الإسلاميون العرب وأردوغان.. إستمرار التحالف وإستبعاد التصادم
صحيفة المنار الفلسطينية-
أحمد ثروت:
إشكالية صعبة وموقف شائك، يواجهه الإسلاميون العرب في علاقتهم بتركيا وتحالفهم مع حكومة الرئيس رجب طيب أردوغان، إثر السياسة الجديدة التي انتهجتها أنقرة مؤخرًا، بالتقارب والمصالحة مع بعض الأنظمة الإقليمية التي تعد أعتى أعداء تيار الإسلام السياسي في المنطقة وفي مقدمتها حكومات الإمارات ومصر والسعودية و”إسرائيل”.
وثمة تخوفات لدى قيادات وأنصار ذلك التيار، من أن تكون جهود ومساعي الحكومة التركية في التقارب مع خصومها في المنطقة، على حساب تضحية أو تخلي حكومة أردوغان عن دعم ومساندة الإسلاميين أو التوقف عن استضافتهم في إسطنبول التي يعدها البعض عاصمة الإسلاميين، في ظل احتضانها لأبناء التيارات الإسلامية من مصر وسوريا واليمن وفلسطين، وغيرهم.
لا يبدو أن الإسلاميين العرب سعداء بسياسات أنقرة الجديدة ومساعيها نحو ترميم علاقاتها المتدهورة مع أبو ظبي والرياض والقاهرة ومن قبلهم تل أبيب، لكن ليس في وسعهم الاحتجاج أو إبداء الاستياء والرفض لخطوات الرئيس التركي، فيلزم معظمهم الصمت والترقب حيال ما ستسفر عنه المحاولات التركية للتقارب مع خصومها وتصفية الخلافات والصراعات مع جيرانها، التي كان الإسلاميون ودعمهم أحد أهم أسبابها.
في المقابل لا يتوقع أن يلقي النظام التركي الساعي لإعادة بناء خريطة تحالفاته الإقليمية والدولية، بورقة الإسلاميين ويضحي بشركائه في المرجعية الأيدولوجية، وإنما تشير الإرهاصات والعديد من الخطوات والإجراءات إلى أن حكومة أردوغان الهادفة إلى التوزان في علاقاتها والشراكة مع الجميع، لن تمنح الإسلاميين العرب تلك الامتيازات التي طالما تمتعوا بها في إسطنبول وأن ثمة تقييد لحركتهم وأنشطتهم وتواصلهم مع بلادهم.
كلفة باهظة
يذهب كثير من المحللين إلى أن تركيا تحملت كلفةً باهظةً نتيجة تحالفها مع التيارات الإسلامية في المنطقة العربية، وأن دعم حكومة أردوغان للإخوان المسلمين في مصر ونظرائهم في ليبيا وتونس وسوريا واليمن وحركة حماس بفلسطين، أكسبها عداءً مريرًا مع الأنظمة العربية العتيدة، وأن تدهور علاقاتها مع “إسرائيل” انعكس على علاقتها بالولايات المتحدة، كما أن مساندتها للثورة السورية أدخلتها في أتون صراع مرير مع إيران وروسيا، وانتهى بها الحال إلى المعاناة من عزلة إقليمية ودولية وحرب إعلامية ضروس نالت من تركيا وقياداتها، فضلًا عن حملات شعبية وقفت وراءها بعض الحكومات لمقاطعة تركيا اقتصاديًا.
مناصرة حكومة حزب العدالة والتنمية للإسلاميين العرب في صراعاتهم المريرة مع النظم السلطوية، وللمقاومة الفلسطينية ضد “إسرائيل”، ثم استضافتها لرموز وقيادات وعناصر قوى الإسلام السياسي المطاردة، ومنحهم الجنسية وحرية الحركة والنشاط السياسي والإعلامي، أدى إلى توتر علاقات تركيا بمحيطها الإقليمي والدولي، ما انعكس سلبًا على الاقتصاد التركي، فبعد سنوات من النمو المطرد والتجربة الاقتصادية الرائدة لحكومة أردوغان، عانت البلاد من تراجع حاد في قيمة عملتها المحلية وتضاعف معدلات التضخم وانحسار الاستثمارات الأجنبية والسياحة الوافدة.
في المقابل فإن أنقرة لم تجن ثمارًا واضحةً وملموسةً من تحالفها مع الإسلاميين، إثر فشل ثورات الربيع العربي والسقوط المدوي والسريع لحكومات الإسلام السياسي في مصر وتونس وتحول ثورات اليمن وسوريا إلى حروب مريرة وترسخ الانقسام في ليبيا، فيما سقطت تباعًا حكومات الإسلاميين في السودان والمغرب، وتراجع دورهم في الأردن والجزائر والكويت، وتم تصنيفهم في خانة الأعداء والإرهابيين في السعودية والإمارات.
