الانتخابات التشريعية في سوريا… قراءة أخرى

موقع قناة الميادين- 

شاهر الشاهر:

تعاملت الحكومة السورية مع الانتخابات بأنها ناجحة لمجرد قيامها، والقدرة على تنفيذها، وإفشال كل المحاولات الخارجية الهادفة إلى الحيلولة دون تحقيقها.
شهدت سوريا قبل أيام انتخابات تشريعية هي الرابعة منذ بدء الحرب على سوريا في العام 2011. كانت سوريا حريصة على أن تتم تلك الانتخابات في وقتها، باعتبارها استحقاقاً دستورياً يعكس هيبة الدولة وفاعليتها وقدرتها على القيام بواجباتها.

جرت تلك الانتخابات في الأعوام (2012-2016-2020)، في ظل واقع أمني صعب في بعض المناطق، أدى إلى ضعف المشاركة الشعبية فيها ووصول أعضاء إلى مجلس الشعب لم يكونوا على قدر كبير من المسؤولية.

ولأن السياسة هي “فن الممكن”، فقد تعاملت الحكومة السورية مع الحدث بأنه ناجح لمجرد قيامه، والقدرة على تنفيذه، وإفشال كل المحاولات الخارجية الهادفة إلى الحيلولة دون تحقيقه.

ما يميز هذه الانتخابات أنها جاءت في الوقت الذي تعيش سوريا بداية لمرحلة جديدة عنوانها إعادة الإعمار وتجاوز مخلفات الحرب.

مخلفات الحرب لم تكن على الصعيد العسكري والأمني فقط، بل أثرت وبشكل كبير على الواقع الاقتصادية، وأنتجت عدداً كبيراً من تجار الحروب وسماسرة الأزمات.

تزاوج الاقتصادي والسياسي أصبح موجوداً في سوريا، لكنه لا يشكل ظاهرة بكل تأكيد، بل اقتصر على حالات يعرفها الجميع ويتداولونها في أحاديثهم اليومية.

انشغال الحكومة بالوضع الأمني باعتباره أولوية والحاجة إلى تأمين احتياجات المواطن وتجاوز العقوبات المفروضة على سوريا وغيرها من الأسباب أدت وبشكل كبير إلى ظهور بعض “الفقاعات” الشاذة التي بدأت مرحلة إنهائها، كما يبدو.

تلك الحالات “الشاذة” تمثلت بظهور عدد من رجال الأعمال الجدد الذين استطاعوا تبوؤ مواقع سياسية هامة، ومنهم من وصل إلى قبة مجلس الشعب، سعياً إلى الحصانة التي يتمتع بها أعضاء مجلس الشعب، بصفتهم ممثلين للشعب السوري، وهو حق يكفله الدستور.

استطاع العديد من هؤلاء نسج شبكة علاقات مكنتهم من عرقلة الإجراءات المراد اتخاذها بحقهم، وخصوصاً رفع الحصانة عنهم، ليتسنى للجهات القضائية الشروع بالتحقيق معهم، ليكون الحكم القضائي هو الفيصل في إدانتهم أو تبرئتهم من الاتهامات الموجهة إليهم.

بعض هؤلاء لم يكونوا من البعثيين، لكنهم حظوا بدعم عدد من زملائهم البعثيين أعضاء مجلس الشعب، الذين امتنعوا عن التصويت على إجراءات رفع الحصانة، وهو ما اعتبر دفاعاً عن الفاسدين أو عرقلة للإجراءات القضائية.

تلك الحادثة لم تمر دون محاسبة من قيادة البعث الجديدة، التي بدا العنوان العريض لعملها بعد انتخابها هو “محاربة الفساد” ومحاسبة الفاسدين واتخاذ إجراءات تنظيمية بحق أعضاء مجلس الشعب من الرفاق البعثيين الذين لم يصوتوا على القرار.

تلك الإجراءات حظيت بارتياح كبير لدى القواعد الحزبية، وأعادت الثقة بالدور المنتظر لحزب البعث في تجاوز الأخطاء وتصحيحها، باعتباره الحزب الحاكم لسوريا والمسؤول عن هذه المرحلة بإيجابياتها وسلبياتها، مع الإشارة هنا إلى أن العديد من الرفاق البعثيين أعضاء مجلس الشعب الذين تمت معاقبتهم تنظيمياً من قبل قيادة الحزب، وبالتالي حرمانهم من الترشح لدورة انتخابية ثانية، لم يكونوا بالضرورة متورطين بالفساد أو مدافعين عنه، لكنهم لم يلتزموا بالخط العام للحزب وتوجهات قيادته في تسهيل الإجراءات القضائية لتطال كل من يشتبه بتورطه في الفساد.

