“الأمن القومي الإسرائيلي”.. قراءة في الإخفاقات والتحدّيات!
موقع قناة الميادين-
أحمد عبد الرحمن:
مع كل التعديلات والإضافات التي أُدخلت على “نظرية الأمن الإسرائيلية”، شقوق عميقة ظهرت في مفهوم ” الأمن القومي” التقليدي لـ”إسرائيل” أدخلتها في مرحلة “الهبوط والانحطاط الاستراتيجي”، حيث ازداد الفشل السياسي والعسكري وضوحاً.
حرصت “إسرائيل”، منذ نشأتها وحتى الآن، على البقاء متفرّدة في كثير من المجالات، وسعت بكل السبل والوسائل لوضع نفسها في مرتبة متقدّمة عن باقي دول المنطقة وبفارق كبير، وكانت على الدوام تعيش الهاجس الأمني بكل تفاصيله، وتعتقد- وما زالت- أن معركتها مع “أعدائها” من دول ومنظّمات وجماعات وحتى شعوب هي معركة وجود وليست معركة حدود، وأن الخطر المحدق بها من كل جانب يستلزم منها أن تكون دائماً على أهبة الاستعداد لمواجهة أي طارئ، بل في كثير من الأحيان، يجب عليها المبادرة لوأد أي خطر يتهدد وجودها قبل أن يشتد عوده ويقوى ساعده.
ولأنها “دولة” صغيرة جغرافياً، وذات عمق أمني ضعيف وهشّ، فقد عملت على خوض كل معاركها وحروبها بعيداً من حدودها الجغرافية، وسعت في المواجهات السابقة كلها، صغيرها وكبيرها، لمحاولة تجنيب جبهتها الداخلية أي أضرار محتملة نتيجة تلك المعارك، بل كانت على الدوام تعدّ استهداف “المدن الإسرائيلية” خطاً أحمر، ممنوع على أي جهة الاقتراب منه أو تجاوزه.
كل ما سبق عُدّ في فترة ما، ولا يزال، جزءاً أساسياً من نظرية “الأمن القومي للدولة العبرية”، التي وضعها ” ديفيد بن غوريون” في بداية الخمسينيات من القرن الماضي، والتي سعت “دولة” العدو من خلالها للتفرّد بمصادر القوة دون غيرها من دول الإقليم، بما يمكنها من تنفيذ خططها العدوانية والتوسعية باقتدار لا ينافسها فيه أحد.
مفهوم “الأمن القومي الإسرائيلي”
يمكن تعريف “الأمن القومي” لأي دولة في العالم بأنه “قدرة الدولة على الحفاظ على مصالحها القومية والدفاع عنها، وحمايتها من الأخطار التي يمكن أن تتهدّدها”، لكن تعريف “الأمن القومي الإسرائيلي” يكاد يكون شاذاً عن كل المفاهيم الأخرى، إذ عرّفه “بن غوريون”، أول رئيس وزراء، ووزير حرب في “الدولة” العبرية، بأنه “الدفاع عن الوجود”، لأن مسألة الأمن القومي ليست مسألة وجود قومي فحسب، بل هي مسألة حياة أو موت بالنسبة إلى كل سكان تلك “الدولة” من المستوطنين اليهود.
وينطبق عليهم قول الرئيس الأميركي السابق، جون كيندي، “إن خطأً واحداً بإمكانه قتلنا”، فدول العالم كلها التي تعاني عقدة إثبات الوجود، تحاول أن تحافظ على بقائها من خلال التفاعل الحضاري والتعاون المشترك مع دول الجوار، بما ينسجم مع المصالح القومية لجميع الأطراف، أما الكيان الصهيوني فهو بحاجة إلى إثبات وجود من نوع آخر، يكاد لا يشبهه فيه أحد، إذ أقيم هذا الكيان على أرض ليست ملكه، ولا ينتمي تاريخياً وحضارياً وثقافياً لتاريخها، وهو يحاول فرض سيطرته على شعوبها بالقوة، وهذا الأمر يُدخله في صراع تناحري وعنيف مع كل القوى المحيطة به، ويجعلها في مجابهة دائمة معه بسبب سياساته العدوانية.