براغماتية تركية
لدى حكومة أردوغان من المرونة ما يكفي، ومن إعلاء مصالح أنقرة على ما دونها، ما يدفعها نحو الانتقال من النقيض إلى النقيض، ومن طي خلافاتها وصراعاتها مع خصومها على نحو سريع للغاية يتحول فيه عدو الأمس إلى صديق اليوم.
وفي عنفوان صراعاتها وذورة خلافاتها السياسية مع النظم الحاكمة في مصر والإمارات والسعودية، ظلت أنقرة حريصةً على أن تكون علاقاتها الاقتصادية والتجارية والاستثمارية قائمةً وقويةً ومتناميةً مع تلك البلدان، غير أن تلك العلاقات تأثرت بطبيعة الحال بالخلافات السياسية ولم تكن على النحو المأمول من حكومة أردوغان.
ويبدو أن الهدف الاقتصادي واضح للغاية في سعي أنقرة لاستعادة العلاقات الطيبة مع جيرانها في المنطقة، وأن تركيز أردوغان في المرحلة الحاليّة والمقبلة سينصب على الجانب الاقتصادي في المقام الأول، فيما سيتم تنحية الخلافات السياسية جانبًا حال عدم القدرة على تسويتها وإنهائها.
ورغم أن البعض يعتبر الإمارات رأس الحربة في الصراع مع قوى الإسلام السياسي في المنطقة وأنها وراء تدبير وتمويل التحركات التي أدت لسقوط حكمهم في مصر وتونس وغيرهما، فإن بناء شراكة جديدة بينها وبين تركيا جرى بسرعة مذهلة تجاوزت معضلة التحالف أو العداء مع الإسلاميين وركزت على الجانب الاقتصادي.
وفيما يبدو أن تركيا نجحت في تطبيع علاقاتها مجددًا مع “إسرائيل”، وتكررت الاتصالات الهاتفية بين قيادات البلدين ومعها الزيارات المتبادلة التي سيتم تتويجها بزيارة الرئيس الإسرائيلي إلى أنقرة الشهر المقبل، فإن ثمة تسريبات إعلامية متناقضة عن فتور العلاقة بين حكومة أردوغان وقيادات حركة المقاومة الإسلامية حماس، وعن مطالب “إسرائيل” بإغلاق مكاتب حماس بإسطنبول وترحيل قيادات وعناصر الحركة من الأراضي التركية.
وبينما تنفي قيادة الحركة الإسلامية أي تدهور لعلاقاتها بأنقرة وتصرح القيادة التركية بعدم تخليها عن القضية الفلسطينة، فإن ثمة تراجع ملحوظ في دعم حكومة أردوغان لقطاع غزة المحاصر، في ظل أحاديث -لا يوجد ما يؤكدها في الحقيقة- عن تضييق على أنشطة واتصالات قيادات وعناصر حماس في تركيا.
أما مصر، التي كان سقوط حكم الرئيس الراحل محمد مرسي عام 2013 أهم أسباب تفجر الخلافات التركية العربية، فإن أنقرة استجابت لمطالبها خلال المحادثات الاستكشافية بين البلدين التي شهدت جولتين سابقيتن، بإغلاق عدد من البرامج الإعلامية التي تنتقد النظام المصري الحاكم وتهدئة خطاب المنابر الإعلامية المصرية المعارضة بإسطنبول، في مقابل تراجع الهجوم الإعلامي على أنقرة من صحافة وفضائيات القاهرة.
في المقابل، فإن هناك تسريبات عن تعثر جهود المصالحة بين مصر وتركيا، بسبب تصاعد التوتر بين رئيس المخابرات المصري عباس كامل ونظيره التركي هاكان فيدان، بسبب رفض أنقرة تسليم أعضاء الإخوان المسلمين المقيمين في تركيا.
وبحسب صحيفة “إنتلجنس أونلاين” الفرنسية، المتخصصة في الاستخبارات، فقد تم تأجيل لقاء مخطط له، بعد اجتماعات سابقة في مايو/أيار وسبتمبر/أيلول من العام الماضي، إلى أجل غير مسمى، بسبب رفض المخابرات التركية مطالب السلطات المصرية، متعللة بأن معظم عناصر الإخوان المقيمين على أراضيها حصلوا على الجنسية التركية.
وفي ليبيا، بدأت جهود تركيا في التقارب مع بنغازي وسلطات الشرق الليبي تجني ثمارها، غير أن أنقرة ما زالت تحتفظ بتحالفها الإستراتيجي مع سلطات طرابلس القريبة من الإسلاميين.
