الإرهاب الإقتصادي الأميركي
موقع العهد الإخباري-
أحمد فؤاد:
بكثير من البصيرة النافذة والذكاء الفطري، وصف الأمين العام لحزب الله سماحة السيد حسن نصر الله قبل شهور ما يجري في لبنان من محاولات الحصار الأميركي على البلد بكلمات عميقة المغزى والمضمون. قال السيد إن “فقدان الأمن الاجتماعي أخطر من الحرب الأهلية”. هذه الكلمات لم يزدها تتابع الأيام إلا مصداقية وفهمًا، وبات التحدي القائم، اليوم، أكثر انكشافًا من كل محاولات التغطية الرديئة والفاشلة، الراغبة بشدة في رد الأزمة إلى أي سبب، لكن ليس إلى واشنطن.
والواقع كله منذ فشل عملية الكسر العسكري لحزب الله في حرب تموز 2006، يقول إن الولايات المتحدة قد قررت منذ هذا اليوم المجيد أن السلاح الاقتصادي هو رأس حربتها في الحرب على لبنان، وبيئة المقاومة خصوصًا. وفي التصريحات والتقارير والأفعال الأميركية ضد لبنان إشارات تظهر ولمحات تومئ إلى هذه الإستراتيجية الجديدة، والتي يمكن بغير تجنٍ أو تجاوز وصفها بعملية “إرهاب اقتصادي”.
ترغب الولايات المتحدة بشدة في كسر النموذج الذي يمثله حزب الله، سواء لدى المواطن اللبناني، أو في قلوب أبناء العالم العربي الواسع حوله. نجح الحزب، مرة بعد مرة، وخلال سنوات طويلة، في كسر الإرادة الأميركية كثيرًا، بل ووصل إلى الحد الذي نسف تمامًا أركان نظرية الأمن الصهيونية العتيدة، بإجبار الكيان على القبول بتعيين الحدود البحرية الجنوبية للبنان، تحت ضغط السلاح، وبالتالي تحطيم أسطورة الردع التي قام عليها ــ وبها ــ هذا الكيان المصطنع، وكانت أعز وأخطر ما يمتلك في ترسانته.
وتمارس الولايات المتحدة استراتيجيتها القذرة عبر أدوات سيطرتها العالمية، وأذرع سيادتها المالية على العالم كله، بادئة بالعملة العالمية الدولار، ثم عبر صندوق النقد والبنك الدوليين، وتقاريرهما وتقييماتهما للأوضاع، والتي تعد في عالم اليوم الختم الأكثر قبولًا في أسواق المال والأعمال، والموجه الحقيقي للمؤشرات وأسعار الفائدة، وبالتالي قدرة الدولة على الحصول على تسهيلات ائتمانية أو انعدام فرصها.
تقرير البنك الدولي الأخير حول لبنان، يرفع شعار السقوط، ويطبع في الذهن ــ فور قراءته ــ معنى الانهيار الكامل والشامل، وهو في هذا أحدث خطوة أميركية في طريق حصار البلد وخنقه، باستخدام كل ما هو ممكن من أدوات وآليات، بل وسقطات محلية من حكومات سابقة، ظنت أن الحبل ــ القروض ــ الذي ألقاه الغرب هو الحل، وحين وصل إلى مداه حول رقبة الضحية، بدأ الغرب يشد قبضته وتختلف لغته وتتسارع خطاه.
والمؤشرات المفزعة التي أعلنها البنك الدولي لا تستهدف الرصد، فقط، لكنها أشبه ما تكون بعملية صب الزيت على النار المشتعلة، فالمزيد من الأخبار السيئة للأسواق يعني فورًا المزيد من التوقعات السيئة، والتصرفات المتخبطة التي تزيد الأزمة ولا تحاصرها. إعلان البنك وصول نسب التضخم إلى 185% منذ بداية الأزمة الروسية الأوكرانية، سوف يترجم إلى مزيد من سعي التجار والأسواق نحو زيادة الأسعار تحسبًا من القادم، ويرفع بالتالي من توقعات الأسوأ خلال الشهور والأيام المقبلة.
والتضخم في حقيقته ليس فقط مؤشرًا رياضيًا، يعالج أو يشرح بعض الأرقام على الأوراق، في مكان شاهق بعيد عن الناس وآلامهم، لكنه المؤشر الاقتصادي الأهم والأكثر تماسًا مع الحياة اليومية للمواطن العادي، وتفاصيلها الشاقة، ووصف مشاق رحلته للحصول على ما يكفي من السلع لتلبية احتياجاته أو احتياجات عائلته الضرورية والبسيطة. إنه الدرج الشاهق بين عالمين، يقف الإنسان على قمته، محاولًا أن يبقى حيث هو ــ على الأقل ــ وإلا فإنه سيهبط هبوطًا حرًا عموديًا إلى حيث جهنم، وسط صيحات الحاجة المذلة للناس، وحيث ألسنة النار فاغرة أفواها تبتلعه، وحيث السماء لا تمطر سوى دم وحجارة من سجيل.