ومن هنا، فإن “الأمن القومي الإسرائيلي” يشمل مختلف مجالات النشاط والفعاليات الحيوية في الكيان الصهيوني، مثل القوة العسكرية، وبناء الذراع الضاربة للكيان وتطويرها وهي مؤسسة “الجيش”، ومشاركة كل سكان “الدولة” فيه كـ”جيش” احتياط، والهجرة اليهودية إلى فلسطين، وتوسيع الاستيطان، وتخفيف الهجرة المعاكسة إلى الخارج، وتقوية القاعدة الاقتصادية، وتأمين تحرك سياسي دبلوماسي خارجي يُوظَّف لمصلحة تأمين متطلبات الأمن، إضافة إلى التربية والتعليم، وتمتين الجبهة الداخلية لتحقيق الأمن والمناعة القومية.
كذلك يمتد مفهوم “الأمن القومي الإسرائيلي”، ليشمل النشاط الأمني والعسكري خارج الرقعة الجغرافية لـ”دولة” الاحتلال، والتأثير في التفاعلات الإقليمية، بما يضمن التنبؤ بالتطورات التي يمكن أن تطرأ على القوى المحيطة، ومحاولة منعها من تحديد قدرات الكيان الصهيوني الجيو-سياسية أو التأثير فيها، على نحو يجعل تلك الدول تقبل به، وتتعامل معه كأمر واقع، لا يمكن تجاوزه أو تغييره.
وينطلق هذا المفهوم من حقيقة أنّ الكيان الصهيوني يعيش في صراع وجودي، غير قابل للحل بالوسائل السياسية أو العسكرية، وهذه الحالة يطلق عليها حالة “الحرب الراقدة”، ولأن الواقع الأمني للكيان الصهيوني ضعيف ويتسم بالهشاشة وهوامشه ضيقة جداً بسبب انعدام العمق الاستراتيجي، فإن القيادة الإسرائيلية تمنح اعتبارات “الأمن العسكري”، قدراً كبيراً من الاستقلال الذاتي، وتعطي المؤسسة العسكرية حرية كبيرة في العمل، ما يمكّنها من استخدام كل ما تملكه من إمكانيات، لأغراض تتجاوز التحذير والإحباط والضربة الوقائية، وصولاً إلى تحقيق “الردع” الذي قامت عليه أساساً نظرية “الأمن القومي الإسرائيلي”.
نظرية “الجدار الحديدي”
في العام 1923 من القرن الماضي، نشر” زئيف جابوتنسكي ” قائد عصابات “الإيتسل”، وقائد ما يُعرف بـ”التيار التصحيحي” في الحركة الصهيونية، نظريته الشهيرة “الجدار الحديدي”، التي كانت تعتمد على ثلاثة مفاهيم أو “مرتكزات” أساسية، وهي “الردع والإنذار والحسم”، وكان يُرجى من خلالها إقناع جميع أعداء “إسرائيل” بأنها قوة لا تُقهر، وأن جيشها لا يُهزم، وأن كل المعارك التي تخوضها مع “أعدائها” ستخرج منها منتصرة من دون أدنى شك.
وقد تحوّلت هذه النظرية إلى جزء مهم من العقيدة القتالية للمؤسسة الأمنية والعسكرية الصهيونية، وشكّلت وما زالت أيديولوجيا أحزاب اليمين في “إسرائيل”، والتي يقف على رأسها حزب “الليكود” اليميني المتطرّف، الذي تبوّأ إلى جانب ” التيار الديني الصهيوني”، مركز الصدارة في الانتخابات البرلمانية الأخيرة، وأعلن قبل أيام عن تشكيلته الحكومية، التي ينظر إليها كثير من المتابعين والمختصين، بأنها ستكون أكثر الحكومات الإسرائيلية تطرّفاً وإجراماً.
وقد جسّدت “إسرائيل” نظرية “الجدار الحديدي” بشكل عملي وفعّال على أرض الواقع، إذ انقسم مفهوم “الردع” المشار إليه في نظرية “جابوتنسكي” إلى جزأين، الأول يتعلق بردع الدول العربية والإسلامية، ومنعها من شن حرب على الكيان الصهيوني، من خلال المحافظة على تفوق عسكري واضح ونوعي لمصلحة العدو، وكذلك الحفاظ على سياسة الغموض النووي لـ”الدولة” العبرية، ليبقى الطرف الآخر مسكوناً بمخاوف وهواجس تمنعه من القيام بأي “مغامرة”.
