الإستعمار و«الإسلام الأسود»: عن سياسات فرنسا في غرب أفريقيا
صحيفة الأخبار اللبنانية:
أصبح مفهوم «التاريخ الاستعماري الأوروبي» للقارة الأفريقية واستدلالاته من أبرز أدوات القوى الكبرى والمتوسطة المعنية بشؤونها في الآونة الأخيرة؛ وتردّده روسيا كما الصين وتركيا لإدانة الحضور التقليدي لقوى منافسة، ولا سيما فرنسا وبريطانيا وألمانيا (التي قرّرت في عام 2021 تعويض ناميبيا بمبلغ 1.1 بليون يورو عن قتل المستعمرين الألمان لعشرات الآلاف من الهيريرو وشعب ناما في مطلع القرن الماضي). ويبدو الإرث الاستعماري الفرنسي الأكثر حضوراً في جميع هذه المقاربات الناقدة أو التي تحاول «تدارك» الماضي لاعتبارات جمّة؛ ففرنسا صاحبة الإمبراطورية الأكثر اتساعاً في القارة، والخبرة الاستعمارية التي ساهمت بشكل مباشر للغاية في إعادة صياغة مجتمعات أفريقية كاملة في عمليات تاريخية مستمرة حتى اللحظة الحالية. كما تواجه فرنسا المعضلة الأكبر في التوفيق بين ماضيها الاستعماري في القارة وقدرتها على مواصلة خطاباتها الأفريقية الشراكية والتنموية مع تجاهل مسؤوليتها، وربما كارثية تبعات أي اعتراف فرنسي بمذابح أو عنف أو استغلال قامت به قواتها الاستعمارية منذ تكوين شركة الهند الشرقية الفرنسية مطلع القرن السابع عشر.
وقدّم كريستوفر هاريسون، في كتابه الأبرز في مسألة «فرنسا والإسلام في غرب أفريقيا» (1988)، تصوّراً أوّلياً مهمّاً لاهتمام الدراسات الفرنسية بالإسلام في أفريقيا جنوب الصحراء مقسّماً إيّاها إلى مرحلتين: المرحلة الاستعمارية ومرحلة ما بعد الاستعمار. وبينما لفت إلى محدودية الدراسات في المرحلة الأولى واقتصارها على ما وصفه بتوثيق إداري للإسلام واقتراح السياسات المناسبة للإدارة الاستعمارية عند تعاملها مع قضاياه، فإن المرحلة الثانية –حسب هاريسون- انتقلت بعيداً عن المشكلة الإدارية للإسلام نحو «محاولة فهم دينامياته الداخلية» في أفريقيا جنوب الصحراء، وتحليل أهم سماته مثل التحوّل الهائل في اعتناقه طوال قرنين فائتين على عام 1960، وموضوعات من قبيل الجهاد والحركات الإسلامية والأسس الاقتصادية والاجتماعية للتوسّع الإسلامي والعلاقة بين الإسلام والرقّ في أفريقيا، والاستجابة الإسلامية ضد الاستعمار واقتصاد الإسلام السياسي في القرن العشرين، مع ملاحظة توسّع إمبراطورية فرنسا «الإسلامية» إلى أقصى حدودها عقب الحرب العالمية الأولى واقتسام ممتلكات الإمبراطورية العثمانية السابقة مع بريطانيا.
القوة في خدمة «الاستيعاب»
سبق الاستعمار الفرنسي، بأدواته المختلفة، ما اصطلح على تسميته بـ«التكالب على أفريقيا» نهاية القرن التاسع عشر بعقود بعيدة. وعمدت فرنسا، بعد بسط هيمنتها في «المغرب العربي» حوالى منتصف القرن 19، إلى توسيع نفوذها العسكري داخل غرب القارة باستغلال التناقضات الداخلية وتعزيزها في عملية معقّدة ومستمرة. وأضحت رافعة التحرّك الفرنسي حينذاك تكوين لويس فيديرب (1889)، الحاكم الفرنسي للسنغال، أولى الوحدات الدائمة للجنود الأفارقة السود وأطلق عليهم «الكتائب السنغالية» في عام 1857، أي بعد خمسة أعوام من وصوله إلى السنغال، واستُخدمت في مواصلة التقدّم «الفرنسي» في المناطق الداخلية.
