البُعد الإستراتيجي لصراع الحصار في أرض الشمال
موقع إنباء الإخباري ـ
حسن شقير:
لم يكن التدخل التركي الأخير في سوريا ضمن عملية درع الفرات ، منقطعاً عما سبقه من أشكال الولوج التركي الممتد من عمر احتدام الحرب على سوريا في العام ٢٠١١ وحتى يومنا هذا، ولم يكن سقوط الحلم الأردوغاني في إسقاط نظام الحكم فيها، سقوطاً لديناميات تركيةٍ – أمريكيةٍ متجددة ، معلنة ٍ وخفيةٍ فيها ، لا بل أن هذه الأخيرة ، كانت قد مرّت في ثلاث مراحلٍ مفصلية ، والتي كانت أو هي كادت ، تلاقي مصيرها المحتوم ، وذلك لأن استغلال تركيا ، للحظة السياسية المؤاتية في إطلاقها ، كانت تُواجه في المحور الأخر ، بإستراتيجيات ٍ مضادة لها ، تجعلها تلاقي حتوفها ، قبيل أن يُبصر نورها .
في خريف العام ٢٠١٤ ، وعلى أعقاب بدء مشروع أمريكا في تدريب ما سمي بالمعارضة المعتدلة ، وكثرة الحديث في حينه عن تشكيل ما سُمي يومها ب “ جيش الشمال “ ، وعلى وقع تعويم ما عُرفت بالحكومة السورية المؤقته ، وبدء العمل على تجهيز الحيّز الجغرافي لها ، وذلك تمهيداً لبسط سيطرتها عليه ، ومع تسارع المفاوضات التركية – الأمريكية في حينه لاستمالة أكراد سوريا إلى مشروعهم … ، وفي ظل هذا وذاك ، أطلق الجيش السوري في حينه ، حملةً عسكرية واسعة في أرياف حلب ، من الشرقية منها ، وصولا ًحتى الشمالية ، وكانت الخطة يومها ، تهدف إلى إطباق الطوق على مسلحي حلب الشرقية … وذلك في إندفاعة سريعة ، كاد أن يكتمل هدفها ، ليطلق حينها المبعوث الأممي ( الجديد ) ، سيتيفان دي مستورا ، في ديسمبر من العام نفسه ، مبادرةً ، حول “ تجميد القتال في حلب وأريافها “ ، وبعد تشذيب الحكومة السورية لها ، وذلك بالقبول بمبدأ التجميد في المدينة دون أريافها ، مما أفقدها هدفها المركزي ، ولتلفظ أنفاسها ، وليسقط معها ، مشروع تركيا الأول – بعد سقوط الحلم – في جعل حلب عاصمة سياسية بديلةً عن دمشق ، واستجلاب الإعتراف الرسمي بها ، وذلك من أصحاب المقولة الشهيرة بأن “ الأسد فقد شرعيته “ ، وبالتالي دُفِنٓ المشروع التركي في استبدال الدولة الوطنية من الشمال في مهده .
وفي صيف العام ٢٠١٥ ، وعلى وقع الإتفاق التركي – الأمريكي ، لبدء التنسيق العسكري المشترك لإطلاق الحرب على داعش في سوريا ، وذلك من خلال سماح تركيا للطائرات الأمريكية باستخدام قاعدة إنجرليك التركية ، كانت جحافل ما سُمي بجيش الفتح تخترق محافظة إدلب ، وتسيطر عليها ، وكانت تشكيلاتهم تندفع أيضاً في ريف اللاذقية الشمالي ، وكذا في سهل الغاب في محافظة حماة ، مهددةً الساحل السوري برمته ، ومن جهة أخرى ، كانت قوافل داعش تمخر عُباب الصحراء السورية ، وتتمدد في بادية سوريا ، وتحت العين الأمريكية ، والتي كادت ، وفي حزيران من ذاك العام ، أن تُشكل حنشاً إرهابياً ، ممتداً من الأنبار العراقية ، وصولاً حتى القصير السورية ، أو حتى جرود عرسال اللبنانية ، وكاد التكامل الإرهابي في سوريا ، أن يضع قلب ووسط ( دمشق وحمص ) هذه الأخيرة ، بين سيفين إرهابيين مُصلتين على الدوام ، ولكن ، وقبيل اكتمال المشهد الإرهابي ذاك ، كان زمن الفكاك لمحور الممانعة – وتحت المظلة الروسية – ، يحط ضيفاً ثقيلا ً على أولئك الإرهابيين ورعاتهم أيضاً، ،مما جعل ذاك المشروع التركي الثاني ، تذروه العواصف العاتية ، والتي هبّت عليه ، بدءً من الثلاثين من سبتمبر من العام ٢٠١٥ .