والجزء الثاني يتعلق بردع الفلسطينيين الذين يتحركون في شكل جماعات وتنظيمات، تعمل بأنماط وطرق تختلف شكلاً وموضوعاً عن عمل الدول، مضافاً إليهم فصائل المقاومة في الإقليم كـ”حزب الله” اللبناني، وهؤلاء يتم التعامل معهم وفق نظرية “ديفيد بن غوريون” الأصلية، والتي تعتمد بشكل أساسي على إلحاق خسائر مادية وبشرية كبيرة في صفوفهم، بهدف كسر روحهم المعنوية، والحدّ قدر الإمكان من إمكانياتهم التسليحية، والضغط على حاضنتهم الشعبية، ومن ثم الحصول على فترة هدوء طويلة نسبياً، على غرار ما حدث بعد حرب تموز 2006 في لبنان، عندما دمرت “إسرائيل” جزءاً كبيراً من “الضاحية الجنوبية” من بيروت، وفق مبدأ “عقيدة الضاحية” التي وضعها رئيس الأركان السابق “غادي أيزنكوت”، وتكرر ذلك مرات عديدة مع قطاع غزة في الحروب المختلفة، التي أطلقت عليها “إسرائيل” (عمليات قتالية وتهدئة).
أما “الإنذار”، وهو المرتكز الثاني في نظرية “جابوتنسكي”، فقد اعتمد على المحافظة على تفوّق معلوماتي واستخباري لـ”إسرائيل” على كل “أعدائها”، بهدف معرفة قدراتهم القتالية، وكذلك نيّاتهم وتوجهاتهم المستقبلية في ما يخصّ المواجهة مع “إسرائيل”، وهذا الأمر شمل المستويين التكتيكي والاستراتيجي، وهو ما ساعد العدو على وضع “الخطط الدفاعية” وتفعيلها في الوقت المناسب، واستدعاء قوات الاحتياط عند الحاجة، وفي أوقات معينة الذهاب في اتجاه توجيه ضربة استباقية للطرف الآخر، تحبط مخططاته في مهدها.
بعد عاملَي الردع والإنذار، اعتمدت ” إسرائيل ” على المرتكز الثالث وهو “الحسم”، إذ تحاول قدر الإمكان خوض معارك قصيرة ومحدودة، تحقق فيها الأهداف المرجوّة خلال فترة زمنية وجيزة، وهذا يرجع إلى صغر المساحة الجغرافية للكيان الصهيوني، وقلة موارده البشرية، وعدم وجود عمق استراتيجي يمكن أن يلجأ إليه في أوقات الطوارئ.
وقد حققت المفاهيم والمرتكزات الثلاثة السابقة نتائج مهمة خلال العقود الأربعة الأولى من عمر “دولة” الكيان، وتشكّلت نتيجة لها صورة “هتشكوكية” طُبعت في إذهان كثيرين عن تلك “الدولة” التي لا تُهزم، وأصبح شعار ” الرد في المكان والزمان المناسبين “، يلازم جميع بيانات الدول العربية بعد كل اعتداء صهيوني، وقد انسحب تأثير ذلك على عموم الشعوب في المنطقة.
انقلاب الصورة
لكن هذه الصورة التي رسمتها “إسرائيل” لنفسها، من خلال جرائمها المتواصلة، واعتداءاتها المستمرة، بدأت تهتز وتتضرّر منذ بداية تسعينيات القرن الماضي تقريباً، وزاد وضوح هذا الضرر والاهتزاز بعد حرب تموز 2006، بين الكيان الصهيوني والمقاومة الإسلامية في لبنان، إذ تم تجاوز ذلك الخط الأحمر الذي وضعته “إسرائيل” لكل “أعدائها”، وانتقلت المعركة رغماً عن أنف العدو إلى داخل العمق الصهيوني، وبات مشهد الدخان المتصاعد من “المدن الصهيونية”، وآثار الخراب والدمار الناتجة من صواريخ المقاومة الإسلامية مألوفاً خلال أيام تلك المعركة، ما دفع المستوطنين اليهود إلى البحث عن ملاذات آمنة في الوسط والجنوب، في مشهد مصغّر لسيناريو الرعب الذي يدور في مخيّلة كثير من الإسرائيليين، لا سيّما أولئك الذين جاؤوا من أصقاع مختلفة حول العالم، ليحظوا بالمنّ والسلوى في أرض الميعاد، وليهنأوا بالأمن والأمان في “إسرائيل” القوية والمقتدرة.