ولا يمكن اعتبار تقارير البنك الدولي، أو صندوق النقد الدولي، حقيقة بحد ذاتها بالنسبة للواقع على الأرض. وكمثال واحد ضمن سلسلة طويلة من التقارير الموجهة والمصبوغة بإرادة أميركية، فإنه في عام 2001، كانت كل تقارير المؤسسات الدولية ــ البنك الدولي بالذات ــ تشيد بالأرجنتين، وتعتبر الإصلاحات الاقتصادية التي تم فرضها عليها نموذجًا فعالًا للتحول الاقتصادي المثالي الموجه نحو السوق، لكن على الأرض، كانت ديون البلد اللاتيني قد وصلت إلى 120 مليار دولار، ومنعت الحكومة الناس من الوصول إلى مدخراتهم، لكي تلبي توقيتات أقساط الديون الغربية وفوائدها، وفي النهاية وقعت الكارثة التي عرفت بأزمة “إل كوراليتو” في كانون الثاني/ يناير 2001، وانهارت الأسواق، وعمت التظاهرات الغاضبة أنحاء الأرجنتين، إلى أن اضطر الرئيس الأرجنتيني فرناندو دي لا روا لمغادرة البلاد.
ما تستهدفه الولايات المتحدة، وعبر تقرير البنك الدولي، هو تثبيت لافتة الانهيار على الشارع اللبناني، ويتحول الأمر شيئاً فشيئًا إلى نوع من الرعب الجماعي، سخط جماهيري وغضب عارم عام على الأنظمة والحكومات والسياسات الوطنية، سواء كانت تحتاج الوقت والجهود المخلصة لتنجح، أم كانت فاشلة فعلًا، ووقت أن يتم تصدير هذه الفكرة للناس، أو أغلبية معتبرة من الناس، تصبح مسألة ممارسة الإرهاب هي عنوان العملية.
ما الذي يريده الإرهاب فعلًا؟
لا تستهدف العمليات الإرهابية القتل بحد ذاته كهدف أول، إذ إنه مجرد منتج جانبي لعمليات العنف التي تنتهجها الجهة القائمة به، ولا يرغب فعلًا في استعراض القوة الفائقة أو القادرة، إذ إن الناس بطبيعتها تنفر من هذا المجهول الأكثر تقدمًا وقوة، إنما يبقى الهدف الأول والأساس لكل عملية إرهاب، تستحق هذا الوصف فعلًا، هدف أسمى وهو خلق الرعب وبث الذعر والوهن في الصفوف، ونشر الخوف في المجتمع المستهدف، ووقت أن تحين تلك اللحظة المشؤومة، فإن الخوف وحده قادر على زعزعة الإرادة في المعركة الأبدية بينهما، وزعزعة كل الثوابت والمعاني، بما فيها معنى الإيمان ذاته، وأمام عدو قد اهتز إيمانه، فأنت أمام خصم خاوٍ مستعد للتسليم في أول اختبار.
ممارسة الإرهاب الأميركي على شعوبنا، ليس تعبيرًا عن الغضب ولا تحركه أحقاد الغربيين الثابتة علينا، ولا تغذيها أطماعهم المستمرة حول منطقتنا وثرواتنا، الإرهاب تحول في العصر الأميركي إلى سلاح سياسي فتاك، فائق القدرة والقوة والجبروت، يشبه زلزالًا أو عاصفة، تضرب منطقة فتتركها خرابًا ينعق على أطلالها البوم، وشعوبًا قد استعبدت نفسها، وروّعها هذا الإرهاب الاقتصادي، أطاح بأحلامها وآمالها، وفتتها شيعًا يمزق بعضها بعضًا، قبل أن يخطو الأميركي خطوة واحدة على الأرض الممهدة السهلة.
أخيرًا.. فإن مساءلة الحاضر، والبحث في جذر الأزمة الحالية، ليس فقط نوعًا من الفهم، لازم وضروري للعالم العربي، بل هو خطوة في سبيل حقيقة كبرى هي “المعرفة”، وما تمنحه هذه المعرفة لأصحابها من إضافات هائلة، تبدو لازمة أكثر من غيرها في لحظتنا الحالية المأزومة، وعلى رأسها أن المعرفة تجعل الناس في عمومهم شركاء، في القرار وبالمسؤولية، وتحوّل المواطن من مفعول به إلى فاعل متحرك للمشاركة، ولو بالتفكير والانغماس في دائرة الحل، ثم هي تضم الأطراف المضادة الأزمة، عوضًا عن تركها تحت سيطرة دائرة من البيروقراطية الحكومية، وتوسع بالتالي من المشاركة المجتمعية في حوار ضروري، وهي كلها وسائل قوة تضاف إلى حيوية الأمة وقدراتها، وقبل كل شيء، إيمانها.
والناس بالإيمان والمعرفة يتحولون من ضحايا على مذبح الإرهاب الأميركي المستمر، إلى مسؤولين ومشاركين وأرقام قوة حيال أنفسهم، وحيال بعضهم البعض، كما وحيال حقائق إنسانية ودينية ووطنية أسمى بكثير، تستهدف كسر هذا المخطط وامتلاك شروط عبور الأزمة.