مع ملاحظة أن جذورها، حسب دراسة وثائقية مهمّة للبروفيسور ميرون إيكنبرج عن «التجنيد الإلزامي الاستعماري» (1991)، ترجع إلى أقدم من ذلك بكثير ويمكن أن تعود إلى السنوات الأولى من حكم «الشركة الفرنسية» في القرن السابع عشر في سينيجامبيا عندما استخدم المجنِّدون العسكريون الفرنسيون (والبريطانيون) الأفارقة المحليين جنوداً وبحارة لتقوية الوحدات الأوروبية التي كوّنت نواة بعثات الشركة الصغيرة، ونمت هذه القوات بشكل تدريجي منذ عام 1820 من نحو 23 جندياً إلى 8400 جندي مطلع القرن العشرين (1900)، واقتربت من 50 ألف جندي في نهاية العشرينيات، الأمر الذي يمكن إرجاعه إلى معدلات الوفيات المرتفعة بين القوات الأوروبية، وعلى سبيل المثال توفي 57 جندياً فرنسياً من إجمالي فرقة أُرسلت إلى السنغال في عام 1815 قوامها 75 فرداً، مع ملاحظة الاختلاط بين سلوكيات الاسترقاق وعملية التجنيد الأمر الذي زاد تعقيداً بعد إلغاء الرق في عام 1848 وحدوث ما وُصفت بأزمة تجنيد الأفارقة حيث لم يتقدّم للتطوّع في ذلك العام (في السنغال حيث قُدّر حجم قوّة السنغاليين بها نحو 250 جندياً) سوى ثلاثة أفارقة فقط.
ويمكن تلمّس المقاربة الفرنسية البراغماتية، والمفهومة في سياقاتها التاريخية، بملاحظة أن أغلب قوام هؤلاء المجنّدين كانوا ممّن وُصفوا بـ«المهجّنين»، وصار أغلبهم من الكاثوليك وأتقنوا اللغة الفرنسية وتبنوا نمط الحياة الفرنسي لاحقاً. غير أن علاقات الإدارة الاستعمارية، على خلفية اختلاط عمليات التجنيد بتقاليد الرق في القرن 20، مع أسر «المهجّنين» صارت متوترة نسبياً أكثر مع تمكّن أعداد منهم من الحضور القوي في الحكومة المحلية (في السنغال في النصف الأوّل من القرن 20). وفي المقابل، استمرّت السلطات الفرنسية في تفضيل المهجّنين بالقوميونات الأربعة (جوري، داكار، روفسك، وسانت-لويس)، الذين ظلوا، رغم تمكّنهم من مراكمة نفوذ ملموس في السياسة المحلية، يمثلون أقليات بالغة الصغر، بينما كان أغلب السكان من المسلمين السود. وهكذا بينما واصلت الإدارة الاستعمارية معاملتها السيئة للمهجّنين، فإن سياساتها تجاه المسلمين السود كانت أكثر عدوانية بشكل ملحوظ، وشعر عدد من المسؤولين الفرنسيين بالسخط إزاء واقع أن «الحقوق الفرنسية» قد تم التنازل عنها للسكّان السود الذين حافظوا على انتماءات دينية وأساليب حياة مختلفة.