بعد انتهاء تلك الحرب، تم تكليف “دان مريدور” بتطوير وتحديث “نظرية الأمن القومي” ذات المرتكزات الثلاث المشار إليها أعلاه، لتواكب التحدي الجديد الذي ظهر خلال المعركة مع المقاومة في لبنان، حيث تمت إضافة مرتكز رابع وهو “الدفاع “، ويعني حسب الرؤية الإسرائيلية “حماية الجبهة الداخلية” للبلاد من الأخطار التي يمكن أن تواجهها داخل حدود “الدولة”، بما يمكن أن يؤثر في استمرار الحياة فيها.
وقد تمت ترجمة هذا المفهوم على الأرض، من خلال نصب بطاريات دفاع جوي في مختلف “المدن الصهيونية”، ونشر منظومات حديثة ومتعددة المستويات من شبكات الإنذار المبكّر، واعتماد طرق جديدة لجمع المعلومات خلف خطوط “العدو”، وكل ذلك من أجل المحافظة على شكل الحياة الطبيعية في “إسرائيل” في أوقات الأزمات والحروب، وكذلك الدفاع عن البنى التحتية الوطنية والحيوية ومؤسسات الحكم، إضافة إلى ذلك تضمّن العمل بمبدأ “الدفاع “، عمليات نقل المستوطنين من مناطق الحرب، إلى مناطق أكثر أمناً لتقليل الخسائر والإصابات البشرية.
اعتماد مفهوم ” الدفاع ” إلى جانب المفاهيم الثلاثة الواردة في نظرية “جابوتنسكي”، جاء بعد توصّل القيادة العسكرية والسياسية في الكيان الصهيوني إلى قناعة بأن ما كان مستحيلاً في السنوات الماضية أصبح ممكناً، وأن الحصانة التي كانت تتمتع بها “المدن الإسرائيلية ” انتهت أو في طريقها إلى الانتهاء.
توالت بعد ذلك الحروب والمعارك لا سيما مع المقاومة الفلسطينية في قطاع غزة، والتي أصبح جزء لا يُستهان به منها يُخاض في عمق “المدن الإسرائيلية “، وأصبح مشهد الخراب والدمار الذي كان يُشاهد على نطاق ضيّق نسبياً في حرب 2006، سمة أساسية من سمات تلك الحروب خصوصاً حرب 2014، ومعركتي “سيف القدس” في أيار/ مايو2021، ووحدة الساحات في آب / أغسطس 2022.
وبات بإمكان المقاومة الفلسطينية استهداف المدن الكبرى داخل الكيان الصهيوني، بمئات الصواريخ دفعة واحدة، بل زادت على ذلك بأنها حددت في عديد المرات مواعيد زمنية لتلك الاستهدافات، في تحد واضح وصريح للقدرات العسكرية الإسرائيلية، التي تُعد من الأفضل في العالم على مستوى منظومات الدفاع الجوي، والتي سجّلت إخفاقاً كبيراً وملحوظاً في نسبة التصدي لصواريخ المقاومة.
هذا الانكشاف غير المسبوق للجبهة الداخلية الإسرائيلية أشار إلى معطى مهم وخطير، وهو أن الواقع الأمني داخل “الدولة” العبرية ليس قوياً ومتماسكاً كما كان يُروّج له، وفيه من العيوب والثغرات ما يمكن أن يشكّل فرصة ذهبية لقوى المقاومة في المنطقة للانقضاض على هذا الكيان، وتوجيه ضربة قاتلة لعمقه الاستراتيجي وليس في الأطراف فقط.
تعزيز “نظرية الأمن الإسرائيلية”
ذلك الضعف الذي اعترى ” نظرية الأمن الإسرائيلية ” على الرغم من إضافة بعض التعديلات عليها، والذي ظهر جلياً من خلال عدم تمكّنها من مواكبة التحدّيات الجديدة التي طرأت على الساحة، دفع الخبراء الاستراتيجيين في ” إسرائيل”، ومراكز الدراسات والبحوث المتخصصة، إلى إدخال مبادئ ومرتكزات جديدة على تلك النظرية، وتم توصيف هذه المبادئ في الأوساط الإسرائيلية بأنها “جوهرية” ومؤثرة، وتدخل في سياق الصياغة الشاملة للعقيدة الأمنية الإسرائيلية، فبالإضافة إلى مبادئ الردع والإنذار والحسم والدفاع، تم طرح مبدأ خامس وهو “الاستيعاب” أو ” الامتصاص “، كرديف أو بديل لمصطلح “الدفاع “، وذلك للرد على تهديدين مركزيين وأساسيين، التهديد الأول هو قدرة المقاومة على مهاجمة قلب “الدولة العبرية “، المتمثّل في منطقة “المركز” التي تشمل مدينة “تل أبيب” وضواحيها، وباقي المدن الكبرى كحيفا والقدس وبئر السبع، والتهديد الثاني قدرة المقاومة على إصابة الأهداف وتدميرها.