وفي تموز من العام ٢٠١٦ ، وبعيد فشل الإنقلاب العسكري على حكم العدالة والتنمية في تركيا ، وفي استغلال للحظةٍ سياسية مؤاتيةٍ لها في عودة الدفء لعلاقاتها مع روسيا ، وذلك بعيد عملية اسقاطها لإحدى الطائرات الروسية في تشرين الثاني من العام الماضي ، وفي خضم التقدير الإيراني ، حول إمكانية حدوث انعطافة سياسية لأردوغان ، وفي ظل استلحاقٍ أمريكي لقبول الغفران التركي ، وفي خضم علاقة من الشك وعدم الثقة بين المكوّن الكردي والدولة السورية في الحسكة .. وفي ظل هذا وذاك ، أطلقت تركيا ما أسمتها بعملية درع الفرات ، وذلك بحجة القضاء على التنظيمات الإرهابية في الشمال السوري ، وذلك على مساحة حددها أردوغان لنفسه ، والتي قدّرها بخمسة ألاف كلم مربع ، وذلك لبث الروح في مشروعه لإقامة المنطقة العازلة ، والتي تمتد من جرابلس إلى عفرين ، وصولاً حتى مدينة الباب ، وصولا ً إلى منبج ، وذلك إلى مشارف الضفاف الغربية لنهر الفرات ، هذا فضلا ً عن استعداده مؤخراً لعبوره ، ولمد معركته نحو محافظة الرقة السورية أيضاً !
كنا قد فصلنا في مقالة سابقة بعنوان ( الخصوم والحلفاء أمام التدخل التركي ) بأن التدخل التركي معنونٌ ب “ عوائدٌ ، دون الإقتراب من المحرّمات “ ، وعليه فإن أردوغان ، وإلتزاماً منه – على ما يبدو – ، بما قدمه قبيل إطلاق مشروعه الثالث في سوريا ، فإنه ، وفي غمرة التخمينات حول وجهته في خريطة السيطرة العسكرية في منطقة الشمال السوري ، وتحديدا ً في مدينة الباب ، أطل بالأمس القريب ، “ مطمئنناً “ بأن مسار تدخله ينطلق نحو الباب ، فمنبج ، فالرقة ، وليس العكس ، وذلك في رسالةٍ منه إلى كل ٍ من سوريا وروسيا وإيران ، مفادها ، بأنه ليس معنياً بمشروع أمريكا ، في العمل على حشر الدواعش في الرقة ، وذلك لإستنزاف الدولة السورية وحلفائها هناك ، وبالتالي عدم تخطيطه لاستنساخ هذه الاستراتيجية ، في مدينة الباب .. وأكمل أردوغان رسالته التطمينية تلك ، بأن مدينة حلب هي “ لأهلها “ ، وأنه غير معنيُّ بها ، وذلك على مسافة يومين فقط من فتح المسلحين للمحور الغربي لهذه المدينة ‼
ربما هدف أردوغان في تحايله الجديد ذاك ، إلى إلهاء الجيش السوري وحلفائه عن التفكير بإكمال معركة حلب وإعادتها بكليتها إلى حضن الدولة ، أو حتى منع سوريا وحلفائها من الوصول إلى مدينة الباب ، ومن هنا كان التحذير الروسي – السوري للطائرات التركية ، وتذكير أردوغان بمعادلة عدم الإقتراب من المحرّمات …
لا ندري إذا كان المسار العسكري الذي جاهر به أردوغان ، كان كافياً لغض النظر السوري عن وصول تركيا إلى مدينة الباب أم لا ، إلا أننا نعتقد في المقابل ، بأن الصراع العسكري في الشمال السوري ، هو صراعٌ بين مشاريع ٍ استباقية تخطط لها أمريكا وتركيا ، وتعمل روسيا ومحور الممانعة على وأدها قبيل استفحالها ، هذا فضلا ً عن منع الإستثمار بها لاحقاً ، وذلك كله ، مرتكزٌ على الحصار ، والحصار المضاد .. فكيف ذلك ؟