ظهور «الإسلام الأسود»: السياق التاريخي «المؤسسي»
ظهر مفهوم «الإسلام الأسود» من ممارسات الإدارة الاستعمارية الفرنسية في غرب أفريقيا، خاصة في مطلع القرن الماضي، وتبلور هذا المصطلح بعد قمع القوات الفرنسية لتمرّد فوتا جالون في عام 1911، وما تلاه من تخوّف فرنسي من تجدّد أية حركات مناهضة للاستعمار الفرنسي على خلفية «جهادية» ولا سيما عدد من «المرابطين» الذين يفدون من المشرق العربي ومكة (وهي ظاهرة قديمة ولم تكن وليدة الاستعمار الفرنسي بطبيعة الحال). وفي آذار 1911 كتب ماري فرانسوا كلوزيل، حاكم السنغال الأعلى والنيجر حينذاك، برقية إلى حاكم السنغال العام وليام بونتي يحذّره من عودة «ثلاثة مرابطين من مكة يشاع أنهم يتآمرون ضد الفرنسيين». ورغم عدم وجود أدلة، فإن أحداث فوتا جالون دفعتهما لاتخاذ إجراءات احترازية فكتب بونتي إلى حكام السنغال وموريتانيا وغينيا الفرنسيين ليخبرهم بالأقاويل ويطلب منهم تقصّيها بدقة، وأن يلتزموا بالاعتدال وتهدئة «تعصّب بعض الحكّام الذين قد يجنحون لاعتقالات استباقية» لن تقود إلا إلى «إطلاق حركات المحليين ضدنا». وفي آب من العام نفسه تواترت شائعات باجتماع عدد من المرابطين من جميع أرجاء «غرب أفريقيا الفرنسية» في مدينة نادياورار على الضفة اليمنى لنهر السنغال لمناقشة «التحرّك ضد الفرنسيين». وبغضّ النظر عن تداعيات هذا التوجّه في المستعمرات الفرنسية، فإن الصورة الأكبر توضح أن نفس الشهر شهد إعلان إيطاليا الحرب على العثمانيين وتحرّكهم لغزو برقة، وفوجئ الإيطاليون بانحياز طريقة السنوسية إلى قوات العثمانيين رغم هزيمتهم وتوقيعهم مجموعة من المعاهدات، ومواصلة السنوسية «مقاومة الغزاة الأوروبيين» وإلحاقهم خسائر ثقيلة بقوات الإيطاليين. وكانت السلطات الفرنسية جنوب الصحراء تراقب بتوجّس الحرب الإيطالية في ليبيا. وقادت هذه الحرب ضمن مسارات أخرى في العالم الإسلامي إلى تكوين بعثة وزارية حول شؤون المسلمين مقرّها باريس في حزيران كانت مهمّتها «تحديد سبل سياستنا الإسلامية والبحث عن حل للمشكلات المشتركة بين أقسام مختلفة معنية بالمسألة الإسلامية». وفي تشرين الأول 1911 رشّحت وزارة الاستعمار ثلاثة من كبار مسؤوليها لقيادة عمل البعثة وكان مما ورد في أولى وثائقها إشارة مباشرة إلى مفهومها عن الإسلام الأفريقي، أو ما طُوّر في أدبيات الإداريين الاستعماريين والعلماء الفرنسيين تحت مفهوم «الإسلام الأسود»:
«…يشكّل الإسلام دون شك، بتعاليمه الأخلاقية وتنظيمه الاجتماعي الأساسي مبدأً حضارياً متفوقاً مقابل الشعوب البدائية (الأفريقية). لكن مفاهيمه تحتوي، رغم بساطتها البالغة مظهرياً، بعض التجريدات التي لا يمكن للذهنية المتواضعة لمعتنقي الإسلام من السود حديثاً والعرب- البربر غير المتعلمين استيعابها… ومن ثم فإن الخوف يكون دائماً من انفجارات النزعة المتعصبة… ويبدو أن الإسلام الأفريقي لن يكون مستقراً أبداً».
