الإمبراطورية المتوحّشة
صحيفة البناء اللبنانية ـ
د. عدنان منصور:
لم يشهد العالم سياسات تعسفية مستبدّة حيال دول وكيانات ومسؤولين ومؤسسات وشركات وأفراد، كالسياسات الحالية التي تتبعها الولايات المتحدة الأميركية. لقد سبق في الماضي للعديد من دول العالم، أن عانت على مدى قرون، من طغيان واستبداد الاستعمار المتمثل حينها ببريطانيا وفرنسا والبرتغال وهولندا، والتحكم بمصير شعوبها، واستغلالها البشع لخيراتها وثرواتها، والإمعان في إبقائها أسيرة الفقر والجهل والتخلف والمرض، واستباحتها لأراضيها ورعايتها وتأجيجها للفتن والتفرقة والأحقاد داخلها، إلا أن الولايات المتحدة، تجاوزت وتفوقت كثيراً على الأساليب والسلوك الذي مارسه الاستعمار، من خلال هيمنتها وتسلطها وقراراتها الظالمة والعقوبات الأحادية الجانب، والانقلابات العسكرية التي نفذتها أجهزة مخابراتها للإطاحة بالأنظمة الوطنية المعارضة لسياساتها ونهجها، واستبدالها بأنظمة دكتاتورية فاسدة تسير في ركاب مصالحها الاستراتيجية.
واشنطن في تعاطيها مع قضايا الشعوب والدول، كانت دائماً في موقفها، طرفاً منحازاً لجهة دون أخرى، حتى لو كان موقفها هذا يصطدم بالشرعية الدولية، ويخالف قرارات الأمم المتحدة ويتناقض مع القانون الدولي، ومن دون أن تتردد في الانسحاب من هيئات ومنظمات واتفاقيات منضمّة إليها لا تتماشى مع مصالحها.
فمنذ وصوله إلى السلطة وسلوك الرئيس ترامب العدائي والتصادمي حيال دول في العالم لم يتوقف، سلوكٌ لم يخلق للولايات المتحدة إلا المتاعب عدا الكراهية من قِبَل أعدائها والاشمئزاز والانتقادات من حلفائها.
وما الشرق الأوسط، والعالم العربي، إلا النموذج الحي للأداء الشرس، والممارسات الظالمة التي تلجأ إليها الإدارة الأميركية، وهي تتعاطى مع قضاياه ومشاكله بعنجهية وتحدٍ لا مثيل له، معتبرة نفسها أنها القوة الأحادية المؤثرة والمهيمنة والمتحكمة بهذا العالم، والتي باستطاعتها أن تأمر وتُطاع، تهدد ولا تنصاع، تفرض ما تريده وتحقق منه المراد.
عقوبات تلو عقوبات، وحصار يتبعه حصار، وإجراءات تتخذ طريقها في كل اتجاه: من الصين، إلى روسيا وإيران وسورية وفنزويلا وكوبا ونيكاراغوا وغيرها، تطال دولاً وأفراداً وشركات وكيانات عسكرية ومدنية، وتهديد للدول الحليفة لها وشركاتها وأفرادها، بفرض العقوبات عليها وعدم التعامل معها، فيما لو خالفت إرادتها، وسلكت طريقاً مغايرة لسياسة العقوبات التي تنتهجها وتطبقها على هذه الدول.
دولة آثرت وحتى إشعار آخر، أن تتحكم بمصير دول العالم، دون الاكتراث بها، معتمدة على قوتها الاقتصادية والعسكرية والمالية والتكنولوجية والعلمية الهائلة، وعلى شبكة الإعلام والمصارف العالمية وقواعدها العسكرية المنتشرة في القارات الخمس، بينما العالم لم يستطع حتى هذه اللحظة، الخروج من دائرة الهيمنة، وكسر احتكار الولايات المتحدة للعملة العالمية الدولار رمز الهيمنة الأميركية على الساحة الاقتصادية والمالية العالمية، حيث وجدت فيه دول العالم نفسها مضطرة على التعامل به بإرادتها أو دون إرادتها.
لم تتمكن البريكس، ولا المنظمات الدولية الأخرى، أن تكسر التحدي الأميركي، وتتجاوزه أو تطوّقه. كما أن الدول الكبرى كالصين وروسيا والهند والاتحاد الأوروبي واليابان والبرازيل وغيرها لم تستطع تجاهل العقوبات التي تلوّح بها واشنطن، لفرضها عليها فيما لو خرقت العقوبات المفروضة على إيران وسورية وروسيا وكوريا الشمالية وفنزويلا… هكذا رأينا الشركة الفرنسية توتال تنسحب رغماً عنها رسمياً من عقد تطوير المرحلة 11 من حقل بارس الغازي المشترك مع قطر بقيمة 4،8 مليار دولار، حيث كانت حصة توتال من العقد تبلغ 50،1 بالاشتراك مع الشركة الصينية سي.ان.بي.سي CNBC وتملك 30 والشركة الوطنية الإيرانية بترو بارس التي تملك الحصة الباقية 19،9 . ولم يقتصر الانسحاب على توتال، بل تبعتها بعد ذلك الشركة الصينية لتنسحب من المشروع تجنباً للعقوبات الأميركية. كما شمل الانسحاب أيضاً شركات أوروبية أخرى، كشركة بيجو التي أوقفت صادرات سياراتها إلى إيران وتصنيعها فيها. والحال ينطبق على شركة ايرباص التي جمّدت مبيعات بيع طائرات لطهران. كما أن الاتحاد الأوروبي بكل حجمه، لم يستطع أن ينأى بنفسه عن سياسات واشنطن حيال إيران، رغم أنه انتقد العقوبات، ولم يتجاهل الالتزام المبدئي بها.. إلا أنه فشل حتى الآن في إيجاد آلية وعد بها طهران للسير معها حفاظاً على ماء وجهه والتزامه ببنود الاتفاق النووي الإيراني. لكنه ظل أسير القرارات الأميركية التي لم يستطع أن يفلت منها، بغية إيجاد آلية للأزمة تضمن احترامه لموجبات الاتفاق النووي وبنوده، من خلال خريطة طريق تسهل الإجراءات والتبادلات التجارية والمعاملات المالية بينه وبين إيران.
