الأزمة الأوكرانية بوابة روسيا إلى القطبية الدولية أو … التراجع !
موقع العهد الإخباري-
علي عبادي:
تجاوزت الأزمة الاوكرانية المتفجرة على نحو متقطع منذ عام 2014 حدودها الإقليمية لتكون حدثاً دولياً بامتياز. لكن خيار الحرب دونه حسابات وأكلاف، وتجنبها يحتاج الى تنازلات غير متوفرة حتى الآن.
منذ أسابيع، ينشغل العالم بتدفق الأخبار التي تبثها مصادر غربية، أميركية وبريطانية خاصة، عن توقعات بـ”غزو” روسي لأراضي أوكرانيا. حددت هذه المصادر توقيت الغزو يوم الثلاثاء 15 شباط/ فبراير، وحددت كذلك ملامح الهجوم وهدفه النهائي بالوصول الى العاصمة كييف. مضى الموعد بدون حصول الغزو المزعوم، لكن المسؤولين الأميركيين يواصلون إطلاق التصريحات التي تتنبأ بهجوم وشيك على أوكرانيا. ويصاحب ذلك تعبئة سياسية كبرى تتولاها الإدارة الأميركية ضد روسيا، ملوحة بعقوبات شديدة في حال قامت الأخيرة بالهجوم على أوكرانيا. لكن الرئيس الأميركي كان واضحاً في تأكيد أنه لن يرسل قوات إلى الميدان الأوكراني حتى من أجل إجلاء أمريكيين، في حال حصول غزو روسي للبلاد. واعتبر أن الأمر سيكون بمثابة “حرب عالمية عندما يبدأ الأمريكيون والروس بإطلاق النار على بعضهم”.
لا شك أن ما يجري على حدود أوكرانيا مع روسيا حدثٌ كبير يؤشر الى استعادة اجواء الحرب الباردة على إيقاع ساخن. وتنبع جذور الأزمة الحالية من عناصر عدة تجعل التلاقي بين الجانبين المتواجهَين أمراً صعباً. نظرة الى مواقف أميركا وروسيا توضح خلفيات ما يجري وما الذي دفع الى التصعيد مؤخرا.
روسيا واستعادة المكانة الدولية
تعبّر موسكو بصراحة عن المطالبة بالحصول على ضمانات أمنية من حلف الناتو تتضمن:
ـ أولاً: عدم توسع حلف الناتو شرقاً على حساب أوكرانيا وأي دول أخرى.
ـ ثانياً: التزامات بعدم نشر الصواريخ الأمريكية الجديدة متوسطة وقصيرة المدى في أوروبا.
ـ ثالثاً: الحد من الأنشطة العسكرية في أوروبا “واستبعاد زيادة ما يسمى بمجموعات قوات المرابطة الأمامية”، على حد تعبير وزارة الدفاع الروسية.
وخلف الضمانات التي تطالب بها موسكو دوافع جيوسياسية هامة تتمثل برغبتها في تعظيم حضورها الدولي وتوسيع نفوذها وكلمتها في المناطق التي كانت تشكل جزءأ من الاتحاد السوفياتي وأيضا في شرقي أوروبا. ويلاحظ هنا أن روسيا ترجمت مؤخراً نزعتها ما وراء الحدود بإرسال قوات الى عدد من الجمهوريات السوفياتية السابقة التي شهدت أحداثاً أمنية أو عسكرية، ومنها كازاخستان التي واجهت اضطرابات داخلية، وأرمينيا لوقف الهجوم الأذربيجاني المدعوم من تركيا. كما تدخلت من قبل في أبخازيا وأوسيتيا الجنوبية اللتين كانتا جزءاً من جورجيا قبل إعلان استقلالهما عنها، وشبه جزيرة القرم التي كانت جزءاً من اوكرانيا. وقوّى حضور روسيا في سوريا عام 2015 موقعها الدولي على نحو غير مسبوق.
ترى روسيا، التي استشعرت عودة الضغوط الأميركية بعد انتهاء عهد ترامب المتساهل نسبياً مع موسكو، أن الوقت حان للضغط على الولايات المتحدة لمراجعة سياساتها في توسعة حلف الناتو الى حدود روسيا، ومن ثم الإعتراف بوزنها الدولي في ما يمكن اعتباره شراكة. ويلاحَظ في الخطاب السياسي الروسي استخدام تعبير “شركائنا الأميركيين” بشكل منتظم، مما يشي بأن موسكو تريد اعترافاً أميركياً باستعادة هذه الشراكة التي كانت قائمة أيام الاتحاد السوفياتي من موقع الندية. وتستند روسيا في هذا الطموح الى مراكمتها قدرات عسكرية استراتيجية، والى حضور مؤثر في مناطق أزمات عدة، كما تحتفظ بأوراق اقتصادية قوية مع اوروبا ليس أقلها إمدادات الغاز اليها. كذلك، عززت موسكو علاقاتها مع الصين في الآونة الأخيرة لتأمين سند لها في مواجهة الولايات المتحدة.
ولطالما كانت المكانة واستعادة هيبة الدول الكبرى أو المؤثرة سبباً لتفجُّر نزاعات في التاريخ، وروسيا واحدة من الدول المعاصرة التي تنشد استعادة أمجاد لها والإضطلاع بدور قيادي على المستوى العالمي، متسلحة بتراث قيصري وسوفياتي وقدرات عسكرية نووية وتقليدية وطموح رئيسها النشط فلاديمير بوتين، برغم أن قدراتها الإقتصادية لا تسعفها ـ على غرار قدرات الصين واميركا ـ في توفير غطاء واسع لحركتها على المسرح الدولي.