وفي عام 1912، نشر روبرت أرنود، في عامه الأخير، مستشاراً لشؤون المسلمين للحكومة الفرنسية في غرب أفريقيا، تقريراً عن سياسة المسلمين الفرنسية في هذه المرحلة الانتقالية المهمة من مواجهة القوات الفرنسية لحركات «الإخوان» عسكرياً وبدء تفهّم براغماتي. ويشبّه أرنود مسلمي غرب أفريقيا في تلك الفترة بالطفل «الذي تعلّم للتوّ وعظاً دينياً». وقدّم موجزاً لحركات التمرّد الكبيرة والصغيرة التي شهدها الإقليم منذ عام 1905. واعتبر، مثل بونتي، أن اعتناق الأفارقة للإسلام «مسألة اجتماعية»، وأن ما حدث بين جماعات الولوف في سينجامبيا من تحوّل إسلامي أصيل كان «ثورة اجتماعية حقيقية»، ووصفها بالصراع الطبقي، لكن مع استيعاب الأرستقراطية للإسلام فإنها جعلته أداة لتفوقها السياسي. وتجسّد تخوف أرنود من الإسلام في فقرة كاشفة: «إن الأسود الذي يصبح محمدياً يقلّ إعجابه بنا لأنه يعلم أن المعرفة والثروة تأتيان من الله. بل يولد لديه شعور بالعلو الذي يعطيه الرب للمؤمن على الكافر. ويوقن أن جنتنا، التي خلقناها بجهدنا مجرّد عالم مؤقت بينما سيتمتع بها، بفضل صلاته، خالداً فيها أبداً».
بين لاهوت الاستعمار والمواطنة
في مقابل عضوية المكوّن الديني في إيديولوجية الاستعمار الأوروبي، بمستوياته وتوظيفاته المتباينة، مرّت المجتمعات الأفريقية بتحولات «دينية» متلاحقة، قوامها -في الحالة الفرنسية تحديداً- فرض سياسات الاستيعاب وربط تطور وتمكين «النخب» بقدرتها على استيعاب الحضارة الغربية- المسيحية، بل وإدانة «الأفارقة» بشكل تام كما أوجز ذلك المؤرخ الفرنسي البارز جان سوري- كنالي في مؤلفه عن الاستعمار الفرنسي في أفريقيا الاستوائية (1964)، بأن رؤية الكنيسة الفرنسية قامت على مبدأ عدم إرجاع مأساة «السود» إلى آثام التجار والاستعمار، لكن إلى «نوع من الخطيئة الأصلية التي وصمت هذا العرق»، وما لاحظه من تناقض ذلك مع التعاليم المسيحية معللاً ذلك بأن «جميع المناصب التي تولاها ممثلون رسمياً في الكنيسة في الفترة السابقة (على الحرب العالمية الثانية) كانت داعمة للاستعمار» (الفرنسي وسياساته). وبشكل عام، اتسمت هذه التحولات بين مسلمي غرب أفريقيا بقدرة أكبر على المواجهة والصمود وأحياناً التنافس، ما دفع الإدارة الاستعمارية الفرنسية إلى ابتكار مفهوم «الإسلام الأسود» ليهيمن على سياساتها «الدينية» في غرب أفريقيا.
وبغضّ النظر عن الارتباك التاريخي المقصود، فإن الفهم الفرنسي «الاستعماري» للإسلام لم يخرج عن نظيره الأوروبي بشكل عام، إذ ارتبط بكيفية تفسيره كدين «وضعي»، واتسق ذلك مع ما صكّه العلماء والإداريون الفرنسيون، في محاولتهم لتنظير دور الإسلام خلال الفترة الاستعمارية، من تعبير «الإسلام الأسود»، مع ملاحظة أن هذا التعبير لم يقصد به الاحتفاء أو تقدير تعددية الإسلام في غرب أفريقيا الفرنسية، بل على النقيض من ذلك، فإنه كان تعبيراً اختزالياً وعنصرياً ولا سيما عند تحليله وفق استخداماته المفهومية الغزيرة في تقارير ومؤلفات بول مارتي (1938) الإداري والعسكري الفرنسي الغزير لمسائل الإسلام في أفريقيا. وبشكل تطبيقي، توضح بربارا م. كوبر، في فصل حول الإدارة الفرنسية للنيجر وتشابكها مع شمالي نيجيريا البريطانية، أن الحفاظ على تمييز مفهومي وإداري بين «الإسلام الأسود» في تصور الاستعمار لأدوار الحكام المحليين و«النزعة الدينية المعلنة» لمن يقاومون الحكم الفرنسي يسّر التوفيق بين نموذج الحكم العلماني الفرنسي (قانون نابليون) مع وقائع «الارتباط» الفعلي (وفي جزء منه الاستيعاب). ولاحظت كوبر أن ادعاء فرنسا في مراحل ما تبنيها «الحكم العلماني» في مستعمراتها المسلمة تطلّب التحلّل من أجزاء رئيسة من قانون الأسرة لمصلحة التقاليد القانونية للأهالي المحليين، التي مرّت بدورها بعملية منتظمة من نشر المذهب المالكي طوال العهد الاستعماري، وسط السكان الأفارقة.