قبول هؤلاء لقرار القيادة والتزامهم به ومباركتهم قوائم الوحدة الوطنية دليل انضباط ووعي سياسي ومؤشر على نضج سياسي قائم على مناقشة القرارات الحزبية في المكان الصحيح، لا عبر مواقع التواصل الاجتماعي بكل تأكيد.

ما الذي ميّز هذه الانتخابات عن غيرها؟
لم تكن هذه الانتخابات كغيرها بكل تأكيد، فقد سبقها حراك انتخابي على مستوى الحزب الحاكم في سوريا (حزب البعث العربي الاشتراكي).

هذا الحراك نتج منه انتخاب قيادة مركزية جديدة للحزب بنسبة تغيير وصلت إلى 100%، بمعنى أنه لم يبق أي عضو من أعضاء القيادة السابقة، في مؤشر واضح على تقصيرها وعدم رضا القواعد الحزبية عنها.

كما جرى انتخاب لجنة مركزية للحزب ضمت في صفوفها عدداً كبيراً من الكفاءات الشبابية، والخبرات التي تتمتع بسمعة حسنة.

وصدرت مراسيم بتسمية عدد من المحافظين، في إشارة إلى موجة تغييرات عامة تشهدها سوريا كانت بدايتها من الحزب، ولن تكون نهايتها بتشكيل حكومة جديدة بكل تأكيد، بعدما أصبحت الحكومة الحالية “حكومة تسيير أعمال” بحكم الدستور.

ما حدث من تغييرات، عنوانه العام محاربة الفساد، ومحاولة تحييد المال السياسي قدر الإمكان، وهو ما كان جلياً في انتخابات مجلس الشعب.

لم تجرِ الانتخابات في بيئة “سليمة بالمطلق” بكل تأكيد، ولم تصل نتائجها إلى سقف طموح المواطن ورغباته، لكنها حققت تقدماً في طريقة وصول أعضاء المجلس إلى قبة البرلمان، وبالتالي علينا أن نتوقع دوراً قادماً مختلفاً عما كان عليه دور مجلس الشعب في الماضي.

قوائم الوحدة الوطنية كانت مختلفة هذه المرة، وخصوصاً بالنسبة إلى قوائم البعث، إذ وصل هؤلاء عبر انتخابات جرت، ولم تشأ قيادة البعث التغيير فيها، إلا للضرورة القصوى، في إرادة منها لتحميل القواعد الحزبية مسؤولية خياراتها، من دون التهرب من مسؤوليتها في معالجة بعض الثغرات، لجهة تمثيل المرأة والعنصر الشبابي وغيرها من الشرائح التي تعبر عن أطياف المجتمع السوري.

المشاركة الشعبية الواسعة في الإقبال على الانتخابات عكست وعي المواطن السوري، وإيمانه بأن صوته سيكون فارقاً في صياغة مستقبل سوريا.

أدت الحرب والهجرة إلى تراجع كبير في أعداد الشباب في سوريا، وترافق ذلك مع ارتفاع نسبة تمثيل الشباب في قوائم الجبهة الوطنية، وهو أمر إيجابي بكل تأكيد.

مشاركة الشباب، وخصوصاً طلاب الجامعات، كانت تعبيراً عن حالة النضج السياسي الذي وصل إليه شبابنا، ومعبراً عن فاعلية المنظمات الشبابية، وعلى رأسها الاتحاد الوطني لطلبة سوريا.

الرقابة القضائية كانت حاضرة وبقوة، وهو ما تجسد بالشفافية والانفتاح على الإعلام وتقديم إجابات واضحة وصريحة من قبل اللجنة القضائية العليا المشرفة على الانتخابات.

مشاركة السيد رئيس الجمهورية في الانتخاب، والتصريحات التي أدلى بها لوسائل الإعلام، عكست حالة الارتياح لديه حول مستقبل سوريا وعودتها لأداء دورها التاريخي الذي ينتظره الجميع.

الدور المنتظر من مجلس الشعب
لطالما كانت هناك نقاشات وحوارات حول الدور المراد لمجلس الشعب: هل هو دور تشريعي أم تمثيلي؟

في الحقيقة، يقوم مجلس الشعب بكلا الدورين معاً، وهو ما يفسر وجود نخب سياسية وكفاءات علمية وخبرات قانونية، إلى جانب عدد من شيوخ العشائر وممثلين عن جميع شرائح وأطياف المجتمع السوري.

كان من مقررات المؤتمر القطري العاشر لحزب البعث العربي الاشتراكي الذي عقد في العام 2005، إحداث مجلس للشيوخ في سوريا. وكان من المقرر أن يكون هناك شيخان كممثلين عن كل دائرة انتخابية في سوريا، يتم تعيينهم من الكفاءات والتكنوقراط وذوي الخبرات القانونية، ليتولوا سلطة التشريع وصياغة القوانين.