وبالتالي، فإن مبدأ ” الامتصاص ” ينص على عدم السماح للمقاومة باستخدام القوة لفترة طويلة من الزمن للحد من الأضرار التي يمكن أن تنشأ عن ذلك، من خلال استخدام “الجيش” الإسرائيلي وسائل الدفاع الجوي الحديثة، ومن جانب آخر امتلاك “الجيش” قدرات هجومية مركّزة، تمكنه من القيام بعدوان مفاجئ ومباغت، يسمح له بتحقيق أهدافه التي من بينها تحديد المدة الزمنية للمعركة، وحرمان المقاومة جزءاً كبيراً من إمكانياتها العسكرية، خصوصاً على مستوى القوة الصاروخية، وهذا الأمر شاهدناه في عدوان 2008 على قطاع غزة.
المبدأ الخامس الذي تمت إضافته إلى ” نظرية الأمن الصهيونية ” هو “الإعاقة” أو “المنع”، وهو إجراء وقائي بالدرجة الأولى، يتعلق بمنع فصائل المقاومة من تطوير قدراتها العسكرية النوعية، التي يمكن من خلالها تهديد العمق الإسرائيلي، وذلك باستخدام وسيلتين أساسيتين، هما العرقلة والردع.
أما المبدأ السادس فهو “التقويض” أو “الإحباط المركّز”، والذي يعني تدمير قدرات باتت موجودة بالفعل لدى “أعداء إسرائيل “، وخاصة الأسلحة غير التقليدية، وهذا الأمر يُستخدم ضد “إيران” تحديداً، ومن خلال طرق مختلفة، كالعمليات التخريبية، والهجمات السيبرانية، وغيرها.
المبدأ السابع هو “الشلل” أو “إبطال المفعول”، وهو يعني اتخاذ قرار البدء بهجوم عسكري ضد ” أعداء ” الكيان الصهيوني، من أجل حرمانهم قدراتهم الأساسية، وعدم تمكينهم من إلحاق الأذى بـ”إسرائيل”، وهذا القرار إما أن يكون جزئياً أو كلياً، وقد اُستخدم، وما زال، ضد أهداف يقول العدو إنها “إيرانية” على الأراضي السورية.
المبدأ الثامن هو “الغطاء الدولي”، ويعني استخدام سلسلة من الجهود الدبلوماسية، والخطوات القضائية، والحملات الإعلامية التضليلية، ومراعاة المحدّدات والأعراف الدولية، من أجل الحصول على الغطاء اللازم من قبل قوى دولية وإقليمية، لاستخدام “إسرائيل” للقوة ضد أعدائها من دون تعرضها لانتقادات مؤثرة، أو قرارات ملزمة.
آخر هذه المبادئ هو “التعاون الأمني المشترك”، من خلال استثمار كل المزايا التي تتيحها العلاقات الثنائية مع الدول الصّديقة أو الحليفة لـ”إسرائيل”، عبر تطوير تعاون عسكري وأمني مكثف مع تلك الدول على الساحتين الإقليمية والدولية، وقد بتنا نلمس هذا المبدأ بشكل واضح وجلي مع الدول العربية المطبّعة، لا سيما في منطقة الخليج، حيث تم إنشاء قواعد استخبارية في بعضها، وهناك تبادل للمعلومات بينها وبين “دولة” العدو.