وتبلورت هذه الأزمة في سنوات ما بعد الحرب العالمية الثانية عندما ثار جدل بين الساسة والنخب في فرنسا ومستعمراتها الأفريقية حول كيفية التوفيق بين مفهوم عالمي ومساواتي للمواطنة والثقافات أو الثقافات الأفريقية ذات الخصوصية. وارتبطت تلك المشكلة الرئيسة حينذاك بالعديد من القضايا التي واجهت الدولة الفرنسية من قبيل كيفية كتابة دستور يعبّر عن فرنسا ومستعمراتها باتساق، وكيفية تنظيم المشاركة السياسية أو العمل أو التعليم داخل كيان سياسي «متنوّع وغير متساو»، حسب رصد فريدريك كوبر في تقديم عمله «المواطنة بين الإمبراطورية والأمّة» (2014). ويضرب كوبر مثالاً دقيقاً بمطالب المواطنة الشاملة في أرجاء «الإمبراطورية الفرنسية» في عام 1945، الذي كان مطلباً ثورياً، حيث كانت الغالبية العظمى من الأفارقة ـــ مثل الجزائريين تحديداً ـــ قد عُدوا حينذاك من حاملي الجنسية الفرنسية والرعايا الفرنسيين، لكنهم لم يكونوا «مواطنين» فرنسيين. ولم يكن بمقدورهم أن يصبحوا كذلك إلا إن تخلّوا عن وضعهم الشخصي بمقتضى القوانين الإسلامية أو التقليدية، وأن يقبلوا قواعد القانون المدني الفرنسي بخصوص الزواج والميراث، وإقناع الإدارة بقبولهم الكامل للقيم الاجتماعية الفرنسية، وقبلت نسبة ضئيلة من «الرعايا» الإقدام على تلك الخطوة، بينما قبلت السلطات الفرنسية أعداداً أقل منهم بالفعل.
الإسلام والدولة الوطنية وما بعد الإمبراطورية
منحت فرنسا، وفق القانون الإطاري حزيران 1956، أجزاء مختلفة من إمبراطوريتها في غرب أفريقيا وأقاليم أخرى نوعاً من الاستقلال الذاتي، واستبق ليوبولد سنغور، أوّل رئيس للسنغال المستقلة لاحقاً وأبرز تجليات الاتحاد الفرنسي الأفريقي، مخاوف الاستقلال الأفريقي بإعلانه في آذار 1955 بأن ما يخشاه «في المستقبل، وتحت وطأة ضغط قوي من التحرّر الأفريقي، أن نترك المدار الفرنسي. علينا البقاء ليس فحسب داخل الاتحاد الفرنسي بل داخل الجمهورية الفرنسية». وعبّر موقفه عن التزامه بمبادئ الحزب الديموقراطي المسيحي الفرنسي المناهضة لتفكيك الإمبراطورية مع الضغط لإصلاحات داخل «الجماعة الفرنسية».
