الإرهاب صناعة بريطانية
موقع قناة الميادين-
وليد القططي:
الغوص في عمق التاريخ للوصول إلى الجذور التاريخية للقرار البريطاني يتيح معرفة مصدر الإرهاب الحقيقي.
أعلنت وزيرة الداخلية البريطانية بريتي باتيل، الأسبوع الماضي، عزمها على تصنيف حركة حماس منظمة إرهابية، عبر مشروع قانون ينص على ذلك، بكل تبعاته السياسية والقانونية. وبرّرت هذه الخطوة بمساهمتها في محاربة “معاداة السامية”، وتوفير الحماية لليهود في بريطانيا، وأنّه لا يوجد فرق بين الجناحين العسكري والسياسي لحماس، لارتباطهما بالإرهاب.
ويأتي هذا القرار البريطاني بوضع حركة مقاومة فلسطينية في قائمة الإرهاب استمراراً لمعاداتها لحركات المقاومة ضد “إسرائيل”، كما حدث سابقاً مع حزب الله اللبناني عندما وضعته في قائمة الإرهاب. هذا العداء البريطاني لحركات المقاومة ووصمها بالإرهاب يستحقان الغوص في عمق التاريخ للوصول إلى الجذور التاريخية للقرار البريطاني، لمعرفة مصدر الإرهاب الحقيقي.
الغوص في عمق التاريخ البريطاني المعاصر يمتد بجذوره إلى قبائل الأنجلو ساكسون التي هاجرت من شمال أوروبا إلى بريطانيا، على مدار القرنين الخامس والسادس الميلاديين، ومع الزمن غلب عرقهم الجرماني ولغتهم الإنجليزية على السكان الأصليين لبريطانيا، واستوعبوا كل موجات الهجرة النورماندية اللاحقة، وبذلك تكوّنت الهوية البريطانية الأنجلو ساكسونية والثقافية الإنجليزية.
وكانت الديانة الوثنية المتعددة الآلهة هي السائدة في الجزيرة البريطانية، حتى انتشار الديانة المسيحية بينهم في القرنين السابع والثامن الميلاديين على أيدي المُبشّرين الرومان، واستمرت المسيحية البريطانية تتبع الكنيسة الكاثوليكية برئاسة بابا الفاتيكان في روما حتى عهد الإصلاح الديني وظهور المذهب البروتستانتي على يد الراهب الألماني مارتن لوثر في القرن السادس عشر الميلادي، ولكن بريطانيا الأنجلو ساكسونية، بنزعتها الانفصالية، ابتكرت لنفسها مذهباً خاصاً داخل المدرسة البروتستانتية هو الأنجليكانية، برئاسة أسقف كاتدرائية مدينة كانتربري، بدلاً من بابا روما.
الانتماء إلى العرق الأبيض الأوروبي الأنجلو ساكسوني، والإيمان بالدين المسيحي البروتستانتي الأنجليكاني، هما ركنا الهوية البريطانية والثقافة الإنجليزية، والمعروفة اختصاراً بـ”الواسب” التي تعني الأنجلو ساكسونية البيضاء البروتستانتية، وعمودها الفقري فكرة التفوّق المستمدة من اليقين بأفضلية كل من الجنس الأبيض والقيم البروتستانتية، والتي تمتد جذورها العنصرية إلى عهد الوثنية كموروث ثقافي وثني قبل المسيحية، تشترك فيه كل شعوب أوروبا البيضاء، وعبّر عنه الفيلسوف اليوناني أرسطوطاليس مُخاطباً تلميذه الإمبراطور الإسكندر الأكبر قائلاً: “نحن اليونانيين أمة مختارة، ثقافياً هي الأفضل، حضارتنا هي الأفضل، ورجالنا هم الأفضل، وكل الآخرين برابرة، من واجبنا الأخلاقي أن نهزمهم، نستعبدهم وندمرهم إذا لزم الأمر”.
الفقرة الآنفة تُلخص عقيدة التفوّق العرقي للأوروبيين، التي عبّرت عن نفسها في العصر الحديث في النازية الألمانية، والفاشية الإيطالية، واليمينية الفرنسية، والعنصرية الأنجلو ساكسونية… وعبّر عنها الإرهابي الأسترالي الذي قتل خمسين مُسلماً في نيوزيلندا بالبث المباشر على الإنترنت، مُعرّفاً عن نفسه بأنه “رجل أبيض” وهدفه الحفاظ على الجنس الأبيض المتفوّق.