استمرار الإخفاق
ولكن، مع كل تلك التعديلات والإضافات التي أُدخلت على “نظرية الأمن الإسرائيلية”، لم تستطع حسب معظم الخبراء والمختصين، التغلب على جملة التطورات والمتغيّرات المُشار إليها سابقاً، إذ يشير كثير من الدراسات لباحثين إسرائيليين، إلى أن الواقع الأمني في “إسرائيل” يتسم بالهشاشة والضعف، وأن هناك كثيراً من المعطيات التي تؤكد ذلك، تم الكشف عن بعضها من خلال وثائق ودراسات قامت بها معاهد ومراكز إسرائيلية متخصّصة، إذ تبين من تلك الدراسات أن هناك أزمة واضحة على صعيد عقيدة ” الأمن القومي الإسرائيلية ” حتى مع وجود تحديثات وتعديلات مختلفة، وأنه لا يوجد ” نظرية ” واضحة ومبلورة تستجيب لكثير من المتغيّرات التي تشهدها المنطقة بشكل عام، أو التي يمر بها الكيان الصهيوني بشكل خاص.
وقد كشفت بعض الدراسات عن وجود شقوق عميقة في مفهوم ” الأمن القومي” التقليدي لـ”إسرائيل”، إذ ظهر كثير من العوامل المؤثرة داخل الكيان، ربما تساعد في مرحلة ما على إمكانية انهيار الأسس التي قامت عليها “النظرية الأمنية الإسرائيلية” الشاملة، والتي تَحوُّلت خلال سنين طويلة من عمر الكيان إلى عقيدة غير موضوعية، وقد أكد عدد من الخبراء الاستراتيجيين في “إسرائيل ” أن هذه العوامل قد أدخلت الكيان الصهيوني فيما أٌطلق عليه مرحلة من “الهبوط والانحطاط الاستراتيجي” على مستوى “الأمن القومي”، إذ ازداد الفشل المتكرر سياسياً وعسكرياً وضوحاً، وانسحب هذا الفشل على الوضعين الاقتصادي والاجتماعي داخل “الدولة” بشكل واضح وملموس.
وقد دفعت “إسرائيل” ثمناً باهظاً نتيجة ذلك الفشل، سواء على المستوى الاستراتيجي، أو على المستوى العملياتي، ولم يعد بإمكانها في كثير من الأحيان وضع خطط مسبقة، لمواجهة تحركات أمنية أو سياسية تستهدف أمنها واستقرارها.
فقدان المبادرة
وإزاء تمسكها بالمفهوم القديم للأمن القومي ومبادئه، فقدت “دولة” الاحتلال القدرة على المبادرة في كثير من المجالات، وأصبحت مرتهنة لمبدأ رد الفعل في وجه التهديدات التي طرأت نهاية العقد الرابع لقيامها، فعلى سبيل المثال، وجدت المنظومة الأمنية والعسكرية الإسرائيلية نفسها في مواجهة “الانتفاضة الفلسطينية الأولى ” في العام 1987 في الأراضي المحتلة، من دون أن يكون لديها خطة أمنية مسبقة تواجه ذلك المستجد على نطاق واسع، ولم يكن لديها أيضاً خطة محكمة لمواجهة سلسلة طويلة من الهجمات الاستشهادية، والتي بلغت أكثر من 800 عملية من بداية التسعينيات حتى العام 2008 تقريباً، تلك العمليات التي ضربت عمق “المدن الصهيونية” مخلّفة مئات القتلى وآلاف الجرحى من الجنود والمستوطنين الصهاينة، مع عدم إغفال الفشل الإسرائيلي أيضاً في مواجهة صواريخ المقاومة التي بات بإمكانها استهداف أي بقعة جغرافية داخل حدود فلسطين التاريخية، وكذلك عمليات خطف الجنود، إضافة إلى عدم تمكّن “إسرائيل” من التنبّه لكثير من المتغيّرات والتطورات الإقليمية كالتي جرت في لبنان مثلاً، وما صاحبها من بروز قوى مقاومة مؤثرة ومهمة على غرار ” حزب الله “، الذي بات يشكّل تحدّياً من العيار الثقيل لـ”دولة” الاحتلال، وبات حسب كثير من الخبراء العسكريين يشكل قوة إقليمية لا يُستهان بها، وغير ذلك الكثير من المتغيّرات التي طرأت، وأظهرت بما لا يدع مجالاً للشك في أن ” نظرية الأمن الإسرائيلية ” قد عفا عليها الزمن، وأصبحت عاجزة عن مواكبة سيل من التطورات المهمة والمؤثرة.
في الجزء الثاني سنحاول الإشارة إلى تآكل قوة الردع الإسرائيلية، والعوامل التي ساهمت في ذلك، وكذلك سنشير إلى جملة من التحديات التي ستواجهها “إسرائيل ” خلال المرحلة المقبلة والتي من المتوقع أن تكون حاسمة!