لم يلقَ هذا المقترح طريقه ليكون موجوداً على أرض الواقع، وهو ما نتمنى حدوثه في قادم الأيام، وخصوصاً أن معظم القوانين كانت تجري صياغتها من قبل السلطة التنفيذية (الحكومة)، فيما يقتصر دور مجلس الشعب على مناقشتها والموافقة عليها لتصبح قانوناً.

تفعيل الدور الرقابي لمجلس الشعب بات ضرورة، لكن الأدوات المتاحة بين يدي أعضاء مجلس الشعب لا تزال قليلة، وهو ما يمنعهم من ممارسة هذا الدور.

رفع سقف التوقعات يأخذنا إلى حالة من الإحباط مستقبلاً، لكن المؤشرات تقول إن الدور التشريعي الرابع سيكون دوراً فارقاً في تاريخ هذه المؤسسة.

شخصيات هامة وكفاءات وطنية استطاعت النجاح في هذا الدور، مع الإقرار بوجود بعض الشخصيات التي هناك شبه إجماع على سوئها وفسادها، لكن عددهم قد لا يتجاوز أصابع اليد الواحدة.

المال السياسي لم يكن حاضراً بقوة، لكنه لم يغب بكل تأكيد، مع الإشارة إلى أن نجاح عدد من رجال الأعمال والأثرياء ليس نابعاً بالضرورة عن توظيفهم للمال السياسي، لكنه تعبير عن حضورهم الاجتماعي، وارتباط مصالح الكثير من المواطنين بهم، والمصالح التي يحققونها من خلالهم.

المنافسة بين رجال الأعمال اقتصرت على دمشق، وكان النجاح للأقوى والأكثر بذخاً، وخصوصاً أن هؤلاء نظموا نفسهم ضمن قائمتين متنافستين، وهي نتيجة طبيعية وظاهرة عامة ولا تقتصر على الحالة السورية فقط، مع التأكيد على أهمية وجود رجال الأعمال الوطنيين الذين بقوا في سوريا ولم يغادروها بحثاً عن المزيد من الربح، وخصوصاً أن أبسط القواعد الاقتصادية تقول إن رأس المال جبان، ولا يحب المخاطرة.

لم تتضمن قوائم الوحدة الوطنية رجال أعمال ولا حتى أثرياء، وهذا أمر طبيعي يأتي انسجاماً مع كون حزب البعث هو حزب العمال والفلاحين، أولاً وقبل كل شيء.

قوائم الوحدة الوطنية لم تكن بالمستوى ذاته، إذ ترك لباقي الأحزاب المتحالفة مع حزب البعث العربي الاشتراكي الحرية في اختيار مرشحيها، وفقاً لما ارتأته قيادات تلك الأحزاب التي لم تسلك السلوك الانتخابي في اختيار مرشحيها.

غياب البرامج الانتخابية ظاهرة يمكن تعميمها على جميع الأحزاب والقوائم الانتخابية، وكان لافتاً عدم القدرة على التمييز بين البرنامج الانتخابي والشعارات.

الولاءات العشائرية والانتماءات الأسرية والقبلية كانت حاضرة وبقوة في بعض المحافظات، وهي ظاهرة غير صحية بكل تأكيد، وتنم عن انغلاق وتفكير ينتمي إلى “ما قبل الدولة”، لكنها بقيت ظاهرة محدودة، واقتصرت على بعض المرشحين المستقلين.

رغم الزيادة الكبيرة في عدد الإناث في سوريا، فإنَّ قوائم الوحدة الوطنية شهدت تراجعاً في نسبة تمثيل المرأة في مجلس الشعب، وضمّت 20 امرأة فقط من أصل 184 عضواً. كما أن المرأة لم تمثل في محافظتي القنيطرة والسويداء، رغم فوز البعض بالاستئناس، وفي مراكز متقدمة.

وجود بعض الأسماء ضمن قوائم الوحدة الوطنية لثلاث أو أربع دورات، أو ربما أكثر، لم يلق قبولاً كبيراً، وخصوصاً أن هؤلاء لا يتمتعون بما يمكن أن يجعل منهم “أعضاء خارقين”، وبالتالي لا يمكن الاستعاضة عنهم.

بقيت الإشارة إلى تضافر جهود كل المؤسسات والجهات الحكومية والأحزاب من أجل إنجاح هذه العملية والنفقات الكبيرة التي ترتبت عليها، وهو ما يجعلنا نشير إلى أهمية الابتعاد عن اختيار الناجحين في الانتخابات لأي موقع إداري أو تنفيذي أو حزبي يترتب عليه تركهم موقعهم في مجلس الشعب، ومن ثم ضرورة إجراء انتخابات جديدة لترميم المقعد الشاغر، لما يترتب على ذلك من أعباء مالية كبيرة يمكن توجيهها إلى قطاعات أخرى هي أولى بها بكل تأكيد.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.