عقيدة التفوّق العرقي الوثنية الأوروبية رسّخها المذهب البروتستانتي عندما جعلت مؤسسة مارتن لوثر الإيمان بالعهد القديم (التوراة) جزءاً من الإيمان بالعهد الجديد (الإنجيل)، باعتبارهما كتاباً مُقدّساً واحداً، فأصبحت الرواية التوراتية جزءاً من العقيدة المسيحية، بما فيها عقيدة “شعب الله المختار” بالطريقة البروتستانتية، التي تجعل اليهود – شعب الله المختار – جِسراً يمر عليه شعب الله المختار الحقيقي المسيحي، أو تجسيداً لفكرة التفوّق الأبيض البروتستانتي، بعد عودة المسيح وبدء الألفية المسيحية السعيدة، وهذا لن يتحقق في عقيدتهم إلا بعودة اليهود إلى أرض الميعاد وهدم المسجد الأقصى وبناء الهيكل الثالث.
إضافة الى الأصول العرقية الوثنية والدينية والتوراتية لعقيدة التفوق الأبيض البروتستانتي، وجدت الفكرة تأصيلاً علمياً لها، خاصة عند العلماء البريطانيين، ومنهم عالم الطبيعة تشارلز داروين في نظريته (الانتخاب الطبيعي)، المعروفة بالدارونية الطبيعية، وعالم الاجتماع هربرت سبنسر في نظريته (البقاء للأصلح) المعروفة بالدارونية الاجتماعية، وعالم الاقتصاد آدم سميث في نظريته (الرأسمالية) التي تعتمد على البقاء للأقوى والأفضل والأغنى.
الإيمان البريطاني بالتفوّق العرقي والحضاري، وأفضلية الجنس الأنجلو ساكسوني الأبيض البروتستانتي، قادها إلى الإحساس بالتميّز والشعور بالاستعلاء أمام الشعوب الأخرى، خاصة التي احتلت أراضيها، وأعطت لنفسها الحق في التضحية بسكانها الأصليين لتحقيق مجدها الإمبراطوري، فمارست الإرهاب ضد الإنسانية قتلاً وتهجيراً واستعباداً ونهباً ما استطاعت إلى ذلك سبيلاً، وما زال هذا الإرهاب البريطاني يحرق البشر بناره التي أوقدتها بريطانيا بدورها المركزي في نشأة كل من الولايات المتحدة الأميركية ودولة “إسرائيل”، وهما الدولتان اللتان قامتا على الفكرة الاستعمارية نفسها، المنبثقة من عقيدة التفوّق الاستعلائية وفرضية “أرض بلا شعب لشعب بلا أرض”، أو بمعنى آخر “أرض بشعب مُتخلّف لا يستحقها لشعبٍ مختار متفوّق يستحقها”. هكذا حدث عندما غزا الأوروبيون المسيحيون (المتفوّقون) البلاد التي أسموها زوراً أميركا، وهكذا حدث عندما غزا الأوروبيون اليهود (المتفوّقون) فلسطين التي سمّوها زوراً “إسرائيل”، وكلتاهما – أميركا و”إسرائيل” – هما مصدر الإرهاب العالمي الذي صنعته بريطانيا.
بناءً على تلك الحقائق، يُعتبر الإرهاب صناعة بريطانية بامتياز، مُدخلاتها عقيدة التفوّق الأنجلو ساكسونية البيضاء البروتستانتية، بمضامينها الاستعلائية والعنصرية، ومخرجاتها الإرهاب الذي مارسته بريطانيا الإمبراطورية مُباشرة في مستعمراتها السابقة ضد شعوبها، والإرهاب الذي ما زالت تمارسه بريطانيا بطريقة غير مباشرة بواسطة المستوطنين الذين كانت سبباً في إرسالهم لممارسة الإرهاب ضد شعوب الأرض، وفي طليعتهم مستوطنو أميركا و”إسرائيل”. وبعد كل ذلك، تتّهم بريطانيا حركات المقاومة الفلسطينية واللبنانية بالإرهاب، تطبيقاً للمثل المعروف “رمتني بدائها وانسلت”.