يبدو أنه من المبكر، الحديث عن كسر الطوق الأميركي، وإن كانت العقوبات الأميركية بحق طهران ودول أخرى وهيئات وكيانات لن تحقق غاياتها وأهدافها الكاملة، إلا أن هذه العقوبات تنال من مكانة وهيبة دول كبرى في العالم كالصين وروسيا والهند والاتحاد الأوروبي واليابان، وتمسّ مباشرة بسيادة هذه الدول، وتكشف في مكان ما ضعف وعدم استطاعة هذه الدول أن تمتلك قرارها السيادي المستقل، طالما أنها ترى نفسها في وضع حرج لا يمكنها الإفلات من تبعات ما قد تتعرّض له من عقوبات تترك تداعياتها الخطيرة عليها فيما لو تمرّدت على الإرادة الأميركية وقررت عدم الالتزام بها.
إن العالم أمام أمر واقع مرّ، لا بد من تغييره، ووضع حد للعنجهية الأميركية وقوتها الغاشمة المستبدة، التي لا ترى في هذا العالم وهي تتعامل مع دوله إلا مصلحتها فقط وإن جاءت على حساب حقوق الآخرين.
لقد ابتلي العالم، عندما قُيّض للولايات المتحدة أن يأتي على رأسها رجل متطرف هائج متهور، ضرب عُرض الحائط بالاتفاقيات والقوانين الدولية وحقوق الدول والشعوب وأساء إلى حريتها ووحدتها. وما أفغانستان وسورية والعراق وفلسطين واليمن وليبيا وأميركا اللاتينية وأفريقيا، إلا النماذج الواضحة على سلوك الولايات المتحدة وما تقترفه بحق شعوبها وأنظمتها، وما تلحقه بها من ويلات وحروب ودمار ومآسٍ وفوضى وتمزيق لنسيجها الوطني والقومي.
لقد استطاع الاستعمار البريطاني والفرنسي في بدايات القرن العشرين، أن يقسم العالم العربي، لا سيما المنطقة المشرقية منه، إلى دول رسمت حدودها اتفاقية سايكس بيكو، إلا أن المنطقة المشرقية رغم ذلك، ظلت تحافظ على هويتها القومية والعربية، وتتطلع دوماً إلى وحدتها من جديد. لكن الولايات المتحدة اليوم تعمل مع ركيزتها «إسرائيل» إلى تفتيت المنطقة المشرقية، لمحو طابعها العربي القومي والتاريخي والثقافي، وذلك بتحريض وتأجيج ودعم القوميات والأعراق في كل دولة، حتى تكون المنطقة محكومة بدويلات عرقية وقومية وطائفية ومذهبية، وكيانات هزيلة متناحرة في ما بينها: هذا كيان عربي وآخر كردي أو تركماني/ وذاك كيان مذهبي سنّي أو شيعي أو علوي أو درزي أو مسيحي أو شركسي أو أزيدي، ومن ثم تقطيع الأوصال بين كل كيان وكيان، ومنطقة وأخرى.
فأي مصير تريده واشنطن لمنطقة الشرق الأوسط، وبالتحديد لمنطقة غربي آسيا؟!! وما الذي تستطيع دول المنطقة أن تفعله لبتر أذرع الأخطبوط الأميركي، الذي يعمل على كسر إرادة الشعوب المقاومة الرافضة لسياساتها المتبعة حيالها، انطلاقاً من طهران، مروراً بقوى المقاومة للمشروع الأميركي في العراق وسورية ولبنان وفلسطين واليمن وغيرها؟!!
ليس هناك من خيار غير خيار إرادة الصمود والمقاومة للمشروع الأميركي، مهما كانت التكلفة غالية وباهظة. بها تستطيع المنطقة مواجهة سياسات واشنطن وإحباطها في مهدها، وتصحح المسار، وتفشل ما تحضّره من مؤامرات، على رأسها صفقة القرن وأخواتها.
لقد درجت الولايات المتحدة في السنوات الفائتة على تصنيف دول في العالم على أنها دول مارقة… لكننا نتساءل اليوم ونحن أمام ما تفعله الولايات المتحدة من ممارسات الإرهاب السياسي والاقتصادي والمالي والإعلامي والأخلاقي بحق الدول المعارضة لهيمنتها وتسلطها، ألا يجعلها تجسّد بعمق صفات وسلوك الدولة المارقة في العالم؟!!
وزير خارجية سابق.