الإعلام المقاوم والرواية الإسرائيلية.. بين النقل والعقل
موقع قناة الميادين-
محمد هلسة:
يعتمد الإعلام الإسرائيلي ازدواجية معايير واضحة في تغطيته الأحداث في فلسطين المحتلة، فيتناول العمليات الفلسطينية بوصفها أعمالاً “إرهابية”، من دون ربطها بواقع الاحتلال الذي يعيشه الشعب الفلسطيني.
يعتمد الإعلام الإسرائيلي في تغطيته الشأن الفلسطيني، وتحديداً عقب ازدياد وتيرة المقاومة وتسارع الأحداث، إستراتيجيةً تهدف إلى لوم الضحية الفلسطيني وشيطنة رد فعله، من خلال سياقات انتقائية تبرز رواية الاحتلال وتغيّب رواية الضحية الفلسطيني، فهو يتجاهل العدد الكبير من الخسائر والضحايا الفلسطينيين الذين يستهدفون برصاص “جيش” الاحتلال والمستوطنين.
غالباً ما تتلقّف وسائل الإعلام الإسرائيلية من دون تدقيق، وبتنسيق تام، روايات “جيش” الاحتلال التي تجرّم الضحية الفلسطيني وتشوه نضاله. ولعل الشواهد على ذلك لا تحصى في مواقف كثيرة اتُهم، وربما قتل فيها، فلسطينيون بذريعة تنفيذ عمليات “إرهابية” متعمَّدة، ثم تبين لاحقاً أنها حوادث عمل أو حوادث طرقات عادية.
يعتمد الإعلام الإسرائيلي كذلك ازدواجية معايير واضحة في تغطيته الأحداث، فيتناول عمليات المقاومة الفلسطينية ضد الاحتلال بوصفها أعمالاً “إرهابية” تستهدف “إسرائيل”، من دون ربطها بواقع الاحتلال الذي يعيشه الشعب الفلسطيني.
وتعج التقارير والتغطيات الإعلامية الإسرائيلية بأنماط التحريض والعنصرية التي يتم التعبير عنها في أقسام الأخبار ومقالات الرأي والأعمدة الشخصية، فوسائل الإعلام الإسرائيلية هي أداةٌ من أدوات الاحتلال التي تحاول تبرئة “إسرائيل” وتشويه صورة الفلسطينيين والعرب.
في الواقع، لا يمكن فصل الصّحافة الإسرائيلية عن المزاج العام في الشارع الإسرائيلي، فهي تتأثر به وتؤثر فيه، وتتحول في الأزمات والحروب إلى ناطق عسكري باسم “الجيش” والأمن، وتبدأ بالنفخ في أبواق الحرب، وتكرّس نفسها لخدمتها، ويعمل الإعلام تبعاً للأهداف التي يريدها أمن الاحتلال.
ومن المفارقات التي تعكسها تغطية وسائل الإعلام الإسرائيلي كذلك أنَّ مختصي الشؤون العربية والفلسطينية فيها يؤدون دوراً مهماً في إستراتيجية “هندسة الوعي” التي تعتمدها، من خلال علاقتهم بالأمن أو عبر انتمائهم إلى تياراتٍ دينية قومية لا تخفي فاشيتها تجاه الفلسطينيين.
ولأنّ الكلمات لها قوّتها وتأثيرها في القارئ والمستمع والمشاهد، ولها عواقبها المتوقعة على مستوى فهمنا “للمجتمع” الإسرائيلي وإدراك كيفية التعاطي معه ومواجهته، فإن إثارة نقاشٍ حول موضوع تأثر الخطاب الإعلامي العربي المقاوم بالرواية الإسرائيلية يكتسب أهمية بالغة في ظل مخاطر النقل الأعمى عن الإعلام الإسرائيلي “القص واللصق”، والعواقب الوخيمة لتبني الرواية الإسرائيلية من دون تمحيص أو تدقيق.
مع استمرار المواجهة مع “إسرائيل”، تتجند وسائل الإعلام العربية والفلسطينية المقاوِمة للقتال ضدها وضد روايتها، متسلحة بفهمٍ واعٍ لدور الإعلام المقاوم ومساهمته في عملية “بناء الوعي الوطني” في إطار الفضاء الإعلامي العالمي المتنوع.
لذلك، فإننا بحاجة إلى إستراتيجية إعلامية وطنية جديدة تخدم احتياجاتنا ونضالنا الوطني، وتتابع ما يحدث في “إسرائيل”، وتحلل وتنتقد الأخبار والروايات الكاذبة التي ينشرها الاحتلال، وتعطي مساحة للقراءة النقدية المتشككة “دائماً” في الرواية الإسرائيلية.
تزخر العديد من وسائل الإعلام العربية على اختلاف أنواعها بأقسامٍ تعالج الشأن الإسرائيلي، تُنشَر فيها مقالات من الصحف الإسرائيلية ومقتطفات من الإعلام الإسرائيلي. وعادةً ما تكون مقالات رأي وتعليقات وتحليلات مهنية تترجَم إلى العربية بهدف تسليط الضوء على مختلف الجوانب الأيديولوجية والسياسية للمجتمع الإسرائيلي.