ويتهم البعض حكومة أردوغان بالانتهازية واستغلال الإسلاميين كورقة ووسيلة في تحقيق أحلامها وأهدافها التوسعية في المنطقة، مؤكدين أن هزيمة وتراجع تيارات الإسلام السياسي في العالم العربي هو ما أجبر أنقرة على مجرد التراجع التكتيكي والسعي نحو التهدئة والمصالحة المؤقتة مع خصومها.
في المقابل فإن ثمة رؤية تشير إلى واقعية حكومة العدالة والتنمية وسعيها نحو البحث عن مصالح تركيا والقفز على خلافاتها وصراعاتها الإيدلوجية، لاستعادة علاقات متوزانة مع مختلف جيرانها، دون أن تفقد أصدقاءها وحلفاءها القدامى.
موقف الإسلاميين من سياسات تركيا الجديدة
يواجه الإسلاميون العرب سواء المقيمين داخل تركيا أم خارجها، معضلةً كبيرةً في تبرير سياسات أردوغان التصالحية مع أعداء التيارات الإسلامية سواء من النظم العربية أم “إسرائيل”.
وفيما يلتزم كثير من الإسلاميين الصمت إزاء خطوات الشراكات الإقليمية الجديدة لأنقرة ولا يحبذون التعليق أو التدخل في السياسة الخارجية لتركيا، فإن البعض منهم يناصر ويساند خطوات الرئيس التركي ويراها انتصارًا مبينًا لأنقرة وتراجعًا وهزيمةً لخصومها الذين قبولوا بالتصالح معها.
إلا أن المنتقدين من أبناء الإسلام السياسي المقيمين في تركيا لتطبيع تركيا مع الإمارات و”إسرائيل” وسعيها للتقارب مع مصر والسعودية، يجدون حرجًا بالغًا في التعبير عن تلك الانتقادات في ظل استضافتهم من حكومة أردوغان ومنح الجنسية التركية وحرية التنظيم والنشاط والحركة.
يدرك معظم الإسلاميين أن أمام أردوغان وحزبه معركة انتخابية مصيرية العام المقبل، وأن مساعيه التصالحية من أجل ترميم الاقتصاد المترنح تحت وطأة التضخم المتزايد وتراجع الليرة، وأنه ليس بوسعهم إلا القبول والرضا بسياسات وخطوات الحصن الأخير لهم، خشية أن يدفعهم سقوطه أو فشله في الانتخابات المقبلة نحو مصير مجهول.
هل تلعب أنقرة دور الوساطة؟
في العقد الأول من حكمها، وبناء على سياستها في تصفير المشاكل مع مختلف جيرانها، قادت حكومة حزب التنمية والعدالة جهود الوساطة في العديد من القضايا والملفات الساخنة في المنطقة، وبصرف النظر عن نتائج تلك الوساطة حينها، فإن تركيا كانت حريصة على التواصل مع الأطراف المتصارعة كافة وإقامة علاقات متوازنة مع الجميع.
ومع عودة حكومة أردوغان لذات السياسة مجددًا، وحرصها البادي في إمساك العصا من المنتصف بالتقارب مع النظم العربية السلطوية والاحتلال، وفي ذات الوقت عدم التخلي عن الإسلاميين العرب، تثور تساؤلات عن إمكانية أن تنهي أنقرة المعركة الصفرية بين الإسلاميين والنظم العربية وتقنع الطرفين بالمصالحة والحل الوسط، بحيث تتخلى النظم العربية عن حربها الضروس ضد الإسلاميين وسعيها ومخططاتها نحو اجتثاث قوى الإسلام السياسي وتصنيفهم ومطاردتهم كجماعات إرهابية والقبول بهم وإعادة دمجهم في العملية السياسة وداخل مجتمعاتهم، في مقابل تخلي الإسلاميين عن فكرة الثورة وإسقاط تلك النظم المتشبثة بكرسي الحكم.
ربما تبدو تلك الوساطة أمرًا بعيد المنال خاصة في الوقت الراهن، لا سيما أن إمكانية حدوثها تتوقف غالبًا على نجاح أردوغان وحزبه في الانتخابات المقبلة، فيما يرى البعض أن النظم العربية التي ترحب حاليًّا بالتقارب مع أنقرة، ما زالت تأمل في إسقاط حكومة أردوغان عبر صناديق الاقتراع، ومن ثم التخلص نهائيًا من آخر معاقل حكم الإسلام السياسي في المنطقة، فيما سيحيي نجاح الرئيس التركي آمالًا وأحلامًا وأدها فشل الربيع العربي.