التجنيد الالزامي خطوة أخرى للوراء
قناة العهد العراقية-
علي مارد الأسدي:
يبدو أن دوافع غير بناءه، ولا تخضع لما هو منطقي وممكن ومفيد وصالح، ستظل هي من تؤسس وتخطط مسارات المستقبل للعراق، وترسم له إستراتيجيات البقاء في خانة الدول الفاشلة، وتمهد أرضية العودة الكئيبة لعهود القهر والاستعباد والاذلال..
وفي الواقع فإن هذا الوصف ينطبق تماماً على قرار مجلس الوزراء بإحالة مشروع قانون التجنيد الإلزامي إلى مجلس النواب تمهيداً للتصويت عليه.
فمن المستغرب أن أحداً لم يلتفت إلى أن خدمة العلم التي وردت في الدستور العراقي ،ضمن المادة التاسعة الفقرة ثانياً، نصت على أن(تنظم خدمة العلم بقانون)، وهي هنا لم تشير من قريب أو بعيد إلى إلزامية الخدمة في الجيش، بل أشترطت وقيدت ضمن مواد دستورية صريحة و واضحة أن لا تكون هذه الخدمة قسرية.
إذ نصت المادة الثانية من الدستور العراقي :
ب- لا يجوز سن قانونٍ يتعارض مع مبادئ الديمقراطية.
ج- لا يجوز سن قانونٍ يتعارض مع الحقوق والحريات الأساسية..
فيما جاء في المادة السابعة والثلاثون من الدستور :
اولاً..
أ- حرية الإنسان وكرامته مصونةٌ.
وفي نفس المادة أعلاه نص الدستور العراقي
في الفقرة ثانياً:-
تكفل الدولة حماية الفرد من الإكراه الفكري والسياسي والديني.
ثالثاً:- يحرم العمل القسري (السخرة)، والعبودية..
كل ذلك وغيره يحرض لتراكم الأسئلة عن الأسباب الحقيقية التي تدفع البعض من المسؤولين والساسة قبيل نهاية كل دورة إنتخابية، لمحاولة تمرير قانون بدائي وغير المنتج ، في بلد يقف على حافة الانهيار الاقتصادي.
وقبل البحث في الاجوبة، لنتوقف قليلاً أمام حقيقة أن من أصل ٢٠٦ دولة في العالم، هناك ما يقارب ٦٠ دولة فقط ما زالت تطبق التجنيد الاجباري على مواطنيها، مما يدل على أن غالبية دول العالم قد تحولت في عقيدتها العسكرية من الكم إلى النوع ،ومن الإجبار إلى الاختيار ، ومن العامل البشري إلى الفاعل التقني.
ومع دراسة طبيعة الدول التي ما زالت تطبق الخدمة الالزامية في الجيش نجد أن غالبيتها تمتلك المبررات والظروف الموضوعية لاستمرار العمل بها وخصوصاً في حالة نقص الموارد البشرية ضمن المتطوعين في الجيش ، أو أنها تطبقها بشكل نظري على الورق كأحتياط وطني جاهز تحسباً لحالات الطواريء، وبعضها عملت على تطويرها والزج بها في ميادين البناء والأعمار.
إذن ماذا عن العراق؟
لنراجع معاً المعطيات التالية :
١. تستحوذ موازنة المؤسسات العسكرية والأمنية حالياً على ما يقارب ربع موازنة الدولة العراقية التي تعاني من عجز مزمن.
وهذه نسبة هائلة، خارج حسابات التخطيط السليم، وغير طبيعية في كل المقاييس العالمية.
٢. هناك نقص حاد في الأسلحة والمعدات والتجهيزات العسكرية، يحتاج لتخصيص مبالغ سنوية ضخمة من الموازنة لتغطية هذا النقص.
٣. يعاني الجيش العراقي من نقص كبير في البنى التحتية ، وفي كل ما يتعلق بالشؤون اللوجستية الخاصة بالخزن والتدريب والإعداد والتأهيل..
٤. يتصدر العراق دول العالم التي لديها ترهل كبير جداً ، يفيض عن حاجتها الفعلية ،في صنوف قواتها المسلحة والأمنية، ولذلك يعتبر العراق من الدول القليلة التي أغلقت أبواب التطوع على ملاكها الدائم في مؤسسات الدفاع والامن منذ سنوات.
إذن.. والحال هكذا.. نرجع لطرح نفس السؤال :
لماذا هناك من يريد العودة بكل وسيلة للتجنيد الإلزامي، سيء الصيت، في العراق رغم تغير شكل النظام السياسي فيه من نظام دكتاتوري، شمولي،مستبد، يؤمن بعسكرة المجتمع، إلى نظام ديمقراطي، برلماني، دستوري، يرفع شعارات المدنية وحقوق الإنسان ؟
الجواب بمقدار من التلخيص :
إنها بقايا ثقافة البعث المتغلغلة في نفوس بعض الذين لا يتخيلون شكلاً للدولة والتربية الوطنية خارج أطر ومفاهيم وسياقات دولة البعث التي سقطت غير مأسوف عليها عام ٢٠٠٣ إلى غير عودة.
وهي أيضاً جزء من مخطط خبيث، يسير فيه البعض بدون وعي، لعسكرة المجتمع وتأزيمه ووضع المزيد من العراقيل أمام نهوضه ،بل واسقاط ما تبقى من الدولة العراقية إقتصادياً وسياسياً وإجتماعياً..
وهي كذلك وهم مريض لا يتحقق، يعشعش في عقول من يعملون ليل نهار لتفكيك وإستبدال المنظومة النوعية للحشد العقائدي ،التي أثبتت إنها وحدها القادرة على حفظ العراق من المخاطر الداخلية والخارجية التي تهدد وجوده.
دون أن ننسى إنها ستكون بوابة مشرعة لنهب الموازنة العامة وللفساد المالي. حيث ستنتعش معها الصفقات والمحسوبيات، والعلاقات الخاصة، التي تأخذ بيد أبناء المسؤولين والمترفين بعيداً، خارج الجيش بل وخارج الوطن، ما دامت الجنسية الثانية متوفرة لدى أغلب ساسة العراق وأولادهم الذين يعيش أغلبهم في الخارج، فيما سيكون أبناء الفقراء من الجنوب والوسط (لان اقليم الشمال بالطبع خارج المعادلة) ،مشاريع قهر واستعباد وسخرة عبثية،ما داموا لا يملكون ما يكفي من المال لشراء حريتهم وربما حياتهم ايضاً.