البحر الأسود في الحسابات الجيواستراتيجية
صحيفة البعث السورية-
ريا خوري:
بعد عقود من نسيان الدول الغربية للبحر الأسود واستبعاده من حساباتها الجيواستراتيجية، عاد هذا البحر بموقعه المهمّ ليتصدّر مجدداً اهتمام العواصم الغربية الكبرى التي بدأت تعمل بشكلٍ متسارع على تعزيز حضورها العسكري والاقتصادي في مياهه وأجوائه عبر سفنها الحربية وغواصاتها النووية وطائراتها المقاتلة. هذا السلوك أدّى إلى تصاعد التوتر بين روسيا والغرب بسبب العديد من الأزمات المفتعلة ومنها الأزمة الأوكرانية، وكردّ فعل سلبي أيضاً من دول مثل فرنسا وبريطانيا على الحضور الروسي القويّ والمتزايد في البحر الأبيض المتوسط الذي ينظر إليه الغرب الأوروبي على أنه يمثل جزءاً من مجال نفوذه الجيواستراتيجي التاريخي بسبب امتلاك عدد لا بأس به من دول أوروبا الغربية لحدود بحرية على مستوى الضفة الشمالية للبحر المتوسط.
على الرغم من أنّ البحر الأسود لا يتمتّع بالأهمية نفسها التي يتمتّع بها البحر الأبيض المتوسط أو بحر الصين الجنوبي، فإن الصراع الراهن الدائر بين القوى الكبرى يجعله يكتسي أهمية قصوى غير مسبوقة، وتحديداً منذ انهيار الاتحاد السوفييتي السابق، وانضمام دولتين من حوض البحر الأسود شبه المغلق إلى حلف شمال الأطلسي (الناتو)، الذي أصبح يقترب من روسيا من كل الجهات.
لقد شهد البحر الأسود خلال السنوات القليلة الماضية الكثير من التوترات المتصاعدة، من خلال تأثير دول حلف الناتو على عدد من الدول المطلّة على البحر الأسود، ولاسيما بلغاريا ورومانيا، وأوكرانيا. كما وضعت الولايات المتحدة في مخططاتها العدائية ضد روسيا مراقبة منطقة أوراسيا التي لا يمكن أن تتمّ بمعزل عن التحكم بالبحر الأسود الذي يعتبر أحد المسارات الطبيعية المهمة جداً التي تربط بين قارتي آسيا وأوروبا، إذ يشكل البحر الأسود همزة وصل بين مناطق عديدة ذات أهمية جيواستراتيجية مثل البلقان في الجهة الجنوبية الشرقية من القارة الأوروبية، والقوقاز الذي يربط بين منطقة الشمال في الحدود الفاصلة بين قارتي أوروبا وآسيا، وآسيا الصغرى، الأمر الذي يجعل من البحر الأسود ملتقى طريق مهماً جداً للتجارة الدولية، ومنطقة للمنافسة وللالتقاء بين شعوب وثقافات متعدِّدة سبق لها أن دخلت في نزاعات وصراعات دامية من أجل الحفاظ على مصالحها الوطنية والقومية.
إذاً، من الواضح أن الولايات المتحدة تستعمل حلف الناتو كذراع عسكرية متقدمة في أوروبا، بهدف احتواء ما تراه توسعاً روسياً، ليس فقط على مستوى الحدود الشرقية لأوروبا الغربية في دول البلطيق وبولندا وبالقرب من الأراضي الأوكرانية، ولكن أيضاً على مستوى البحر الأسود نفسه الذي تضاعفت رهاناته بالنسبة للغرب الأوروبي بعد أن أصبح جزءاً مهماً وأساسياً من مشروع الصين الخاص بطريق الحرير الدولي.