يعتمد الصحافيون الفلسطينيون والعرب بشكلٍ واسع على مواد من وسائل الإعلام الإسرائيلية، لاعتبارات مختلفة، منها أن الصحافيين الإسرائيليين يمكنهم التغطية من الضفة الغربية، فيما لا يسمح للكثير من الصحافيين الفلسطينيين بدخول “إسرائيل”.
وتحدّ “إسرائيل” من نطاق عمل وسائل الإعلام الفلسطينية، وتلاحق المحطات الإذاعية وتغلقها، وتصادر معدات البث بذرائع أمنية، وتعتقل الصحافيين الذين يعبّرون عن أنفسهم بطريقة لا تراها مناسبة. وعادةً ما يسمح الأمن الإسرائيلي بنشر معلومات محدودة في سياقات معينة تخدم مآربه في هندسة الأحداث.
ورغم معرفتنا بمقدرة الإعلاميين الإسرائيليين على الحصول على المعلومات وتحليلها وتقديم “الأدلة”، فإنّنا نعاني من عقدة “تفوق” الخبر إذا ما جاء من مصدرٍ إسرائيلي، كما يتعامل الكثير من الفلسطينيين والعرب مع التقارير الإسرائيلية المتعلقة بالحالة الفلسطينية بـشيء من “القداسة”، رغم عدم وجود منطق في تبني وجهة النظر الإسرائيلية في ما يصدر عنها.
كذلك، يميل كثيرٌ من الصحافيين الفلسطينيين والعرب إلى “إعادة تدوير” الرواية الإسرائيلية من دون بذل أي جهد لدعم التفسير الفلسطيني للأحداث، ومن دون تفكيرٍ في مخاطر مثل هذا “النسخ والنقل” أثناء اشتداد الأحداث والمواجهات، وغالباً ما يكتشفون لاحقاً كذب الرواية الإسرائيلية التي اعتمدوا عليها.
يجد الإعلام العربي نفسه اليوم أمام اختبار قدرته على تغطية الأحداث التي تشهدها الأراضي الفلسطينية، والتي تتسارع وتيرتها، في ظل التعتيم الإعلامي الإسرائيلي وفقدانه مصادر المعلومات في الأحداث الساخنة التي يقع معظمها في أماكن يسيطر عليها “جيش” الاحتلال، ولا تتوفر غير مصادر إسرائيلية لتقدم الرواية من دون وجود طرف آخر محايد.
السؤال الذي يجب أن يستمر إعلامنا في طرحه عند التعاطي مع الرواية الإسرائيلية: لماذا نشر الاحتلال هذه “الرواية”؟ حتى يتجنَّب خدمة الغرض الخفي للإسرائيليين من نشر مثل هذه المواد الإعلامية.
ورغم توسع الإعلام الفلسطيني والعربي وازدياد عدد الإعلاميين الفلسطينيين والعرب الذين باتوا يتقنون اللغة العبرية وازدياد المواد الإخبارية المترجمة من العبرية إلى العربية، فإنَّ هذا لا يدلّ دائماً على جودة المادة المترجمة، بسبب غياب القراءة النقدية العربية لمحتوى الخبر، فتأتي الترجمة لتعكس دعاية الاحتلال وأجندته.
الترجمة الحرفية هي مشكلة يقع فيها الإعلام العربي، فكثيرٌ من المصطلحات التحريضية التي يستخدمها “جيش” العدو بهدف تشريع القتل ضد العرب والمسلمين، تستخدمه للأسف بعض المواقع الإخبارية العربية من دون التمحيص في دلالاته، ومن دون إدراك خطورة استخدامه.
وفي هذا السياق، دأبت “إسرائيل” على نشر العديد من التقارير غير الدقيقة عن الحالة الفلسطينية والحياة السياسية الفلسطينية، وعن أعمال المقاومة الفلسطينية التي تمت ترجمتها إلى العربية من دون تعليق أو نقد، كأنَّ الفلسطينيين بحاجةٍ إلى الإسرائيلي ليشرح للعالم أوضاعهم أو يتحدث في شؤون حياتهم!
ولا يجب أن يغيب عنا أن الإعلام الإسرائيلي “إعلامٌ أمني مجند” مرتبط بالأجهزة الأمنية الإسرائيلية، إذ يعمل جزءٌ من الإعلاميين في الأجهزة الأمنية أو تربطهم صلات مباشرة مع ضباط الأمن، فالفلسطينيون لا يثقون بوسائل الإعلام والصحافيين الإسرائيليين، من بين أمور أخرى، بسبب الخوف من استخدام قوات الأمن الإسرائيلية التوثيق الإعلامي أداةً للتعرف إلى المتظاهرين والمقاومين الفلسطينيين وملاحقتهم.