وإلى جانب مثال سنغور الشهير في استيعاب «الفرنسة»، مثل هوبرت ماغا (رئيس بنين 1964-1965) مثالاً للمزج بين الانتماء الديني والإثني وتداعياته في السياسة الفرنسية في غرب أفريقيا، فلم يكن بمقدوره الادعاء بالانتماء إلى أصول – دماء ملكية، وكان والده من فولتا العليا ووالدته من باراكو، وكلاهما كانا مسلمين اعتنقا المسيحية لاحقاً. وتلقّى ماغا تعليماً إرسالياً مكّنه من الالتحاق بالنخبة الاستعمارية والطبقات السياسية البازغة، واعتُبر، بفضل نسب والدته، ممثلاً للشمال، وتمكّن من توحيد الجماعات التقليدية الواقعة في نطاق مملكة باريبا التقليدية مع جماعات متفرقة دون زعامات من أتاكورا حول حزب التجمع الداهومي الديموقراطي. ورغم امتزاج التأثيرات الإسلامية المتباينة مع الانتماءات الدينية التقليدية في الشمال، فقد نجح ماغا، الذي فضّله الفرنسيون بشكل واضح، في حشد قواه حول فكرة مقاومة الشمال لـ«الهيمنة الجنوبية»، وإرساء ما اعتبره باتريك كلافي في كتابه عن الكنائس المسيحية في داهومي- بنين (2007) «لازمة» مستمرة للسياسة الداهومية منذ ذلك الوقت.
وظلت رؤية فرنسا لـ«الإسلام الأسود» تحكم سياساتها تجاه دول غرب أفريقيا بعد استقلالها. واتضح ذلك في التدخل الفرنسي المتكرر في تشاد، حسبما رصد الديبلوماسي الأميركي فرنسيس تيري ماكنمارا في كتابه France in Black Africa, 1989 حيث بادرت باريس إلى إرسال قوات لقمع «أعمال تمرّد» في عدة أقاليم في شمالي تشاد، وتخوف الفرنسيون من انتقال حالة عدم الاستقرار في تلك الأقاليم إلى دول جوار تشاد في الجنوب والغرب (جمهورية أفريقيا الوسطى والنيجر والكاميرون). وارتبط بهذا التوجه وضع مصداقية الضمانات الأمنية الفرنسية في أفريقيا برمّتها على المحك. وفي البداية اندفعت فرنسا لحماية الحكومة «الوثنية- المسيحية» في الجنوب ضد تحدٍّ متزايد من قبل «البدو المسلمين» في شمالي تشاد الصحراوي. وتكرّر هذا التدخّل في تشاد مرات عديدة.
خلاصة
بلورت فرنسا سياسات استعمارية ناجحة إلى حد كبير في تفكيك المجتمع الأفريقي التقليدي على نحو لا تزال تداعياته قائمة بحدّة حتى اليوم (كما يتضح في انتشار ثنائية انقسام دول كثيرة بين شمال وجنوب، أو شرق وغرب، متباينين اجتماعياً وسياسياً واقتصادياً كما أمثلة تشاد ومالي وبنين وغيرها)، وكان مفهوم «الإسلام الأسود» تعبيراً عن فلسفة ناجحة في استغلال تناقضات العلاقات القائمة داخل هذه المجتمعات، وتكريس فكرة أن الدين الإسلامي وافد «جديد» مع قدوم الاستعمار بأدواته العسكرية والاقتصادية والثقافية. وهي فكرة تنقضها وقائع تاريخ هذه المنطقة التي ظلت تستقبل تأثيرات «إسلامية» متصلة عبر الصحراء الكبرى من المغرب العربي ومصر والحجاز منذ القرن الثامن الميلادي على الأقل. ولا يمكن بطبيعة الحال تجاهل تعقيدات انتشار الإسلام وآثاره في العلاقات بين الجماعات الأفريقية في هذه المناطق طوال قرون ممتدة، كوسط يسّر بشكل ملحوظ نجاح فرنسا في سياساتها لاحقاً، وهو أمر لا يتّسع له المجال هنا.