لنقارب ذلك من خلال سيناريو تقدم قوات درع الفرات ، مدعومة ً من تركيا نحو مدينة الباب ، والتوجه شرقاً نحو منبج ، ومع التوقع ، بأن شرق مدينة حلب ، قد أصبح بقبضة الجيش السوري ، وبالتالي ، فإن هذا الأخير ، سيكون لديه مجالٌ حيوي ، يمتد من ريف حلب الشرقي ، وصولا ً إلى الغرب الحلبي ، صعوداً نحو نبل والزهراء في الريف الشمالي ، وحتى حدود عفرين ، الأمر الذي سيجعله -متكافلاً مع حلفائه – ، لان يكونوا مستعدين لإطلاق معركتهم المؤجلة ، والهادفة إلى فصل أرياف حلب الجنوبية والغربية وصولا ً إلى الشمالية ، عن الريف الشمالي لمحافظة إدلب ، وبالتالي سيصبح جيش الفتح ، محاصراً في زاويةٍ حدها الأول ، على امتداد أرياف حلب، وحدها الثاني ، على امتداد ريف اللاذقية الشمالي ..
وضمن هذا السيناريو أيضاً، ، فإن قوات درع الفرات – والمسيطرة افتراضاً على منبج بعد الباب – ، ستكون تحت المطرقة الكردية من جهة شمال المدينة ، وسندان الجيش السوري ، والذي يمكن أن يطلق حملته نحو دير حافر تجاه الرقة ، أو حتى يعاود الدخول لمحافظة الرقة من مدينة الطبقة ومطارها ، وكما حدث منذ أشهر ، وذلك قبيل تراجعه عنها .
أما في حال بقاء شرق حلب تحت سيطرة المسلحين ، وبقاء الإستنزاف لجبهة الجيش السوري وحلفائه على جبهتها الغربية المستعرة حالياً ، أو حتى مع حلول هدنة جديدة معهم ، فإن ذلك الحصار سيصبح معاكساً ، وبكل تأكيد . هذا فضلا ً عن أن سيناريو محاصرة جيش الفتح في إدلب سيبقى بعيد المنال ، وبناءً عليه فإن شرق حلب سيصبح بيضة القبان التي تُعدِّل خريطة السيطرة في الشمال السوري
أختم ، هل تخطط تركيا – وضمن تصريحات أردوغان المتكررة – للتقدم عبر درعها نحو الباب ، وذلك لدفع الجيش السوري ، كي يفتح معركةً متزامنة من الشمال والغرب في أن واحد ؟؟ وهل تخطط هي آيضاً لإعادة تفعيل دعمها العسكري للفصائل التابعة لها في حماة ، وإعادة المحاولة مجدداً ، للإلتفاف على الجيش السوري في حلب وأريافها ، وذلك من الخلف ، وبالتالي حصاره ضمن مثلث عريض من الجبهات المشتعلة ؟ ولكن بالمقابل ، فهل سيندفع الجيش السوري وحلفائه مجدداً نحو الطبقة في الرقة ، وذلك لإستباق حلفاء أمريكا إلى حدودها الإدارية ؟ وماذا لو تكاملت هذه الجبهة ، وتفاعلت مع نظيرتها في دير الزور السورية ، وكذا الأمر، لتتلاقيا مع جبهتي راوة وعانة والقائم في الأنبار العراقية وتلعفر في محافظة نينوى أيضاً ؟
بكلماتٍ معدودة ، الصراع اليوم وغداً ، و في أرض الشمال تحديداً ، لهو صراع الحصار ، والبحث عن الإنتصار في حرب الوكلاء الجدد ، وذلك قبيل اشتعالها بعد وراثة داعش في كل من سوريا والعراق على حد سواء .
باحث وكاتب سياسي
بيروت في 29-10-2016