وعلينا أن لا ننسى اعتماد بعض وسائل الإعلام الإسرائيلية، وخصوصاً الإلكترونية، على الدعم الحكومي، والنتيجة الحتمية هي إعطاء الأولوية للاعتبارات السياسية والرغبة في إرضاء الحكومة الإسرائيلية التي تسعى إلى إخراج التغطية الإعلامية للقضية الفلسطينية من جدول الأعمال العام أو تحريفها بما يخدم الرواية الاستعمارية.
إنَّ التقارير الإسرائيلية عن الشأن الفلسطيني تُنشر “كالعادة” في وسائل الإعلام الفلسطينية والعربية من دون أي تأطير أو انتقاد، وتمنح أوصافاً من “الهالة” لقوة “الجيش” الإسرائيلي و”مهارة مقاتليه” و”سعة اطّلاع” الأجهزة الأمنية الإسرائيلية، وهي تصوراتٌ نمطية تتجاهل حقيقة أنَّ هذا ليس إلا جزءاً من حرب “إسرائيل” على الوعي العربي، وأن هناك آلاف الشواهد على قدرة العرب والفلسطينيين على إحداث اختراقات مهمة في هذه الجبهة الإسرائيلية “المنفوخة”.
إنَّ منطلق عمل الإعلام الإسرائيلي هو أن مهمة التغطية الإعلامية في حالة “الصراع القومي” هي تبنّي روايات تعزز “استقامة نضالهم” وتضخّم سلبيات الطرف الآخر (العربي) وصفاته ونياته ومسؤوليته عن المعاناة المستمرة.
هذه هي الطريقة التي غطت بها وسائل الإعلام الإسرائيلية الصراع الإسرائيلي الفلسطيني منذ نشأته، فهي تكتب عن حالات الصراع والمواجهة، لكنها تتجنب التعامل مع خلفيتها وظروفها، ونادراً ما تشير إلى آراء الفلسطينيين أو مواقفهم، بل تسلط الضوء على عنصر “العنف والإرهاب كسلوك فلسطيني مستمد من العقلية العربية”، وعدم رغبتهم، أي العرب، في التوصل إلى تسوية، وعلى أنّ الإسرائيليين “ضحايا” لنزاع ليسوا مسؤولين عنه.
هذه أنماط تغطية تهدف إلى نزع الشرعية عن “الجانب الآخر” ونزع الصفة الإنسانية عنه، فهل نكون شركاء في ترويجها!
إنَّ للإعلام أهميتة الحيوية في أي مجتمع، وخصوصاً في أوقات الأزمات والصراعات، إذ توفر وسائل الإعلام استجابة لاحتياجات المجتمع المختلفة الإدراكية والعاطفية. من المفترض أن توفر وسائل الإعلام المقاوم المعلومات والتعليقات على ما يحدث، وأن توفر إجابة عن مخاوف المجتمع وتساهم في الاستقرار وحشد التضامن وتقوية الشعور بالوحدة الوطنية.
المطلوب هو أن تتصرّف وسائل الإعلام المقاوم وفق ما تمليه ظروف “حالة الصراع”. ورغم أننا ندرك أنَّ الإعلاميين الفلسطينيين والعرب لا يملكون معلومات دقيقة من داخل منظومة الاحتلال، فإن التصدي لرواية الاحتلال ممكن بما نملكه من ثقافة ووعي وطني ومعرفة بأساليبه؛ فنحن مع استمرار الترجمة والنقل، لكننا ندعو إلى الحذر من الترجمة الحرفية والاستعاضة عنها بـ”الترجمة التحقيقية” المتقَنة شرحاً وتعليقاً، لجعل النص المترجم متماشياً مع طبيعة نضالنا وحقيقته، وخالياً من الدس الإسرائيلي.
كما أنّنا ندعو إلى الاستفادة من الشبكات الاجتماعية التي أحدثت ثورة في التواصل والمعرفة، إذ تزود الإعلاميين بالكثير من المعلومات المباشرة، بما في ذلك التقارير ومقاطع الفيديو والأخبار، فليست هناك حاجة إلى الاعتماد على الرواية الإسرائيلية دائماً أو الخروج إلى الميدان والوصول إلى مكان الحدث للإبلاغ عنه ومقابلة شهود العيان.
في المقابل، ليست المشكلة في عرض “الرواية الإسرائيلية” في بعض وسائل الإعلام الفلسطينية والعربية، ولكن الخطر يكمن في عرضها كأنها الحقيقة المطلقة. لذلك، علينا أن نشجع العقليّة النقديّة في التعامل مع هذه المصادر.
وَحدَه الانتقاد والتأطير بالطريقة الصحيحة للتأكد من صحة الرواية الإسرائيلية وصدقها كفيل بأن لا نجد أنفسنا، من حيث لا نعلم، مجنّدين لتزييف الوعي والتاريخ العربي عبر الانسلاخ من الحقائق الدامغة لعذابات الشعب الفلسطيني الرازح تحت نير الاحتلال منذ عقود.