أميركا: المواجهة بالأوكران والأوروبيين
ردّت واشنطن على المطالب الأمنية الروسية بالرفض. بل يمكن القول إن المسؤولين الاميركيين تعمّدوا إحراج ـ إن لم نقل إستدراج ـ روسيا الى مبارزة مفتوحة لن تشارك فيها واشنطن، بل ستخوضها عبر الأوكران وبجانبهم أوروبا. فقد تم إرسال أسلحة وخبراء عسكريين لتعزيز الدفاعات الأوكرانية الخلفية، وسط رهان على ان القوات الروسية ستغرق في رمال أوكرانيا، حتى لو تمت لها السيطرة السريعة في المرحلة الأولى على أراضي هذه الدولة. ويبدو أن موسكو إستشعرت الحسابات الغربية ومنحت المساعي السياسية وقتاً إضافياً. لكن واشنطن قررت ركل السلّم أسفل الشجرة التي صعد اليها الرئيس الروسي.
ويتضح أن الولايات المتحدة التي تتوحد تقليدياً في مواجهة روسيا لا تريد منح الأخيرة الإعتراف بدور لها دولياً، وخاصة بوصفها قطباً لا غنى عنه، بل وتظهر نوعاً من اللاتقدير للرئيس الروسي، ولا تفوّت مناسبة إلا وتندد بطريقته في إدارة شؤون بلاده، ولطالما سعت الى تحقيق اختراقات داخل روسيا يوسائل عدة وانتزاع حلفائها الإقليميين منها واحداً بعد آخر. وهي بعد إنجاز ملامح اتفاق نووي مع ايران، تسعى الى محاصرة الدور الروسي المتعاظم، قبل أن تتفرغ للمواجهة الكبرى مع الصين بوصفها المنافس الأول للولايات المتحدة. وبهذا تُرتب واشنطن أوراقها في التعامل مع القوى الثلاث التي ترى أنها تتحدى نفوذها على الصعيد الدولي. وقد تمكنت الإدارة الأميركية، من خلال تصعيد النزاع مع روسيا في اوكرانيا ورفضها تقديم أية تنازلات أو ضمانات امنية لها، من إعادة تحشيد الحلفاء الأوروبيين خلفها في مواجهة “الخطر الروسي” في ما يشبه حرباً باردة جديدة تستنزف فيها روسيا وتُعقّد علاقاتها مع شركائها الأوروبيين، كما تطمح الى الحلول محل روسيا في تزويد أوروبا بالغاز. وسيكون للنزال غير المباشر مع روسيا أثر على صراع أميركا مع الصين، بصرف النظر عن نتيجة هذا النزال.
خيارات صعبة
والآن بعدما وصل الإشتباك الروسي ـ الاميركي في أوكرانيا الى طريق مسدود، تبقى مخارج عدة أمام موسكو:
ـ خيار الحد الأقصى: القيام بتوجيه ضربة قوية لأوكرانيا من شأنها أن تغير الموازين فيها وتشلّ إمكانية أي التحاق لها مستقبلاً بحلف الناتو، كما توجه رسالة رادعة لمن خلفها في اوروبا بما فيها دول البلطيق وبولندا التي تسهل انتشار قوات الحلف وصواريخه في وجه روسيا.
ـ خيار أقل تكلفة: الإستمرار في التصعيد الميداني من دون اللجوء الى القيام بهجوم مباشر، بهدف استنزاف أوكرانيا سياسياً وأمنياً واقتصادياً وهي التي تعيش مناخ حرب وهربت منها الإستثمارات، ومن ثم استدراج تحرك أوروبي طلباً لاتفاق سياسي.
ـ خيار الحد الأدنى: الإعتراف رسمياً بجمهوريتي دونيتسك ولوغانسك اللتين اعلنتا من جانب واحد انفصالهما عن اوكرانيا عام 2014 بدعم روسي.
غير ان الخيارين الثاني والثالث غير مضمونَي النتائج من ناحية استراتيجية بعيدة المدى في ضوء التصلب الأميركي، في حين ان الخيار الأول قد يحمل ـ في حال نجاحه ـ مكاسب فورية، لكنه سيؤدي في المقابل الى توجيه ضربة لاستراتيجية الكرملين التي تقوم على إبعاد أوروبا، ولاسيما ألمانيا وفرنسا، عن الولايات المتحدة. وفي حال قررت روسيا اللجوء الى الخيار العسكري البري، سيكون عليها أن تفعل ذلك عاجلاً قبل ذوبان الجليد بدءاً من شهر آذار وتحوّل سهول أوكرانيا الى أراض طينية يصعب فيها التحرك على الآليات الروسية. وسيتوقف على الخطوات الروسية والأميركية التالية تقرير مسار المواجهة بين الطرفين. بيدَ أن طموح روسيا الى احتلال موقع متقدم في عالم الأقطاب التعدّدي سيرتبط بحصيلة أدائها في الازمة الأوكرانية الحالية التي تُعدّ تحدياً جدياً لهيبتها ومكانتها أمام أميركا وأوروبا.