةٍ كاملة، فإن معانيَ أخرى سوف تتبلور من ناحيتي الدور الجديد لمعاهدة الأمن الجماعي أولاً، وتفاعلات ذلك مع الأحلاف الأخرى المنطلقة في فضاء العالم الجديد ثانياً.
إنها أجزاء منفصلة ومترابطة، في آنٍ واحد، لتشكل مجتمعةً صورة العالم الجديد، ولترسم منفصلةً تفاصيله وتفاعلاته، ومخاضات ولادته. وبعد اتضاح خيارات الغرب (عبر الأحلاف التي تصوغها أميركا)، والشرق (عبر المنظمات المشار إليها والشراكات الجديدة المتبلورة)، يبرز سؤال شديد الأهمية، لا إجابة عنه حتى الساعة: أين أوروبا؟